بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾[1].
حديث عن أقوام سابقة أتبعوا الرسل والتزموا بتعاليمهم ألا وهم أصحاب البقية الرساليّة الذين يحملونها بدعواتها، ابتداء بالنهي عن الفساد في الأرض، وهم حسب هذا النص قلة قليلة من الأمم الماضية.
﴿مِن قَبْلِكُمْ﴾، أي من الأجيال السابقة ﴿أُولُو بَقِيَّةٍ﴾، من عقل ونضوج شعور ﴿يَنْهَوْنَ﴾، الآخرين ﴿عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ﴾، فإنه لو حصل ذلك لكانت مجاري الدنيا غير مجاريها فعلا، نعم تصدّر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدة قليلون تكاثر عليهم الظلمة المجرمون فما تركوا لهم مجالا يجولون فيه ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ﴾، مهلك ﴿الْقُرَى﴾، لمجرد وجود الظلم فيما بين ﴿أَهْلُهَا﴾، إذا كان فيهم من يقوم بمحو آثاره عنهم بعقله ودينه وفعاليّته الناضجة لكن لم يكن في البين شيء من ذلك فحقّ عليهم القول فأهلكوا.
فهم ﴿أُولُو بَقِيَّةٍ﴾، رساليّة، إبقاء لها بعد الرسل، وهم ربّانيّو كل أمة، حاملو مشاعل الهدى الرساليّة، عارفين الفساد في الأرض، تاركين له، ناهين عنه بكل إمكانياتهم الإيمانية.
ولمّا ذكر سبحانه إهلاك الأمم الماضية والقرون الخالية، عقّب ذلك بأنّهم أتوا في هلاكهم من قبل نفوسهم، ولو كان فيهم مؤمنون يأمرون بالصلاح وينهون عن الفساد لما استأصلناهم رحمة منّا، ولكنّهم لمّا عمّهم الكفر استحقّوا عذاب الاستئصال
ذلك، ورغم أن المقربين السابقين وهم الرسل وخلفاؤهم المعصومون واتباعهم المخلصون، هم ﴿ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ﴾[2]، نرى معاكسة في أولي بقية أنهم قليل من الأولين وثلة من الآخرين، للمدّ الزمني المديد لهذه الرسالة الأخيرة، وقوة الدعوة والداعية أكثر من الأولين. وهؤلاء الثلة هم المعنيون من ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾[3]، فالأمة الآمرة الناهية المخرجة للناس على مدار الزمن الرسالي، هي درجات، وأنتم الآمرون والناهون من هذه الأمة الأخيرة خير أمة آمرة ناهية أخرجت للناس.
وهنا ﴿فَلَوْلَا﴾، حيث تعني «هلاّ» هي استنكار على الأمم الغابرة بقلة أولي بقية فيهم ينهون عن الفساد في الأرض، فالأمة التي يشيع فيها الفساد في أية صورة من صوره، فتجد من ينهض لدفعه والدفاع عن الحق، ليس ليأخذها الله بالعذاب المدمّر المزمجر، وأما الأمم التي يشيع فيها الفساد، ثم لا ينهض لحمل أعباء الدعوة الصالحة فيها، المصلحة لها، إلاّ قليل غير كاف، فقد تكون مأخوذة بشائع الفساد.
وهنا تنديد شديد بالذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فشلا في أولي بقية، وتزايدا في الفساد وكساد المعرفة وعمل الصالحات، ونقل عن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له أنه قال: ((عِبَادَ اَللهِ إِنَّكُمْ وَمَا تَأْمُلُونَ مِنْ هَذِهِ اَلدُّنْيَا أَثْوِيَاءُ مُؤَجَّلُونَ وَمَدِينُونَ مُقْتَضَوْنَ أَجَلٌ مَنْقُوصٌ وَعَمَلٌ مَحْفُوظٌ فَرُبَّ دَائِبٍ مُضَيَّعٌ وَرُبَّ كَادِحٍ خَاسِرٌ. وَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَنٍ لاَ يَزْدَادُ اَلْخَيْرُ فِيهِ إِلاَّ إِدْبَاراً وَلاَ اَلشَّرُّ فِيهِ إِلاَّ إِقْبَالاً وَلاَ اَلشَّيْطَانُ فِي هَلاَكِ اَلنَّاسِ إِلاَّ طَمَعاً فَهَذَا أَوَانٌ قَوِيَتْ عُدَّتُهُ وَعَمَّتْ مَكِيدَتُهُ وَأَمْكَنَتْ فَرِيسَتُهُ. اِضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ اَلنَّاسِ فَهَلْ تُبْصِرُ إِلاَّ فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اَللهِ كُفْراً أَوْ بَخِيلاً اِتَّخَذَ اَلْبُخْلَ بِحَقِّ اَللهِ وَفْراً أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ اَلْمَوَاعِظِ وَقْراً أَيْنَ أَخْيَارُكُمْ وَصُلَحَاؤُكُمْ وَأَيْنَ أَحْرَارُكُمْ وَسُمَحَاؤُكُمْ وَأَيْنَ اَلمُتَوَرِّعُونَ فِي مَكَاسِبِهِمْ وَاَلْمُتَنَزِّهُونَ فِي مَذَاهِبِهِمْ أَلَيْسَ قَدْ ظَعَنُوا جَمِيعاً عَنْ هَذِهِ اَلدُّنْيَا اَلدَّنِيَّةِ وَاَلْعَاجِلَةِ اَلْمُنَغِّصَةِ وَهَلْ خُلِقْتُمْ إِلاَّ فِي حُثَالَةٍ لاَ تَلْتَقِي إِلاَّ بِذَمِّهِمُ اَلشَّفَتَانِ اِسْتِصْغَاراً لِقَدْرِهِمْ وَذَهَاباً عَنْ ذِكْرِهِمْ فَإِنّا لِلّٰهِ وَإِنّٰا إِلَيْهِ راجِعُونَ ظَهَرَ اَلْفَسَادُ فَلاَ مُنْكِرٌ مُغَيِّرٌ وَلاَ زَاجِرٌ مُزْدَجِرٌ أَفَبِهَذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اَللهَ فِي دَارِ قُدْسِهِ وَتَكُونُوا أَعَزَّ أَوْلِيَائِهِ عِنْدَهُ هَيْهَاتَ لاَ يُخْدَعُ اَللهُ عَنْ جَنَّتِهِ وَلاَ تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ لَعَنَ اَللهُ اَلْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ اَلتَّارِكِينَ لَهُ وَاَلنَّاهِينَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ اَلْعَامِلِينَ بِهِ))[4].
[1] سورة هود، الآية: 116.
[2] سورة الواقعة، الآيتان: 13 - 14.
[3] سورة آل عمران، الآية: 116.
[4] نهج البلاغة، ص 187.
