إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

"جاؤوا برأسك"

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "جاؤوا برأسك"

    أصداء الحزن والاحتجاج: تحليل فني وبلاغي لنص "جاؤوا برأسك"
    وفاء الطويل
    في غمار الأدب، حيث يتقاطع شغف التذوق مع جمالية النص، نسبر أغوار القصيدة بقراءة واعية، نستلهم من شعراء العصور الأفذاذ الإبداع.
    نحلّل، ندرس، نستلهم، علّنا نصل إلى رؤية واضحة لنفسية الشاعر لحظة المخاض وولادة النص، وبمنهج متزن يثير المتلقي.
    بين أيدينا اليوم هذه الأبيات الخالدة التي لا تزال أصداؤها تتردد في أروقة الزمن، حاملةً شعلة الحزن الملتهبة في رثاء سيد الشهداء، الإمام الحسين (عليه السلام)، والتي نقشها الشاعر بمداد قلبه، وارتقت فوق عرش البلاغة، لتصبح صرخةً أبديةً تهز أركان الضمير الإنساني جيلًا بعد جيل.
    جاؤُوا بِرَأْسِكَ يا ابْنَ بِنْتِ مُحَمّدٍ *** مُتَرَمِّلاً بِدِمائِهِ تَرْمِيلا
    وكأنّما بِكَ يا ابْنَ بنتِ مُحَمّدٍ *** قَتَلوا جَهارًا عامدينَ رَسُولا
    قَتَلُوكَ عَطْشَانًا ولَمّا يَرْقُبُوا *** في قَتْلِكَ التنِّزيلَ والتّأْويلا
    ويُكَبِّرونَ بِأَنْ قُتِلْتَ وإنّما *** قَتَلوا بكَ التّكْبيرَ والتّهْليلاَ
    ---
    النص من بحر الكامل (متفاعلن متفاعلن متفاعلن)، وهو بحر يُناسب التعبير عن العاطفة الجياشة والانفعال.
    بقافية متواترة، حرف الروي اللام المنصوب "لا" التي أضفت انسجامًا موسيقيًا يرافق الحزن المتدفق في النص، والذي هو من النصوص الرثائية البارزة في الأدب العربي والإسلامي، حيث يتسم بالجزالة والقوة الشعورية
    يستحضر الشاعر شخصية الإمام الحسين في نصه معبرًا فيه احتجاجه على الظلم
    الأبيات مترابطة حول محور رئيسي، وهو استنكار قتل الإمام (عليه السلام) وما صاحبه من تعدٍّ على المبادئ الدينية والإنسانية، ورغم أن النص أربع أبيات فقط إلا أنه زاخر بالصور البلاغية والأساليب الفنية
    1-كالتشبيه، "وكأنّما بِكَ يا ابْنَ بنتِ مُحَمّدٍ *** قَتَلوا جَهارًا عامدينَ رَسُولا"
    هنا تشبيه مُركّب يجعل قتل الإمام الحسين وكأنّه قتلٌ لرسولٍ، مما يُبرز فداحة الجريمة.
    2-التكرار، تكرار العبارة "ابن بنت محمد"،" يبرز الانتماء النبوي للإمام الحسين ويُعزّز وقع المصيبة، وتكرار الفعل "قتلوا" يُعمّق الشعور بالمأساة ويُسلط الضوء على بشاعة الفعل.
    3- التضاد، "التكبير" و"التهليل" مقابل "القتل" يُبرز المفارقة بين ظاهر ما يدّعيه القتلة من تدين، وحقيقة أفعالهم المناقضة تمامًا للدين.
    4- التكرير الفني، مثل "التنزيل" و"التأويل" يُظهر تناقض أفعال القتلة مع جوهر الرسالة الإسلامية، ما يعكس عمق الصراع بين الحق والباطل.
    أما عن البعد الدلالي للنص
    فهو يحمل دلالة رمزية والتي تتمثل بالرأس الشريف للإمام الحسين الذي يمثل شموخ الرسالة التي لم تُطفأ بشهادته، فهو رمزٌ للحق المطلق، والتكبير والتهليل رمزان للقيم الدينية التي يدّعي القتلة الحفاظ عليها بينما هم ينتهكون جوهرها.
    ودلالة شعورية
    حيث إن النص يعكس شعورًا مزدوجًا، الحزن على الفاجعة والغضب من التناقض الصارخ بين القيم المعلنة والأفعال المشينة.
    الاحتجاج الأخلاقي والديني
    يُدين النص وكاتبه الفعل من منظور أخلاقي وديني، فهو خطاب احتجاجي صارخ.
    كما أن للأبيات أثرًا في الذاكرة الأدبية والدينية حيث أصبحت أيقونة أدبية تستحضر مأساة كربلاء، ولا تزال تتردد في المجالس الحسينية عبر الأجيال.
    يعكس النص عمق المأساة الحسينية عبر بناء فني محكم وصور بلاغية مدهشة، تجمع بين جمال الشعر وبلاغة الاحتجاج الأخلاقي والديني.
    أما كاتب النص فهو
    ديك الجن الحمصي (776-849 م) أبو محمد عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن يزيد بن تميم الكلبي الحمصي (1)
    شاعر خلّف بصمات لا تُمحى في سجلّ الأدب، ولد عام 776م في مدينة "حمص"، حيث أشرقت حياته بالموهبة، واغتربت بروح قلقة، متأرجحة بين متناقضات الوجد والغياب
    يقال سمي (ديك الجن) بهذا الاسم؛ لأن عينيه كانتا خضراوين، وقيل: لقصيدة قالها في رثاء ديك كان لأحد أصدقائه قد ذبحه، وأقام منه مائدة دعا إليها الشاعر.
    كان ديك الجن شاعرًا نادر المثال، لا يأسره مألوف ولا يقيّده تقليد، صاغ من شظايا قلبه قصائد لا تزال مرآةً لمعاناة الإنسان.
    قصد داره دعبل الخزاعي فكتم نفسه عنه خوفًا من قوارصه، فقال دعبل: ما له يستتر وهو أشعر الجن والإنس، أليس هو الذي يقول:
    بها غير معلول فداو خمارها *** وصل بعشيات الغبوق ابتكارها
    ونل من عظيم الردف كل عظيمة *** إذا ذكرت خاف الحفيظان نارها
    فظهر إليه واعتذر له وأحسن نزوله.
    وهما ممن لم ينتجعا بشعرهما خليفة ولا أميرًا ولا غيرهما وتقدما بهذا الشرف على طبقتهما (2).
    يجد المتذوق في أشعاره تأمّلات فلسفية يخوض من خلالها غمار الوجود والموت.
    برع في خلق الصور الشعرية التي تدهش المتلقي بفرادتها، وفي نسج التراكيب اللغوية التي تفيض عذوبةً وعمقًا.
    تناول في قصائده موضوعات شتّى، كأسرار الطبيعة ونزاعات النفس وصراعاتها مع الحياة، فكان شاعرًا يكتب عن الإنسان بكل ما فيه من نور وظلمة، ليبقى إرثه الأدبي شاهدًا على عبقريته الفريدة.
    أسدل ستار التجاهل عن هذا الشاعر الكبير حتى تبعثر وكاد يتلاشى أثر أشعاره، وقد يكون السبب وراء ذلك تشيّعه العميق الذي جعل منه هدفًا للاتهام بالشعوبية، رغم نقاء أصله العربي وانتمائه إلى قبيلة عريقة الجذور، إن هذا الانتماء الذي كان ينبغي أن يكون مصدر فخر، أصبح في عيون البعض حجةً للتشكيك والتهميش، وكأنما انقلبت الفضائل عيوبًا تحت وطأة الهوى والانحياز.
    _____________________
    المصادر:
    1-أحمد مطلوب، عبدالله الجبوري، ديوان ديك الجن الحمصي، صفحة 5. بتصرّف.
    2-أعيان الشيعة - السيد محسن الأمين - ج ١ - الصفحة ١٨٥​
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
x
يعمل...
X