أزمة الهوية الأنثوية في الفكر المعاصر
دراسة تحليلية فلسفية–اجتماعية
تمهيد
تُعَدّ أزمة الهوية الأنثوية في العصر الحديث أحد أبرز تجلّيات الاضطراب القيمي والوجودي الذي أصاب الإنسان في ظلّ التحوّلات الفكرية والاجتماعية ما بعد الحداثة. فمع اتساع الخطاب النسوي الراديكالي الذي سعى إلى “تحرير المرأة” من كلّ ما هو تقليدي أو ديني أو أسري، انزلقت المرأة –في كثير من النماذج– إلى حالة من التناقض بين تكوينها البيولوجي والنفسي من جهة، وسلوكيات ذكورية مكتسبة من جهة أخرى، جعلتها في حالة اغتراب عن ذاتها وعن غايتها الطبيعية.
أولًا: الجذر الفلسفي للأزمة
تعود جذور هذه الإشكالية إلى التحول الفلسفي الذي رافق الفكر الغربي منذ عصر التنوير، حين فُصل الإنسان عن البعد الميتافيزيقي والروحي في تعريف ذاته. فقد أسس جان جاك روسو لمفهوم الحرية الفردية المطلقة، ثم تبنّت الموجة النسوية هذا المبدأ في القرن العشرين لتجعله إطارًا لمفهوم “تحرر المرأة” بمعناه المادي.
وتُعدّ سيمون دي بوفوار في كتابها الجنس الآخر (Le Deuxième Sexe) من أبرز المنظّرات لهذا الاتجاه، إذ دعت إلى تجاوز “الأنوثة التقليدية” ورأت أن المرأة لا تُولد امرأة، بل تُصبح كذلك عبر التنشئة الاجتماعية، متجاهلة الفروق الفطرية التي تشكّل جزءًا من هوية الإنسان الطبيعية.
وقد انتقد إيريك فروم في فنّ الحبّ هذا المسار، معتبرًا أن الحرية بلا مسؤولية ولا معنى روحي تؤدي إلى العزلة والفراغ الداخلي. وذهب كارل يونغ في تحليله للأنماط النفسية إلى أن كل إنسان يحمل في داخله مبدأي “الأنيموس” (الذكورة) و”الأنِيما” (الأنوثة)، وأن الاتزان النفسي يتحقق عبر التكامل بينهما لا عبر سيطرة أحدهما على الآخر.
ثانيًا: الانعكاس الاجتماعي والوجداني
مع سيطرة الخطاب الإعلامي والاستهلاكي الحديث، تحوّل “تحرّر المرأة” إلى سلعة رمزية، وصار الجسد أداة تعبير عن الحرية الزائفة بدلًا من أن يكون وعاءً للروح والكرامة. وبهذا انتقلت المرأة من التبعية الذكورية إلى التبعية الرأسمالية، كما عبّر عن ذلك مالك بن نبي حين وصف الحضارة الغربية بأنها “حضارة الشيء لا الإنسان”، أي أنها تستبدل القيمة بالاستهلاك.
وقد انعكس هذا الاضطراب على بنية الأسرة والعلاقات الاجتماعية، إذ ضعفت الروابط العاطفية، وتراجعت مفاهيم الأمومة والاحتواء لصالح مفاهيم المنفعة والمصلحة الفردية. فصار كثير من النساء يعشن حالة من “النشوة المؤقتة” الناتجة عن التمرّد على الذات، غير أن تلك النشوة سرعان ما تتبدد في مواجهة حقائق العمر والشيخوخة والوحدة، لتتحول إلى فراغ وجودي يعبّر عن غياب المعنى.
ثالثًا: المقاربة الإسلامية والرؤية التكوينية
من منظور الفكر الإسلامي، ليست الأنوثة نقيضًا للحرية ولا للكرامة، بل هي شكل من أشكال التكميل الإنساني الذي يقوم على مبدأ التكامل لا التماثل. يقول تعالى:
“وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى” (آل عمران: 36)
إشارة إلى اختلاف التكوين لا على سبيل النقص، بل على سبيل الوظيفة والدور.
ويرى السيد محمد باقر الصدر في اقتصادنا والمدرسة القرآنية أن الإسلام يوازن بين البعدين: الروحي والاجتماعي، فيمنح المرأة حرية الاختيار ضمن نظام قيمي يحفظ فطرتها ويصون إنسانيتها. فالمرأة ليست تابعة للرجل ولا ندًّا له، بل شريكة في تحقيق الغاية الكونية للخلق.
إن الخروج عن هذه المنظومة التكاملية يؤدي إلى تفكك داخلي، لأن الإنسان –كما يؤكد العلامة الطباطبائي في الميزان– لا يمكن أن يبلغ كماله إلا بالانسجام مع فطرته التي فطره الله عليها، ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (الروم: 30).
رابعًا: الخاتمة
تدلّ أزمة الهوية الأنثوية اليوم على خللٍ أعمق في بنية الفكر الإنساني الحديث، الذي استبدل “الاختلاف التكميلي” بـ”المساواة الصورية”، ورفع شعار الحرية بينما غيّب المعنى. فالمرأة التي تحاول أن تكون “رجلًا آخر” تفقد جوهرها، أما التي تدرك أنوثتها كقيمة وجودية مكمّلة، فإنها تحقق الاتزان والسعادة الحقيقية.
ولذلك فإنّ الحل لا يكمن في العودة إلى الماضي ولا في الذوبان في النموذج الغربي، بل في استعادة التوازن الإنساني الذي يجمع بين الوعي والكرامة، بين الأنوثة والعقل، وبين الفطرة والتجديد.
المراجع والمصادر
سيمون دي بوفوار، الجنس الآخر، ترجمة بدر الدين عرودكي، دار الآداب، بيروت، 1994.
إيريك فروم، فن الحب، ترجمة كامل يوسف حسين، دار المعارف، القاهرة، 1984.
كارل يونغ، الإنسان ورموزه، ترجمة لطفي اليوسفي، دار الجمل، بيروت، 2008.
مالك بن نبي، شروط النهضة، دار الفكر، دمشق، 1986.
السيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا، دار التعارف، بيروت، ط7، 1988.
العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ج3.
القرآن الكريم.
✍️بقلمي
عبد الأمير السيلاوي
دراسة تحليلية فلسفية–اجتماعية
تمهيد
تُعَدّ أزمة الهوية الأنثوية في العصر الحديث أحد أبرز تجلّيات الاضطراب القيمي والوجودي الذي أصاب الإنسان في ظلّ التحوّلات الفكرية والاجتماعية ما بعد الحداثة. فمع اتساع الخطاب النسوي الراديكالي الذي سعى إلى “تحرير المرأة” من كلّ ما هو تقليدي أو ديني أو أسري، انزلقت المرأة –في كثير من النماذج– إلى حالة من التناقض بين تكوينها البيولوجي والنفسي من جهة، وسلوكيات ذكورية مكتسبة من جهة أخرى، جعلتها في حالة اغتراب عن ذاتها وعن غايتها الطبيعية.
أولًا: الجذر الفلسفي للأزمة
تعود جذور هذه الإشكالية إلى التحول الفلسفي الذي رافق الفكر الغربي منذ عصر التنوير، حين فُصل الإنسان عن البعد الميتافيزيقي والروحي في تعريف ذاته. فقد أسس جان جاك روسو لمفهوم الحرية الفردية المطلقة، ثم تبنّت الموجة النسوية هذا المبدأ في القرن العشرين لتجعله إطارًا لمفهوم “تحرر المرأة” بمعناه المادي.
وتُعدّ سيمون دي بوفوار في كتابها الجنس الآخر (Le Deuxième Sexe) من أبرز المنظّرات لهذا الاتجاه، إذ دعت إلى تجاوز “الأنوثة التقليدية” ورأت أن المرأة لا تُولد امرأة، بل تُصبح كذلك عبر التنشئة الاجتماعية، متجاهلة الفروق الفطرية التي تشكّل جزءًا من هوية الإنسان الطبيعية.
وقد انتقد إيريك فروم في فنّ الحبّ هذا المسار، معتبرًا أن الحرية بلا مسؤولية ولا معنى روحي تؤدي إلى العزلة والفراغ الداخلي. وذهب كارل يونغ في تحليله للأنماط النفسية إلى أن كل إنسان يحمل في داخله مبدأي “الأنيموس” (الذكورة) و”الأنِيما” (الأنوثة)، وأن الاتزان النفسي يتحقق عبر التكامل بينهما لا عبر سيطرة أحدهما على الآخر.
ثانيًا: الانعكاس الاجتماعي والوجداني
مع سيطرة الخطاب الإعلامي والاستهلاكي الحديث، تحوّل “تحرّر المرأة” إلى سلعة رمزية، وصار الجسد أداة تعبير عن الحرية الزائفة بدلًا من أن يكون وعاءً للروح والكرامة. وبهذا انتقلت المرأة من التبعية الذكورية إلى التبعية الرأسمالية، كما عبّر عن ذلك مالك بن نبي حين وصف الحضارة الغربية بأنها “حضارة الشيء لا الإنسان”، أي أنها تستبدل القيمة بالاستهلاك.
وقد انعكس هذا الاضطراب على بنية الأسرة والعلاقات الاجتماعية، إذ ضعفت الروابط العاطفية، وتراجعت مفاهيم الأمومة والاحتواء لصالح مفاهيم المنفعة والمصلحة الفردية. فصار كثير من النساء يعشن حالة من “النشوة المؤقتة” الناتجة عن التمرّد على الذات، غير أن تلك النشوة سرعان ما تتبدد في مواجهة حقائق العمر والشيخوخة والوحدة، لتتحول إلى فراغ وجودي يعبّر عن غياب المعنى.
ثالثًا: المقاربة الإسلامية والرؤية التكوينية
من منظور الفكر الإسلامي، ليست الأنوثة نقيضًا للحرية ولا للكرامة، بل هي شكل من أشكال التكميل الإنساني الذي يقوم على مبدأ التكامل لا التماثل. يقول تعالى:
“وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى” (آل عمران: 36)
إشارة إلى اختلاف التكوين لا على سبيل النقص، بل على سبيل الوظيفة والدور.
ويرى السيد محمد باقر الصدر في اقتصادنا والمدرسة القرآنية أن الإسلام يوازن بين البعدين: الروحي والاجتماعي، فيمنح المرأة حرية الاختيار ضمن نظام قيمي يحفظ فطرتها ويصون إنسانيتها. فالمرأة ليست تابعة للرجل ولا ندًّا له، بل شريكة في تحقيق الغاية الكونية للخلق.
إن الخروج عن هذه المنظومة التكاملية يؤدي إلى تفكك داخلي، لأن الإنسان –كما يؤكد العلامة الطباطبائي في الميزان– لا يمكن أن يبلغ كماله إلا بالانسجام مع فطرته التي فطره الله عليها، ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (الروم: 30).
رابعًا: الخاتمة
تدلّ أزمة الهوية الأنثوية اليوم على خللٍ أعمق في بنية الفكر الإنساني الحديث، الذي استبدل “الاختلاف التكميلي” بـ”المساواة الصورية”، ورفع شعار الحرية بينما غيّب المعنى. فالمرأة التي تحاول أن تكون “رجلًا آخر” تفقد جوهرها، أما التي تدرك أنوثتها كقيمة وجودية مكمّلة، فإنها تحقق الاتزان والسعادة الحقيقية.
ولذلك فإنّ الحل لا يكمن في العودة إلى الماضي ولا في الذوبان في النموذج الغربي، بل في استعادة التوازن الإنساني الذي يجمع بين الوعي والكرامة، بين الأنوثة والعقل، وبين الفطرة والتجديد.
المراجع والمصادر
سيمون دي بوفوار، الجنس الآخر، ترجمة بدر الدين عرودكي، دار الآداب، بيروت، 1994.
إيريك فروم، فن الحب، ترجمة كامل يوسف حسين، دار المعارف، القاهرة، 1984.
كارل يونغ، الإنسان ورموزه، ترجمة لطفي اليوسفي، دار الجمل، بيروت، 2008.
مالك بن نبي، شروط النهضة، دار الفكر، دمشق، 1986.
السيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا، دار التعارف، بيروت، ط7، 1988.
العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ج3.
القرآن الكريم.
✍️بقلمي
عبد الأمير السيلاوي
