بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين
قالوا : إنّ في القرآن كثيراً من تعابير جاء فيها التنويه بشأن البنين و تفضيلهم على البنات , الأمر الذي يدلّ على تأثّره بالبيئة العربية الجاهلة , حيث كانوا يئدون البنات خشية العار . ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾ .
نرى أنّ القرآن الكريم قد شنّع القوم على فكرتهم هذه الجاهلة و وّبخهم في الفرق بين البنين و البنات أشدّ تشنيع و توبيخ .
و لكن مع ذلك قد نجد في القرآن مواضع فيها بعض المرافقة مع القوم ؟!
فقد كانت العرب ترى من الملائكة إناثاً و أنّهنّ بنات الله سبحانه : ﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ .
فجاء التشنيع في هذه الآيات من ناحيتين : أوّلاً زعموا من الملائكة إناثاً , و ثانياً أنّهنّ بناته تعالى من صلبه و أنّه تعالى وَلَدَهُنّ !
و جرياً مع عادة العرب في الازدراء بشأن البنات يستنكر عليهم : كيف اصطفى البنات على البنين؟ ! ﴿ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ﴾ . أي قسمة غير عادلة ﴿ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ﴾ .
و في هذه الآية جاء الفارق بين الذكر و الأنثى ناشئاً من جبلّتهما , لتكون المرأة بدافع من فطرتها الانوثية تنجذب إلى الزبارج أكثر من اهتمامها بواقعيّات الأمور . و من جانب آخر هي ذات طبيعة رقيقة لا تتقاوم تجاه الكوارث , فتنفعل فور اصطدامها بمضطلمات الحوادث , فهي بذات فطرتها و نشأتها . غير صالحة لمقابلة شدائد الحياة و عجزة عن حلّ متشابك المعضلات . فقد جمعت بين الظرافة و الضعف , على عكس الرجل الذي يملك صلابة و قوّة إرادة .
و من ثمّ تعقّبت الآية بالاستنكار على مزعومتهم في الملائكة أنّهم إناث : ﴿ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴾ .
و قد عبّر القرآن عن الملائكة بصفة الذكور : ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ ... ﴾ . و الضمائر كلّها جمع ذكور , و هكذا في سائر مواضع القرآن .
و من ثمّ وجّه إليهم التوبيخ اللاذع : ﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ﴾ .
كلّ ذلك إنْ دلّ فإنّما يدلّ على ازدراءٍ بشأن الأنثى , جرى علية العرب و جاراهم القرآن .
لكن ليس في شيءٍ من هذه التعابير اللّاذعة الموبّخة للعرب أيّ تعيير أو شائنة بشأن المرأة في ذات نفسها , لا تصريحاً و لا تلويحاً . و أنّما توجّه التشنيع على العرب بالذات في نظرتهم الخاطئة بشأن الملائكة , و أنّهم إناث , و بناتٌ لله سبحانه ﴿ أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ . و أنّ وُلْده بنات .
و من ثمّ يسمّون الملائكة تسمية الأنثى . الأمر الذي يدلّ على سفاهة عقولهم غاية جهلهم بما وراء ستار الغيب . ذلك مبلغهم من العلم و إن هم إلاّ يخرصون .
و الذي يبدو عليه أثر السفاهة أنّهم نسبوا إلى الله ما يكرهونه لأنفسهم , فجعلوا لأنفسهم المفضَّل من الولد , و أمّا المشنَّع فجعلوا لله سبحانَه . و هي قسمة غير عادلة حتّى في غياهب أوهام الخيال .
فكان موضع التشنيع هو هذا التقسيم غير العادل حتّى في مفروض الأوهام , الأمر الذي ليس في أيّ تقرير للتفضيل المزعوم أو اعترف به في واقع الأمر ! فلم تكن هناك مجاراة , و إنّما هي منابذة صريحة على أصول الجدل في محاورة الكلام .
***
وأمّا التعبير بجمع المؤنث السالم ( بالألف و التاء ) في قوله تعالى : ﴿ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ﴾
. و كذا قوله : ﴿ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ﴾ إلى قوله ﴿ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ﴾ و قوله : ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ... ﴾ بناءاً على أنّ المراد هم الملائكة القائمة بهذه الأمور . فتأويل ذلك كلّه أنّه باعتبار كون الموصوف هم الجماعات , لأنّ القائم بهذه الأمور هم جماعات الملائكة لا الآحاد , فكما أنّ الجماعة تجمع على الجماعات , كذلك الجماعة النازعة تجمع على النازعات , و هلمّ جرّاً . كما أنّ الشخصية أيضاً تجمع على الشخصيّات , و ليس كلّ جمع بالألف و التاء دليلاً على تأنيث المفرد كما في جمع القياس على القياسات . و كل اسم مفرد ـ في المصدر قياساً و في غيره سماعاً ـ إذا جاوز ثلاثة حروف يجمع بالألف و التاء . كالتعريفات و الامتيازات . و من السماعي نحو السماوات و سرادقات و سجلاّت و غير ذلك .
و من ثمّ عاد ضمير الجمع المذكر إلى المعقّبات ﴿ ... يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ... ﴾ . و هو دليل على عدم تحتّم الجمع بالألف و التاء خاصّاً بالإناث .
و لأبي مسلم محمد بن بحر الإصفهاني هنا كلام ـ نقله الفخر الرازي ـ يرجّح عدم كون هذه الجموع أوصافاً للملائكة , و إنّما هي أوصاف للأيدي و السهام و الخيول و الإبل في ساحة القتال . . . .
﴿ ... لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ... ﴾
ممّا أثار حول نظرة الإسلام عن المرأة هي مسألة إرثها نصف إرث الرجل , وربما كان الجدل عنيفاً في أوساط اُممية و في مؤتمرات عالميّة حول قضية المرأة . و ممّا توافق عليه ممثّلوا الدول الإسلامية مع خصومهم هو أنّ الإسلام أقرّ للمرأة ميراثها إجماليّاً تجاه الأنظمة القبائلية القائلة بحرمانها من الإرث رأساً و اقتنعوا بهذا القدر من التوافق بشأن إرث المرأة, مع الغضّ ـ حاليّاً ـ عن المقدار و سائر الجوانب الّتي يفصّلها الإسلام .
لكنّ الإسلام باعتباره شَريعة الله الخالدة الجامعة الشاملة قد قال كلمته الأخيرة و لا مجال للمحاباة فيما حكم به الإسلام حكمه الصريح الأبدي . و نحن نرى أيّ توافق يستلزم تنازلاً مّا عن الاُسس الإسلامية , مداهنةً و تراجعاً أمام هجمات العدوّ الجاهل , الأمر الذي يبدو على محيّاه الوهن و الضعف المقيت .
إنّ البيئة التي يرسمها الإسلام للحياة الاجتماعية ـ سواء في صورتها الصغرى ( الأسرة ) أو كبرى العامّة ـ تجعل من وظائف الرجل أثقل , و إنّ مسؤوليّته في حمل أعباء الحياة أشمل , حسبما أوتي من قدرة و تفكير أوسع , فكان بطبيعة الحال أن يجعل نصيبه من الميراث أكثر .
إنّه تعالى يرفض أوّلاً تلك العادات الجاهلية التي كانت تحرم النساء عن الميراث ﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ﴾
و بذلك أبطل عادةً جاهليةً كانت متحكّمة في نفوس أبناء الجزيرة , بل وفي أوساط أممية كانت سائدة في أكثر أرجاء العالم المتحضّر يومذاك .
روي عن ابن عبّاس أنّه لمّا نزلت الآية ثقلت على نفوس جاهلة , فجعلوا يتخافتون فيما بينهم أن اسكتوا عن هذا الحديث فلعلّ رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) ينساه . أو نقول له فيغيّره . فجاء لا يعطونها و لا الأطفال الصغار إلا لمن استطاع الركوب و القتال !
و بعد ذلك يأتي دور تعيين نصيبها من الميراث : ﴿ يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ... ﴾ . إنّ الله هو الذي يوصي , و هو الذي يفرض , فمن عند الله ترد التنظيمات و الشرائع و القوانين , و عن الله يتلقّى في أخصّ شؤونهم في الحياة , و هذا هو الدين . فليس هناك دينٌ للناس إذا لم يتلقّوا في شؤون حياتهم كلّها من الله وحده , و ليس هناك إسلام إذا هم تلقّوا في أيّ أمرٍ من هذه الاُمور ـ جلّ أو حقر ـ من مصدرٍ آخر . إنّما يكون الشرك أو الكفر , و تكون الجاهليّة التي جاء الإسلام ليقتلع جذورها من حياة الناس . فليس للناس أن يقولوا : إنّما نختار لأنفسنا و لذرّياتنا و نحن أعرف بمصالحنا . . فهذا ـ فوق أنّه باطل ـ هو في الوقت ذاته توقّح و تبجّح و تعالٍ على الله , و ادّعاءٌ لا يزعمه إلاّ متوقّح جهول .
و عليه , فليس الأمر في هذا أمر محاباة لجنسٍ على حساب جنس , إنّما الأمر توازن و عدل بين أعباء المرأة في التكوين العائلي و في النظام الاجتماعي الإسلامي . فالرجل يتزوّج امرأة يكلَّف إعالتها و إعالة أبنائها منه في كلّ حالة , و هي معه و هي معافة من هذه التكاليف . أمّا هي فإمّا أن تقوم بنفسها فقط , و إمّا أن يقوم بها رجل قبل الزواج و بعده سواء , و ليست مكلَّفة نفقة لزوج و لا للأبناء في أيّ حال . فالرجل مكلّف ـ على الأقلّ ـ ضعف أعباء المرأة في التكوين العائلي و في النظام الاجتماعي الإسلامي ـ أي النظام الذي رسمه لنا الإسلام ـ و من ثَمَّ يبدو العدل كما يبدو التناسق بين الغُنم و الغُرم في هذا التوزيع الحكيم . فما دامت الحياة التي نعيشها في ظلّ الإسلام مخطّطة وفق هذه الحكمة الرشيدة , فهذا التوزيع يتطابق مع هذا المخطّط ما دمنا نعترف به ونستسلم لقيادته . و يبدو كلّ نقاش في هذا التوزيع جهالة من ناحية و سوء أدبٍ مع الله من ناحيةٍ أخرى , و زعزعة للنظام الاجتماعي و الاُسري , لا تستقيم معها حياة حسب معتقدنا و نحن مسلمون . و التجربة العنيفة التي تجرّعتها سائر الاُمم و لا تزال هي خير شاهدة على اعتدال هذا النظام و انسجامه مع فطرة الإنسان و تكوينه في الحياة .
نرى أنّ القرآن الكريم قد شنّع القوم على فكرتهم هذه الجاهلة و وّبخهم في الفرق بين البنين و البنات أشدّ تشنيع و توبيخ .
و لكن مع ذلك قد نجد في القرآن مواضع فيها بعض المرافقة مع القوم ؟!
فقد كانت العرب ترى من الملائكة إناثاً و أنّهنّ بنات الله سبحانه : ﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ .
فجاء التشنيع في هذه الآيات من ناحيتين : أوّلاً زعموا من الملائكة إناثاً , و ثانياً أنّهنّ بناته تعالى من صلبه و أنّه تعالى وَلَدَهُنّ !
و جرياً مع عادة العرب في الازدراء بشأن البنات يستنكر عليهم : كيف اصطفى البنات على البنين؟ ! ﴿ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ﴾ . أي قسمة غير عادلة ﴿ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ﴾ .
و في هذه الآية جاء الفارق بين الذكر و الأنثى ناشئاً من جبلّتهما , لتكون المرأة بدافع من فطرتها الانوثية تنجذب إلى الزبارج أكثر من اهتمامها بواقعيّات الأمور . و من جانب آخر هي ذات طبيعة رقيقة لا تتقاوم تجاه الكوارث , فتنفعل فور اصطدامها بمضطلمات الحوادث , فهي بذات فطرتها و نشأتها . غير صالحة لمقابلة شدائد الحياة و عجزة عن حلّ متشابك المعضلات . فقد جمعت بين الظرافة و الضعف , على عكس الرجل الذي يملك صلابة و قوّة إرادة .
و من ثمّ تعقّبت الآية بالاستنكار على مزعومتهم في الملائكة أنّهم إناث : ﴿ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴾ .
و قد عبّر القرآن عن الملائكة بصفة الذكور : ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ ... ﴾ . و الضمائر كلّها جمع ذكور , و هكذا في سائر مواضع القرآن .
و من ثمّ وجّه إليهم التوبيخ اللاذع : ﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ﴾ .
كلّ ذلك إنْ دلّ فإنّما يدلّ على ازدراءٍ بشأن الأنثى , جرى علية العرب و جاراهم القرآن .
لكن ليس في شيءٍ من هذه التعابير اللّاذعة الموبّخة للعرب أيّ تعيير أو شائنة بشأن المرأة في ذات نفسها , لا تصريحاً و لا تلويحاً . و أنّما توجّه التشنيع على العرب بالذات في نظرتهم الخاطئة بشأن الملائكة , و أنّهم إناث , و بناتٌ لله سبحانه ﴿ أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ . و أنّ وُلْده بنات .
و من ثمّ يسمّون الملائكة تسمية الأنثى . الأمر الذي يدلّ على سفاهة عقولهم غاية جهلهم بما وراء ستار الغيب . ذلك مبلغهم من العلم و إن هم إلاّ يخرصون .
و الذي يبدو عليه أثر السفاهة أنّهم نسبوا إلى الله ما يكرهونه لأنفسهم , فجعلوا لأنفسهم المفضَّل من الولد , و أمّا المشنَّع فجعلوا لله سبحانَه . و هي قسمة غير عادلة حتّى في غياهب أوهام الخيال .
فكان موضع التشنيع هو هذا التقسيم غير العادل حتّى في مفروض الأوهام , الأمر الذي ليس في أيّ تقرير للتفضيل المزعوم أو اعترف به في واقع الأمر ! فلم تكن هناك مجاراة , و إنّما هي منابذة صريحة على أصول الجدل في محاورة الكلام .
***
وأمّا التعبير بجمع المؤنث السالم ( بالألف و التاء ) في قوله تعالى : ﴿ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ﴾
. و كذا قوله : ﴿ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ﴾ إلى قوله ﴿ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ﴾ و قوله : ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ... ﴾ بناءاً على أنّ المراد هم الملائكة القائمة بهذه الأمور . فتأويل ذلك كلّه أنّه باعتبار كون الموصوف هم الجماعات , لأنّ القائم بهذه الأمور هم جماعات الملائكة لا الآحاد , فكما أنّ الجماعة تجمع على الجماعات , كذلك الجماعة النازعة تجمع على النازعات , و هلمّ جرّاً . كما أنّ الشخصية أيضاً تجمع على الشخصيّات , و ليس كلّ جمع بالألف و التاء دليلاً على تأنيث المفرد كما في جمع القياس على القياسات . و كل اسم مفرد ـ في المصدر قياساً و في غيره سماعاً ـ إذا جاوز ثلاثة حروف يجمع بالألف و التاء . كالتعريفات و الامتيازات . و من السماعي نحو السماوات و سرادقات و سجلاّت و غير ذلك .
و من ثمّ عاد ضمير الجمع المذكر إلى المعقّبات ﴿ ... يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ... ﴾ . و هو دليل على عدم تحتّم الجمع بالألف و التاء خاصّاً بالإناث .
و لأبي مسلم محمد بن بحر الإصفهاني هنا كلام ـ نقله الفخر الرازي ـ يرجّح عدم كون هذه الجموع أوصافاً للملائكة , و إنّما هي أوصاف للأيدي و السهام و الخيول و الإبل في ساحة القتال . . . .
﴿ ... لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ... ﴾
ممّا أثار حول نظرة الإسلام عن المرأة هي مسألة إرثها نصف إرث الرجل , وربما كان الجدل عنيفاً في أوساط اُممية و في مؤتمرات عالميّة حول قضية المرأة . و ممّا توافق عليه ممثّلوا الدول الإسلامية مع خصومهم هو أنّ الإسلام أقرّ للمرأة ميراثها إجماليّاً تجاه الأنظمة القبائلية القائلة بحرمانها من الإرث رأساً و اقتنعوا بهذا القدر من التوافق بشأن إرث المرأة, مع الغضّ ـ حاليّاً ـ عن المقدار و سائر الجوانب الّتي يفصّلها الإسلام .
لكنّ الإسلام باعتباره شَريعة الله الخالدة الجامعة الشاملة قد قال كلمته الأخيرة و لا مجال للمحاباة فيما حكم به الإسلام حكمه الصريح الأبدي . و نحن نرى أيّ توافق يستلزم تنازلاً مّا عن الاُسس الإسلامية , مداهنةً و تراجعاً أمام هجمات العدوّ الجاهل , الأمر الذي يبدو على محيّاه الوهن و الضعف المقيت .
إنّ البيئة التي يرسمها الإسلام للحياة الاجتماعية ـ سواء في صورتها الصغرى ( الأسرة ) أو كبرى العامّة ـ تجعل من وظائف الرجل أثقل , و إنّ مسؤوليّته في حمل أعباء الحياة أشمل , حسبما أوتي من قدرة و تفكير أوسع , فكان بطبيعة الحال أن يجعل نصيبه من الميراث أكثر .
إنّه تعالى يرفض أوّلاً تلك العادات الجاهلية التي كانت تحرم النساء عن الميراث ﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ﴾
و بذلك أبطل عادةً جاهليةً كانت متحكّمة في نفوس أبناء الجزيرة , بل وفي أوساط أممية كانت سائدة في أكثر أرجاء العالم المتحضّر يومذاك .
روي عن ابن عبّاس أنّه لمّا نزلت الآية ثقلت على نفوس جاهلة , فجعلوا يتخافتون فيما بينهم أن اسكتوا عن هذا الحديث فلعلّ رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) ينساه . أو نقول له فيغيّره . فجاء لا يعطونها و لا الأطفال الصغار إلا لمن استطاع الركوب و القتال !
و بعد ذلك يأتي دور تعيين نصيبها من الميراث : ﴿ يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ... ﴾ . إنّ الله هو الذي يوصي , و هو الذي يفرض , فمن عند الله ترد التنظيمات و الشرائع و القوانين , و عن الله يتلقّى في أخصّ شؤونهم في الحياة , و هذا هو الدين . فليس هناك دينٌ للناس إذا لم يتلقّوا في شؤون حياتهم كلّها من الله وحده , و ليس هناك إسلام إذا هم تلقّوا في أيّ أمرٍ من هذه الاُمور ـ جلّ أو حقر ـ من مصدرٍ آخر . إنّما يكون الشرك أو الكفر , و تكون الجاهليّة التي جاء الإسلام ليقتلع جذورها من حياة الناس . فليس للناس أن يقولوا : إنّما نختار لأنفسنا و لذرّياتنا و نحن أعرف بمصالحنا . . فهذا ـ فوق أنّه باطل ـ هو في الوقت ذاته توقّح و تبجّح و تعالٍ على الله , و ادّعاءٌ لا يزعمه إلاّ متوقّح جهول .
و عليه , فليس الأمر في هذا أمر محاباة لجنسٍ على حساب جنس , إنّما الأمر توازن و عدل بين أعباء المرأة في التكوين العائلي و في النظام الاجتماعي الإسلامي . فالرجل يتزوّج امرأة يكلَّف إعالتها و إعالة أبنائها منه في كلّ حالة , و هي معه و هي معافة من هذه التكاليف . أمّا هي فإمّا أن تقوم بنفسها فقط , و إمّا أن يقوم بها رجل قبل الزواج و بعده سواء , و ليست مكلَّفة نفقة لزوج و لا للأبناء في أيّ حال . فالرجل مكلّف ـ على الأقلّ ـ ضعف أعباء المرأة في التكوين العائلي و في النظام الاجتماعي الإسلامي ـ أي النظام الذي رسمه لنا الإسلام ـ و من ثَمَّ يبدو العدل كما يبدو التناسق بين الغُنم و الغُرم في هذا التوزيع الحكيم . فما دامت الحياة التي نعيشها في ظلّ الإسلام مخطّطة وفق هذه الحكمة الرشيدة , فهذا التوزيع يتطابق مع هذا المخطّط ما دمنا نعترف به ونستسلم لقيادته . و يبدو كلّ نقاش في هذا التوزيع جهالة من ناحية و سوء أدبٍ مع الله من ناحيةٍ أخرى , و زعزعة للنظام الاجتماعي و الاُسري , لا تستقيم معها حياة حسب معتقدنا و نحن مسلمون . و التجربة العنيفة التي تجرّعتها سائر الاُمم و لا تزال هي خير شاهدة على اعتدال هذا النظام و انسجامه مع فطرة الإنسان و تكوينه في الحياة .