بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾[1].
اتجه المنافقون إلى بناء أحد المساجد إضرارا بالإسلاميين وتفريقا لهم، وقد يتساءل ما هي خطورة بناء مثل هذا المسجد وانعكاساته على الإسلاميين، وما هي دلالاته بالنسبة إلى المنافقين أنفسهم؟؟ أما بالنسبة إلى الإسلاميين، فقد استهدف منه ضرارا وتفريقا وإرصادا لهم.
وقد ذكر المفسّرون أن المنافقين قد استهدفوا من ذلك أن يستقلوا بأنفسهم وإلاّ يحضروا جماعة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) حيث طلبوا منه أن يصلّي فيه حيث تتفرّق جماعته وتقلّ خطورتهم في أعين النّاس، ومن هذا نفهم أن عملية بناء المسجد كانت عملا سياسيا ينطوي على تخطيط خاصّ لمحاربة الإسلام.
بيد أن النتيجة كانت لغير صالحهم، حيث ان النص القرآني الكريم يتقدم برسم صورة فنية للتعبير عن فشل المهمة المذكورة دنيويا وأخرويّا بعد هذه الآية قائلا: ﴿أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾[2].
هذه الصورة الفنية ﴿شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾، فضلا عن انطوائها على قيم صوتية تتصل بالتجانس بينها وبين نتيجتها ﴿فَانْهَارَ بِهِ﴾، أي تجانس الأصوات (ف، ن، ه، ا، ر) ثم انطواء هذا التجانس الصوتي بين الجملتين ﴿شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾، و ﴿فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾، على تجانس فكري أيضا متمثلا في كون البناء القائم على جانب النهر إنما ينهار على نحو ما ينهار عمل القائمين به في نار جهنم.
وينبغي ألاّ يغيب عن أذهاننا هذا التوازن العماري في المقطع بين عمل الدنيا ونتيجته في الدار الآخرة، ففي الدنيا حيث ينهار المسجد سريعا فلا يتحقق الهدف المنحرف من بنائه، وبالفعل أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد نزول الوحي عليه بتهديم المسجد المذكور، وأما في الأخرى حيث ينهار وقتئذ هذا العمل بذهاب أصحابه إلى جهنم.
أما دلالات هذا العمل من حيث التعبير عن أعماق المنافقين، فيتحدد وفق ما أشار النص القرآني الكريم إليه، حينما أوضح بأنه: ﴿لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾[3]، كما أنه حينما أوضح بأن البناء المذكور كان ﴿ضِرَارًا﴾، و ﴿تَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، حينما أوضح ذلك كله إنما دلّنا على طبيعة الأعماق المنافقة التي يسمها طابع الاضطراب الشديد لديهم.
وسواء أكانت الريبة تعني الحزازة في النفس كما ذهب إلى ذلك بعض المعنيين بشؤون التفسير أو كانت ريبة فكرية نابعة من استبطان المنافقين غير ما يظهرونه كما ذهب إلى ذلك البعض الآخر، ففي الحالين ثمة عرض نفسي خطير هو تمزق النفس واضطرابها في غمرة الاهتمام بأمثلة هذا النشاط المنحرف الذي واكب بناء المسجد.
مضافا إلى ذلك فإن نزعة العدوان من حيث كونهم يمارسون عملا يستهدفون منه أساسا ﴿ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾، ثم قسمهم بالله ﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى﴾، كل أولئك أي النزعة العدائية التي تستهدف تفرقة الكلمة، ثم الحلف على عكس ما يستهدفونه تعبير عن أشد درجات الاضطراب في النفس.
إن مشاعر الكراهية وحدها كافية بأن تشطر الشخصية وتحتجزها من تذوّق الأمن والتوازن الداخلي، كما أن عملية الحلف بالله بأنهم لا يستهدفون إلا الخير مع أنهم يضطربون بلهيب الحقد والشر، إفصاح واضح عن أشد درجات التمزق الداخلي.
ولنا أن نتصور مدى التمزق الذي يطبع الشخصية وهي تضطرم حنينا إلى تحقيق نزعاتها العدائية ثم تمارس من جانب آخر عملية تبرئة لذاتها حيث تحلف بالله بأنها لم ترد إلا الحسنى مستهدفة بذلك تمرير نزعاتها الحاقدة أمام الإسلاميين الذين تخشاهم كل الخشية، متوجسة خيفة من أن يفتضح أمرها فتخسر الرهان مع أن نشاطها منصب أساسا على جرّ المنفعة.
حينئذ كم يبدو تمزّقها شديدا حيال الصراع العنيف الذي أشرنا إلى صدور الشخصية المنافقة عنه.
[1] سورة التوبة، الآية: 107.
[2] سورة التوبة، الآية: 109.
[3] سورة التوبة، الآية: 110.