بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد وآل محمد
كيف تكون صاحبَ بصيرة قبل أن تكون صاحبَ بصرٍ — أن يفكّر القلب قبل أن يقرّر العقل، وأن يرى الإنسان ما وراء الظاهر قبل أن يختار المسار.
ماذا نعني بـ«البصيرة»؟ ولماذا قبل البصر؟
البصيرة: نظر القلب وفهمه للحقيقة، وهي أعمق من مجرد قدرة العين على الرؤية. البصرُ يُعطيك صورةً من الخارج، أمّا البصيرة فتعطيك معنى الصورة، نتائجها، وما لو خفي وراءها من خداع أو اختبار.
قال الله سبحانه: ﴿قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ...﴾.
خطورة فقدان البصيرة
القرآن يبيّن أن الخطر ليس في فقدان النظر، بل في فقدان القلب البَصِير: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا... أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ — أي: من لا يفقه بقلبه يصبح ضالاً رغم عيونٍ ترى.
أقوال أهل البيت عليهم السلام عنُ البصيرة
أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يعرّف البصير بالعمل والتفكّر: «فإنّما البَصِيرُ مَن سمع فتفكّر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعِبَر...» — أي: من يحول السمع والنظر إلى فَهْم وعمل.
وأيضًا: «من اعتبر أبصر» — تأكيدٌ على أن الاعتبار (التأمل واستخلاص العبرة) هو أصل البصيرة.
ومن أدعية أهل البيت: دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام): «اللهم أعطني بصيرة في دينك، وفهما في حكمك، وفقها في علمك...» وهو نموذجٌ عمليّ لطلب بصيرةٍ هدىً من الله
كيف تكتسب البصيرة؟
أ ـ عبر التقوى
قال تعالى:
﴿إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال: 29].
الفرقان هنا هو البصيرة التي تميز بها بين الحق والباطل.
ب ـ عبر الذكر والارتباط بالله
الإمام الصادق (عليه السلام):
"مَن أكثرَ ذِكرَ الله أشرقَت بصيرته" (الكافي، ج2).
ج ـ عبر صحبة أهل الحق
الإمام علي (عليه السلام):
"النظر إلى وجه العالم حبًا له عبادة" (نهج البلاغة).
صحبة العلماء الربانيين تنير القلب وتبصّر العقل.
د ـ عبر الصبر والثبات
قال تعالى:
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24].
الصبر يولّد اليقين، واليقين هو عمق البصيرة.
نماذج من أصحاب البصيرة
سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام): خرج إلى كربلاء ببصيرة نافذة، قائلاً: "إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي"، فميّز طريق الحق من الباطل رغم كثرة المغرورين.
حبيب بن مظاهر، مسلم بن عوسجة، وأصحاب الحسين (عليهم السلام): ضربوا أروع مثال في البصيرة، إذ رأوا الموت في نصرة الحسين حياة.
ـ علامات صاحب البصيرة
قلبه مطمئن بذكر الله.
يفرّق بين زخرف الدنيا وحقيقة الآخرة.
يقيس الأمور بموازين القرآن والحق، لا بميزان أهواء الناس.
ينصر الحق ولو كان وحيدًا.
- علامات أن قرارك نابع من بصيرة حقيقية
- هدوء داخلي بعد الاختيار (ليس خوفًا من الملامة بل ثقة بالنية).
- وضوحُ العِبرة: تستطيع أن تشرح لنفسك لماذا اخترت ذلك وفق معيار شرعية وعمليه.
- قابلية المراجعة والتعلّم — البصير يعترف بالخطأ ويستفيد منه.
- أثرُ القرار طويلُ المدى يميل إلى الخير والثبات.
- . موانع تكبّل البصيرة
- الانفعال والغضب والندم السريع.
- السعي وراء إرضاء الناس بدل الرضا الإلهي.
- الاستعجال والتسرّع في عصر السرعة المعلوماتية.
شجّع نفسك على التأني واستعادة التوازن الروحي قبل أي قرار مهم. - البصيرة هبة إلهية تُكتسب بالتقوى، والذكر، ومجالسة أهل الحق، والصبر.
البصيرة هي هبةٌ من الله، لكنها أيضًا صناعة: صناعةُ قلبٍ يُذكر، وعقلٍ يتأمّل، وضميرٍ يقيس. اجعل طريقك نحو الاختيار طريقًا مستند ب: عقلٌ يفقه، وقلبٌ يبصر، ونيّةٌ صالحة.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
"إنما البصائر تكشف الغطاء، وتظهر الحقائق" (غرر الحكم).