اللهم صل على محمد وآل محمد
قال تعالى : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَارا فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰت لَّا يُبْصِرُونَ صُمُّ بُكْمٌ عُمْي فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيِّب مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰت وَرَعْد وَبَرْق يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلْكَٰفِرِينَ يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْۚ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْء قَدِير. (البقرة: 17–20)
بعد أن كشف القرآن وجوه المنافقين في أقوالهم وأفعالهم، انتقل إلى لغة المَثَل، حيث تنقشع الحقائق بالصورة الحية والخيال الناطق. فضُرب لهم مَثَلان يختزلان مصيرهم في لوحتين بالغتي الدقة.
المثل الأول: نار منطفئة :
﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَارا فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰت لَّا يُبْصِرُونَ﴾.
المنافق هنا كإنسان أضناه التعب في ليلة مدلهمة يبحث عن نور يستضيء به. وحين أشعل نارًا وأضاءت ما حوله، تنفّس قليلًا واطمأن. لكن فجأةً ينطفئ النور، وتعود الظلمة أثقل وأشد. في تلك اللحظة يعيش حيرة قاسية وصدمة نفسية مرعبة، إذ تتلاشى الطمأنينة وتغشاه وحشة العمى.
وهكذا نجد المنافق فإن كلمة الإيمان التي نطق بها منحتْه حماية ظاهرية — عصمت له دمه وماله — لكنها لم تكن نورًا في قلبه. فإذا مات، انطفأت تلك الشعلة، وانكشف زيفه، فعاد إلى ظلمة النفاق التي لا خلاص منها إلا بعذاب الله.
ثم يصفهم القرآن بدقة: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾. آلات السمع والكلام والبصر موجودة، لكن معطّلة. لا يسمعون الحق ليستجيبوا، لا ينطقون به لينصروه، لا يبصرون به ليعتبروا. لقد شلّوا حواسهم عن وظائفها، فصاروا في حكم العدم. ولذلك لا رجوع لهم، لا إلى هدى باعوه، ولا إلى حق أنكروه، ولا إلى طريق هجروه.
المثل الثاني: مطر عاصف:
﴿أَوْ كَصَيِّب مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰت وَرَعْد وَبَرْق يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُ بِٱلْكَٰفِرِينَ﴾.
إنه مشهد مطر شديد في ليل مظلم، تتخلله غيوم كثيفة، ورعد قاصف، وبرق لامع، وصواعق مخيفة. صورة الاضطراب والفزع. هؤلاء المنافقون لا يملكون ثباتًا، إذا دوّت صاعقة سدّوا آذانهم خوفًا من الموت، كالأطفال الذين يتوهمون أن إغلاق السمع يقيهم الخطر. وهم غافلون أن الله محيط بهم، قادر على أن يأخذهم في لحظة.
ثم يكتمل المشهد: ﴿يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ﴾. إيمانهم كخطوات مرتبكة بين ومضة وظلمة، لحظة انبهار يتبعها توقف، حركة عابرة تليها حيرة قاتلة. لا ثبات ولا استقرار، إنما قلق دائم كمن يمشي في عاصفة.
ويختم الله المثل بكلمة حاسمة: ﴿وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْء قَدِير﴾. إن بقاء سمعهم وبصرهم ليس دليل نجاة، وإنما إمهال. فالقدرة المطلقة بيد الله، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
النتيجة :
القرآن يرسم لوحتين المنافقين
الأولى: ظلمة بعد نور، وحيرة بعد طمأنينة.
الثانية: اضطراب بين ومضة وظلمة، وخوف دائم لا سكينة فيه.
والجامع بينهما: فقدان الاستقرار الروحي. فالمؤمن نورُه ثابت لا ينطفئ، والكافر ظلامه كامل لا يختلط، أما المنافق فبين بين ، نجده يتقلب بين شعلة زائفة وعاصفة خانقة، فلا هو استنار حقًا ولا استراح باطلًا.
ايها العزيز :
فلنتوقف لحظة أمام هذه المرايا القرآنية :
أين نحن منها؟
أفي صفّ المؤمنين الذين يضيئون بذكر الله فلا تنطفئ مصابيحهم، أم في زمرة المنافقين الذين يتأرجحون بين ومضة وظلمة، خطوة وتوقف، رعب وطمأنينة زائفة؟
إنها دعوة لنا أن نراجع قلوبنا: هل إيماننا نور ثابت يهدينا في ظلمات الحياة، أم شعلة عابرة قد تخبو مع أول ريح؟
وهل نسير بثبات مع برق القرآن وبرهانه، أم نتعثر كلما غشيتنا غيوم الشهوة والهوى؟
إن القرآن لا يقص هذه الأمثال لمجرد البيان، بل لينذر القلوب الحية، ويوقظ الضمائر الغافلة. فمن شاء النجاة فليعضَّ على نور الإيمان بالنواجذ، وليستمسك بحبل الله المتين، قبل أن يخطف البرق بصره أو تنطفئ النار من حوله، فيبقى وحيدًا في ظلمات لا خلاص منها.
------------
منقول