...


كنا لا نفترق منذ أن عرفتنا السواتر صديقين متلازمين نضحك بوجه الموت بل نتحداه، وإذا برصاصة بلهاء أسقطته أرضاً وهو يصرخ على عنادكم: لن أموت.. بقي عندي من هذا الصديق الوفي جسداً ممدداً.. دمٌ متناثر، ودفتر مذكرات صغير، وذكريات بحجم الكون..
الكلمة الأولى (للزمن نذهب لا شيء يعود)..
الآن بدأت أعرفه أكثر من أي وقت مضى..
حمادة عبد الحسين الكربلائي... المخيم
كان مثالاً للشاب العصامي المكافح، وخرج من الجامعة بامتياز دون أن يترك عمله يوماً واحداً، لذلك كانت حالته المادية جيدة، لكنه رفض التعيين واختار الدفاع عن الوطن والأرض والعرض وضيفة له..!
كان يقول لي: أنظر لتلك السواتر إنها قلوب تدفق بالحنين.. أنظر لها كيف تبكي عندما يتناثر على جدرانها الدم.. إنها أرقُّ إنسانيةً من فنادق ضخمة فخمة تضم من باعوا أوطانهم، وغدروا بالنخل والتراب، سألته مرة: ماذا لو رأيتني أعانق التراب؟
ابتسم لي.. قبلني وقال: سأقول.. واحد منا قرر أن يرحل إلى الحياة.
: حمادة، لماذا أنت تصر دائماً بحديثك عن مفردة الحياة؟
: نحن دخلنا الحرب وعاشرنا السواتر من أجل الحياة، علينا أن نعرف سر القوة عند الإنسان، ليمتلك الخبرة والسلطة الحقيقية والكفاءة المعرفية.. لو تأملنا في الوجوب الكفائي نداء المرجعية المباركة سنجده ممثل الكفاءة الذكية، هو معايشة الأشياء لمجملها.. الالمام المعرفي مع امتلاك روح التواضع.. البساطة.. حينها تتبلور روح الحكمة.. القدرة.. الخروج من الجسد الى المعنى.
: حاول أن تبسط لي الأمور.. لا تجعل حوارك معي فلسفياً.. أرجوك ما معنى الخروج من الجسد؟ أليس هو الموت؟
: لا.. بل حين يصبح الانسان أمة لوحده، يفكر بالمعنى الأشمل للوجود.. الشهيد يخرج من الجسد ليعيش الخلود.. ألم يشد انتباهك قول السيد السيستاني (دام ظله) حين شكروه على الوجوب الكفائي.. أشار الى ضريح الإمام علي (عليه السلام) وقال: اشكروه.. فمنه أتى الوجوب الكفائي.
ألم تسأل نفسك: كيف تم البث والتسليم مع وجود الفارق الزمني بهذا المعنى سنلتحق نحن الشهداء بالركب الحسيني، وهذا هو الفرق بين الموتى والشهداء.
: وهممت أن أرفع جسد صديقي، وإذا به يهمس في أذني: اتركهم يحملوني، واذهب انت لتقف هنالك خلف الساتر، وتناديهم: حمادة لن يتخلى عن القتال.