بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾[1].
من جملة الامتحانات الإلهية لفئة من العباد الذين تابوا مما كانوا فيه من الاعتقادات الفاسدة وفعل الموبقات وارتكاب لذنوب استدراجهم من خلال النعم لذا قال تعالى:
﴿فَلَمّا نَسُوا..﴾، انهماكهم في الشهوات لذلك ﴿ما ذُكِّرُوا﴾، ووعظوا ﴿بِهِ﴾، من البلايا اللاتي كانت، أخذهم بها لأجل اتعاضهم بها وتوبتهم من الشرك والمعاصي، استدرجناهم بأن هنا ﴿فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْء﴾، من جميع الجهات تستغرق كلّ أبواب البلاء بالنعم دولة ودولة، جاها ومالا وعرضا ظاهرا في عرضه العريض من المنافع التي كانت مغلقة عنهم، وكثرنا عليهم النعم من الصحة والقوة والسعة، وهم في خضمّ معاصيهم بظنونهم على شيء فالله يثيبهم على معاصيهم ويفتح عليهم رحمته في مآسيهم ﴿حَتّٰى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا﴾، وغمرتهم الخيرات والأرزاق المتدفقة واستغرقوا في متاعها بلا شكر ولا ذكر، فازدادوا عصيانا وطغيانا ﴿أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً﴾، وفجأة حيث كان أخذهم على غرّة في سكرتهم يعمهون اخذناهم بعذاب الاستئصال، قيل: إن عذاب الاستدراج أشد، لكون التحسر فيه أشد.
وفي الحديث: عَنْ سُفْيَانَ بْنِ اَلسِّمْطِ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اَللهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ((إِنَّ اَللهَ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً فَأَذْنَبَ ذَنْباً تَبِعَهُ بِنَقِمَةٍ وَيُذَكِّرُهُ اَلاِسْتِغْفَارَ وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرّاً فَأَذْنَبَ ذَنْباً تَبِعَهُ بِنِعْمَةٍ لِيُنْسِيَهُ اَلاِسْتِغْفَارَ وَيَتَمَادَى بِهَا وَهُوَ قَوْلُ اَللهِ تَعَالَى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ بِالنِّعَمِ عِنْدَ اَلْمَعَاصِي))[2].
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ اَلْفُضَيْلِ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: ((سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عَنْ قَوْلِ اَللهِ: ﴿فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ﴾، يَعْنِي فَلَمَّا تَرَكُوا وَلاَيَةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وَقَدْ أُمِرُوا بِهِ ﴿فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾، يَعْنِي دَوْلَتَهُمْ فِي اَلدُّنْيَا وَمَا بُسِطَ لَهُمْ فِيهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿حَتّٰى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾، يَعْنِي بِذَلِكَ قِيَامَ اَلْقَائِمِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سُلْطَانٌ قَطُّ))[3].
وقيل: إن المقصود أنه تعالى عاملهم بتسليط المكاره والشدائد عليهم تارة، فلم ينتفعوا به، فنقلهم من تلك الحالة إلى ضدها وهو فتح أبواب الخيرات عليهم، وتسهيل موجبات المسرات والسعادات لديهم، فلم ينتفعوا [به] أيضا، وهذا كما يفعله الأب الشفيق بولده، يخاشنه تارة، ويلاطفه اخرى طلبا لصلاحه.
﴿فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾، جائرون منقطعو الرجاء عن كلّ خير، عاجزون عن التفكر في أي اتجاه، شديدو اليأس من معترض الحزن بأشده، ترحا بالغا بعد فرح بالغ. أجل، وفتح أبواب كلّ شيء على الّذين نسوا ما ذكروا به هو في الحق سدّ لأبواب كلّ شيء، حيث النّعمة تبدل عندهم نقمة ونعمة بما نسوا الله فأنساهم أنفسهم وهم لا يشعرون. فهذه ضفّة أمام نعم الله المتواترة استدراجا فاستئصالا، تواجهها ضفّة الإيمان الموعودة بنعم الرحيم الرحمن وذلك قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[4]، فالبركات هنا وهناك في الصورة الظاهرة المادية مثل بعضها البعض، ولكنها للمعرضين عن الله دركات، ولأهل الله بركات فوق بركات ﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾[5].
﴿فَتَحْنا عَلَيْهِمْ﴾، كلّ الأبواب المغلقة عليهم من زخرف الحياة الدنيا ﴿حَتّٰى إِذا فَرِحُوا﴾، حيث ظنوا أن الّذي نزل عليهم من البأساء والضراء ما كان انتقاما منهم، إذ بدل الله بهما أن فتح عليهم أبواب نعمه التي كانوا يبتغونها ولا يصلون إليها.
﴿فَقُطِعَ دابِرُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾، تبّا بتّا ﴿واَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ﴾، كيف يداريهم ويجاريهم ولا يماريهم حتّى إذا لم تبق فيهم نافذة خير ﴿أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾، آيسون من كلّ خير.
﴿واَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ﴾، على ما أبلاهم وابتلاهم، وأبرز مكنونهم فأفناهم، وخلّص دعاة الحق عن بأسهم، ففلّسهم على بؤسهم، فتعسا للقوم الكافرين.
[1] سورة الأنعام، الآية: 44.
[2] مجموعة ورّام، ج 2، ص 160.
[3] تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 718.
[4] سورة الأعراف، الآية: 96.
[5] سورة فاطر، الآية: 14.