بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾[1].
﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾، في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله كان قوم يقولون: ما بعث الله بشراً رسولاً، وقولهم هذا للعناد واللجاجة.
ففي هذه الآية الشريفة يتحدث الباري عز وجل عن جانب جديد من سلوك المنحرفين، ألا وهو إنكارهم نزول الرسالات على البشر. لقد كانوا قبلا في سورة الأنعام ينكرون رسالة محمد صلى الله عليه وآله، ويتهمون الرسالة بالأساطير، ويستعينون بالكتابيين في نكران رسالة الإسلام.
أما الآن فينكرون نزول الرسالات على البشر أساسا، وها هو النص يقدّم نموذجا من الحقائق التي تدمغ أمثلة هذا الادعاء ونعني به قولهم: ﴿مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾؟
ويجيبهم النص بقوله: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى﴾.
هذه الإجابة لها أهميتها الفنية الكبيرة من زوايا متنوعة بخاصة فيما يتصل بالبناء الهندسي للسورة، حيث لحظنا في مقطع أسبق أن هؤلاء المنحرفين (أي المشركين) ينكرون رسالة محمد صلى الله عليه وآله من خلال الركون إلى أقوال الكتابيين في زعمهم القائل بأنهم سألوا الكتابيين عن أوصاف محمد صلى الله عليه وآله في كتبهم فأنكروا وجود ذكر له صلى الله عليه وآله. وهذا يعني أن المشركين قد أقرّوا بنزول رسالات سابقة.
وفيه إيحاء بأنّ المخاطبين في الآية هم اليهود؛ لأنّ هذا السؤال إنّما يتّجه لمن يعترف بالتوراة ونبوّة موسى، والآن ينكرون نزول الرسالات أساسا، أليس هذا الإنكار مضادا لإقرارهم سابقا بنزول الرسالات؟ لذلك جاء هذا المقطع الذي نتحدث عنه الآن، مذكّرا إيّاهم بالحقيقة التالية: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى﴾. إذا، هذه الإجابة تدمغ المنحرفين وتجعل إنكارهم لنزول الرسالات أمرا لا قيمة له ما دام إنكارهم يتناقض مع ادعاءاتهم كما هو واضح.
بعد ذلك، يتقدّم النصّ، إلى عرض الأسباب الكامنة وراء ذلك فيقول: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾.
إن الكتابيين وهم يساهمون مع المشركين في مناهضتهم لرسالة الإسلام يظهرون من كتبهم شيئا ويخفون منها شيئا آخر، ومما يخفونه هو عدم إبراز الإشارة إلى رسالة الإسلام التي بشّرت بها كتبهم، أو أنهم أبرزوا ذلك، لكنّ المشركين إمعانا في الإنكار يتجاهلون هذه الحقيقة.
وقد ورد عَنْ عَبْدِ اَللهِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اَللهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَنْ قَوْلِ اَللهِ تَعَالَى: ((قُلْ مَنْ أَنْزَلَ اَلْكِتابَ اَلَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وهُدىً لِلنّٰاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها قَالَ كَانُوا يَكْتُمُونَ مَا شَاءُوا ويُبْدُونَ مَا شَاءُوا)).
فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: ((كَانُوا يَكْتُبُونَهُ فِي اَلْقَرَاطِيسِ ثُمَّ يُبْدُونَ مَا شَاءُوا ويُخْفُونَ مَا شَاءُوا وقَالَ كُلُّ كِتَابٍ أُنْزِلَ فَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ اَلْعِلْمِ))[2].
وفي الحالين سواء أكان الكتابيون (اليهود منهم بخاصة) هم الذين تعنيهم هذه الآية أو كان المشركون هم المعنيّين فإنّ إنكارهم لنزول الرسالات أساسا يظل أمرا لا قيمة له ما دام متناقضا مع ادعاءاتهم ذاتها كما لحظنا.
﴿وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ﴾، فتقرأون في التوراة صفة محمّد صلى الله عليه وآله قبل مبعثه ولا تعرفونه بالتفصيل، ولمّا بعثه الله وعرفتموه بالتفصيل حرّفتم ذلك عناداً.
بعد ذلك عقّب النص على هذا النمط من سلوك المنحرفين في قيامه على المكابرة والجحود قائلا: ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾. هذا التعقيب يتضمّن بدوره سمة فنية لها أهميتها في صياغة الموقف، فقد نسبهم إلى الخوض في الباطل واللّعب، مما يعني أنّ ادعاءاتهم تقوم على مجرّد العناد واللعب بالحقائق، ومن ثم لا قيمة البتة لإنكارهم نزول الرسالة على محمد صلى الله عليه وآله.
[1] سورة الأنعام، الآية: 91.
[2] بحار الأنوار، ج 9، ص 206.