حين تكون الأم ظالمة… جرحٌ صامت لا يراه أحد
ليس من السهل على أحدٍ أن ينطق بهذه العبارة: «أمي ظلمتني.» فالأمّ في وعينا الجمعي هي المأوى، هي الحنان المطلق، هي الملجأ الذي نلوذ به حين تشتدّ علينا الحياة. لكن ماذا لو كان هذا الملجأ هو أوّل من قسَا؟ ماذا لو امتدَّت يد الأم لتصفع طفلاً لا ذنب له سوى أنّه وُلد في قلبٍ مثقلٍ بهمومٍ لم يجد لها متنفسًا غير جسده الصغير؟
هناك أبناء كُثُر يحملون في ذاكرتهم طفولةً يملؤها الألم: أمّ كانت تضربهم بلا ذنب، تجرح كرامتهم أمام إخوتهم وأقاربهم، تفرّغ فيهم قسوةً لا يفهمون سرّها، وتُلبِسها لباس التربية أو الحرص أو الحب.
يستيقظ بعضهم على صوت صفعةٍ أيقظته من نومٍ بريء، أو على شتيمةٍ تحرق قلبه الصغير. يكبر وهو يضحك في وجه الناس ويبتسم لأمه في العلن، لكنه في السرّ يبكي في روحه كلّما تذكّر كيف كان يضرب بلا سبب، وكيف صار أضحوكةً أمام من شاهده ضعيفًا مكسورًا تحت يدٍ كان يفترض أن تكون حامية لا مؤذية.
إن التربية الخاطئة جريمةُ جهلٍ تتكرّر عبر الأجيال. أمهات كثيرات تعلّمن من أمهاتهنّ أن الضرب وسيلة تأديب، وأن الصراخ وسيلة ضبط، وأن الإهانة طريقةٌ لصنع إنسان «مهذّب». وما علمْنَ أنهنّ يصنعن جيلًا هشًّا، مليئًا بالكسور الداخلية التي لا تُرى. جيلًا قد يغفر ويبتسم، لكنه يتألّم سرًّا ويكتم دموعه خشية أن يُتّهم بالعقوق أو قلة الوفاء.
إنّ أصعب أنواع الظلم هو الظلم الذي يأتي من أقرب الناس. فلا قانون يحميك منه، ولا أحد يصدّقك حين تشكو. بل قد تُتهم أنت بأنك ابنٌ عاقّ، أو ناكرٌ للجميل، فقط لأنك حاولت أن تقول الحقيقة: «لقد ظُلمت.»
لكنّ الاعتراف بالوجع ليس عقوقًا. إنّه محاولة شجاعة لفهم الذات، والتصالح مع الماضي، وقطع حلقة القسوة حتى لا نعيدها نحن مع من نحبّ. فمن ذاق مرارة الضرب والذلّ ظلمًا، عليه أن يقسم سرًّا: «أنا لن أكون ظالمًا مثلهم.»
هذه هي البطولة: أن لا يورّث المجروحُ جراحه لأحد.
يا من حملت في قلبك ذكرى الصفعات والدموع: أنت لم تكن مذنبًا. لم تكن تستحق الضرب ولا الإهانة. أنت فقط كنت ضحية جهلٍ وسوء فهم، وربما ضحية ألمٍ لم تجد والدتك سبيلًا لتفريغه إلا فيك.
إن استطعت، سامحها… سامحها إن كانت حيّةً أو ميّتةً، لكن لا تُسامح الخطأ نفسه. احمل الوعي واجعل منه سياجًا يحمي أبناءك ومن تحبّ. اجعل يدك يدَ حنانٍ فقط. اجعل بيتك ملجأ أمانٍ حقيقي، لا نسخةً أخرى من الخوف.
وأخيرًا… إن كنت تشعر أن هذا الماضي يحاصرك إلى اليوم، فلا بأس أن تطلب المساعدة. تحدث، اكتب، ابكِ، صلّ، ادعُ لها إن أردت، أو اخبرها – في خيالك – كم كسرتك. هذه ليست شكوى عقوق، بل شفاء إنسانٍ يريد أن يتصالح مع طفله الداخلي.
لعلنا إذ نعترف بظلمٍ صامتٍ عشناه، نمنح قلوبنا إذنًا أخيرًا بالتعافي… فليس أقسى من ألمٍ مدفون، إلا صمتٌ يُمدّد عُمره.