بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾[1].
﴿النَّسِيءُ﴾،هو التأخير وذلك مأخوذ من: نسأ الإبل عن الحوض، إذا أخّرها عنه. فتأخير الأشهر الحرم عن مواقيتها التي رتّبها الله سبحانه عليها هو زيادة في كفر المشركين الّذين يفعلون ذلك. وقد كانوا يفعلونه لأنهم كانوا أهل غزو وغارات، وكانوا يتضايقون من بقاء ثلاثة أشهر متوالية دون غزو فيلجؤون إلى تأخير تحريم المحرّم إلى صفر فيحرّمونه بدل المحرّم ويستحلّون الغزو في المحرّم، وهنا تتلاعب الأهواء ويقوم من يفتي باستحلال أحد الأشهر الحرم عن طريق تأخيره في عام وتقديمه في آخر، فطالما عديد الأشهر الحرم يبقى أربعة ولكن أعيانها كانت تتبدل بتبديل الأسماء في ذلك النسيء التأخير.
(وبعبارة اخرى) تبديل الحكم الثابت لموضوع، وجعله في الموضوع الاخر، فاذا كان القتال في المحرم حراما، وقد هيأ اسبابهم للمقاتلة فيه أي المحرم فيقاتلون فيه بلحاظ أنا نؤخر زمان التحريم ونجعل في هذه السنة، شهر صفر بدل المحرم ولا نقاتل فيه، وذلك التأخير الذي هو تبديل موضوع الحكم حقيقة اشتداد في كفرهم، فإنهم قد كانوا على طريقتهم آخذين بذلك الحكم، ويرون أن القتال في أشهر الحرم يكون محرما وحكم الله ايضا ذلك.
ولقد كان في العام التاسع من الهجرة رجب الحقيقي غير رجب، وذو الحجة غير ذي الحجة، فرجب واطئ جمادي الآخرة وذو الحجة واطئ ذو القعدة، وكان نفر الجهاد فعلا في جمادي الآخرة واقعا وفي رجب مختلفا، فرشقت سهام هذه النصوص على تلك الجاهلية الحائرة المائرة إبطالا للنسيء عن بكرته حيث كان خلاف سنة التكوين والتشريع ﴿لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ﴾. ولقد زاد هذا الكفر ركاما على جاهلية الإشراك فأصبح ﴿زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾، حيث كانوا ﴿يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا﴾، كأنهم هم المشرعون أمام اللّٰه، والقصد من تراوح التحليل والتحريم ﴿لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ﴾، فيه القتال ﴿فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ﴾، بذلك النسيء. فقد جمعوا إلى تحويل موضوع التحريم بذلك النسيء أصل التحليل والتحريم به، احتيالا حائلا عن تحليل اللّٰه وتحريمه، ولذلك استحقوا ذلك التنديد الشديد المديد. وليسوا هم فحسب، هكذا كل المحتالين في الأحكام والموضوعات الشرعية تسميته لها بالحيل الشرعية، ولا حيلة للشرع في تحليل ما حرم أم تحريم ما حلّل، وإنما الحيلة لهذه الأغباش الأنكاد الذين ينسبون حيلهم المحرمة إلى الشرع نفسه استرواحا في جريمتهم البشعة المتصورة بصورة الفتوى، أو العملية الشرعية مثل الحيل المختلقة في حقل الربا وما أشبه، هزء سافرا بأحكام اللّٰه! والنسيء الكافر على نوعين، أحدهما احتساب الأشهر حسب سير الشمس، وثانيهما تناسي بعض الأشهر في العدّ وتسمية البعض باسم الآخر إنساء قاصدا ليواطئوا عدة ما حرم اللّٰه. وهكذا ﴿زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ﴾، حيث زين لهم الشيطان أعمالهم وكانوا مستبصرين كما وزين اللّٰه جزاء وفاقا أن لم يصد الشيطان عن ذلك التزيين.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ «رَحِمَهُ اَللهُ»: فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: [﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ ..﴾، فَإِنَّهُ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ رَجُلاً مِنْ كِنَانَةَ كَانَ يَقِفُ فِي اَلْمَوَاسِمِ فَيَقُولُ: قَدْ أَحْلَلْتُ دِمَاءَ اَلْمُحِلَّيْنِ طَيٍّ وَخَثْعَمٍ فِي شَهْرِ اَلْمُحَرَّمِ وَأَنْسَأْتُهُ وَحَرَّمْتُ بَدَلَهُ صَفَرَ، فَإِذَا كَانَ اَلْعَامُ اَلْقَابِلُ يَقُولُ: قَدْ أَحْلَلْتُ صَفَراً وَأَنْسَأْتُهُ وَحَرَّمْتُ بَدَلَهُ شَهْرَ اَلْمُحَرَّمِ، فَأَنْزَلَ اَللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ﴾][2].
ثم يذم المؤمنين بأن علة بطؤكم وتثاقلكم أي شيء؟ ولم إذا قيل لكم اخرجوا الى الجهاد تتأملون وتثاقلون؟ أأخذتم الدنيا بدل الاخرة مع قلتها في جنب الاخرة، وإن لم تخرجوا يعذبكم الله، ويأتي بطائفة اخرى عوضا عنكم ولا يصل الضرر الى الله، بل الضرر عليكم، فإن الله، قادر على شيء من تعذيبكم وتبديل الغير عنكم.
[1] سورة التوبة، الآية: 37.
[2] بحار الأنوار، ج 9، ص 211.