يذكر التاريخ أن أول مأتم أقيم بعد واقعة الطف مباشرةً، تكوّن من السيدات والفتيات والعلويات، وهن زوجات وأخوات وبنات الإمام الحسين (عليه السلام) والهاشميين الذين استشهدوا معه.. وقد عقد ذلك المأتم في العراء فوق ساحة المعركة وتحت بقايا شمس اليوم العاشر من المحرم، إذ كانت القلوب مثقلة بالأشجان والصدور، ملأى باللوعة والأحزان، تعالت فيها صرخات نساء بني هاشم في كل ركن من أركان الطف حيث قتل السبط الشهيد، فواحدة تندب أباها، وأخرى أخاها، وثالثة وليدها، فتمت إقامة المأتم على الحسين (عليه السلام) بعد تجمع النسوة، كأم كلثوم وزينب وسكينة وبقية النساء الهاشميات، وقيل أنه استمر ثلاثة أيام بلياليها.
كما أقيمت مآتم أخرى في وسط الطريق عندما سيقت النساء أسارى إلى الشام، فعلى طول الطريق كانت النساء يندبن قتلاهن، وينشرن مظلومية أهل البيت (عليهم السلام) والمبادئ التي قتل من أجلها الحسين وأصحابه.
يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): "وكلما دمعت عين واحد منا، قرعوا رأسه بالرمح تارة وبالسياط تارة أخرى".
ولقد شاء الله أن يفضح جريمة بني أمية في عقر دارهم، إذ أقامت العقيلة زينب (عليها السلام) وبقية الهاشميات بيتاً للنياحة على الحسين الشهيد في دمشق بالذات، فلم تبق هاشمية ولا قريشية إلا ولبست السواد حزناً على الحسين (عليه السلام) وندبته.
وانتقلت المآتم الحسينية إلى المدينة المنورة، وكانت أول صارخة فيها على الحسين (عليه السلام) عندما قتل بكربلاء أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله)، وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) دفع إليها قارورة فيها تربة من كربلاء، وقال لها: "إن جبرئيل أعلمني أن أمتي تقتل الحسين، وأعطاني هذه التربة، فإذا صارت دماً عبيطاً فاعلمي أن الحسين قد قتل"، فصارت القارورة عندها، فلما حضر ذلك الوقت جعلت تنظر إلى القارورة في كل ساعة، وفي يوم الطف رأتها صارت دماً عبيطاً، فصاحت: واحسيناه! يا ابن رسول الله!
فتصارخت النساء في المدينة، حتى سُمع في المدينة رجة ما سمع مثلها قط.
وأقامت أم سلمة أول مأتم للحسين (عليه السلام) في المدينة المنورة، وكان الموالون والمحبون يأتون جماعات وفرادى، ويحضرون المأتم ويقدمون تعازيهم ومواساتهم لأهل بيت النبوة، تارة بالنثر وتارة بالشعر، ويعبّرون عن مشاعرهم وأحزانهم بأبلغ بيان وأجمل تعبير، حتى إنهم تركوا ثروة أدبية لا يستهان بها في التسلية والمواساة.
وكان الواجب يقتضي إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام)، ليبقى كشريان نابض في حياة الأمة الإٍسلامية، يحفظ لها حيويتها بما يمثله من صور ناصعة للإسلام، وأصالة لم تشبها شائبة، لذلك استمرت المآتم ومجالس العزاء بالانعقاد، وتعاظم صداها على طول البلاد وعرضها، لتعبر عن حالة الهيجان الشعبي، ورغم كل الصعاب واصلت مسيرتها على مر الأيام والسنين، بقوة أحياناً وضعف أحياناً أخرى، حسب ما كانت تسمح به الظروف، ففي مدينة الدم والشهادة كان أول من أقام العزاء على الحسين في كربلاء من زوجاته الرباب، حيث يروى أنه لما قتل الحسين (عليه السلام)، أقامت امرأته الكلبية مأتماً وبكت عليه سنة كاملة [لواعج الأشجان لمحسن الأمين: 176].
وتروي كتب التاريخ أن أول زائر لقبر الحسين (عليه السلام) هو عبد الله بن الحر الجعفي لقرب موضعه منه، قصد الطف ووقف على الأجداث ونظر إلى مصارع القوم، فاستعبر باكياً ورثى الحسين بقصيدة معروفة.
يقول أمير غادر وابن غادر:
[الطبري: 6/271]
وجاء في بحار الأنوار: أن أول من قرأ الشعر على مصيبة سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) غير عبد الله بن الحر الجعفي المذكورة قصيدته آنفاً، هو الشاعر عقبة بن عمرو السهمي من قبيلة بني سهم:
[بحار الأنوار: 10/167]
وذكر الشيخ الطوسي في رجاله: إن أول زائر لقبر الحسين (عليه السلام) في كربلاء، هو جابر بن عبد الله الأنصاري السلمي الخزرجي، ويظهر من استقراء الروايات الواردة في هذا الباب، أن جابر بن عبد الله هو أول زائر للقبر في يوم الأربعين [موسوعة العتبات المقدسة، جعفر الخليلي: 8/257].
لقد أثرت هذه الزيارات وأبيات الشعر تأثيراً فاعلاً، في نفوس القائمين بها والمحيطين بهم، لاسيما وأن مدينة كربلاء قبلة حجة للزوار، وعلى مدى الأشهر القليلة استقطبت الكثير منهم، والذين بادروا إلى نقل مشاهداتهم ورواياتهم عن تلك الواقعة المرعبة، إلى ذويهم وأبناء قراهم ومدنهم، مما ساعد على تأجيج الحماس وإذكاء نيران الحقد ضد الطاغية يزيد، وهيجت مشاعر الناس البسطاء وأنصار آل البيت (عليهم السلام)، فعبروا عن غضبهم بشتى السبل، فقال بعضهم شعراً أو نثراً أو خطاباً..
وهذا كثير بن كثير السهمي الشاعر، يعجب لما وقع فيقول:
يأمن الظبي والحمام، ولا يأمن آل الرسول عند المقام، وهذه سيدة تخرج إلى الناس سائلة على لسان النبي (صلى الله عليه وآله):
ولم يقتصر الأمر على هؤلاء، بل كان لتدخل كبار الشعراء وعتابهم المرير على المتقاعسين عن نصرة الحسين، الأثر الكبير في تأجيج النيران ضد بني أمية، وفي تحريك الثوار.
يروى أن الفرزدق قال لما قتل الإمام الحسين (عليه السلام): إن غضبت العرب لابن سيدها وخيرها، فاعلموا إنه سيدوم عزها وتبقى هيبتها، وإن صبرت عليه ولم تتغير، لم يزدها الله إلى آخر الدهر إلا ذلاً.. وأنشد:
وقال عبيد الله بن الزبير الأسدي معاتباً:
وبعد هذا كله وغيره، نشطت ـ وبصورة ملحوظة ـ دعوات الثأر للحسين وصحبه، وكثرت المجالس التأبينية والمآتم.
وتجمع كتب التاريخ على أن أهل البيت وشيعتهم، كانوا يجتمعون يوم عاشوراء في كل عام في بيت من بيوت الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، ويقيمون النياحة، حيث يستحضر أحد الشعراء مأساة الطف، وكان هناك شعر غزير مملوء بالعواطف، ملتهب الوجدان، لم يسمح للشعراء آنذاك الجهر به، سمي بشعر (المكتمات) الذي منع من التداول [دراسات حول كربلاء، إبراهيم الحيدري: 709].
ولقد أتى هذا النشاط البسيط بمردود كبير لا يمكن نكرانه، في ربيع الأول من عام 65هـ، وفي عهد عبد الملك بن مروان، قصد كربلاءَ جماعةٌ من التوابين من أهل الكوفة، يقارب عددهم الأربعة آلاف نسمة، بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي، يطالبون بثارات الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، فازدحموا حول القبر كازدحام الناس عند لثم الحجر الأسود في الكعبة، ولم يكن إذ ذاك ما يظلل القبر، فكان ظاهراً معروفاً [الطبري: 3/417].
ومكثوا في كربلاء يوماً وليلة، بكوا وناحوا ثم رحلوا إلى (عين الوردة)، فقاتلوا الأمويين فيها وقتل رأسهم سليمان بن صرد الخزاعي، فتشتت شملهم.
ولهم في رثاء الحسين خطب وقصائد ورد ذكرها في (تاريخ الطبري) وغيره، كابن الأثير الذي يقول عن التوابين: ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين، فلما وصلوا صاحوا صيحة واحدة، فما رؤي أكثر باكياً من ذلك اليوم، فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه وترك القتال معه، وأقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرعون عليه وعلى أصحابه [مدينة الحسين، محمد حسن الكليدار: 2/73].
وتدريجياً، أصبحت كربلاء مزاراً يؤمه الكثير من المسلمين، بالرغم من محاولات المنع والتقييد والاضطهاد التي قام بها الأمويون، ومن بعدهم العباسيون، وقد أصبح قبر الإمام الحسين (عليه السلام) مركزاً لتجمع الشيعة القادمين من كل مكان، على مدار السنة وبخاصة يوم عاشوراء، ولهذا السبب عمل المتوكل العباسي على منع إقامة المآتم الحسينية، ومنع زيارة قبر الحسين (عليه السلام)، وكان بذلك أول شخص فعل ذلك، ولم يكتف المتوكل بهذا المنع، بل تطرف في عدائه للحسين، ويذكر ابن الأثير في حوادث سنة (236 هـ = 850 م) قائلاً: في هذه السنة أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي (عليه السلام)، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يبذر ويسقى موضع قبره [الكامل في التاريخ، لابن الأثير: 7/55، وفيات الأعيان لابن خلكان: 2/434].
علماً بأن المنصور الدوانيقي هو أول من هدم قبر الحسين، وجاء من بعده هارون الرشيد سنة (193 ه)، فهدم القبر وحرث الأرض وقطع شجرة السدر التي كانت قرب القبر، ليمحوا نهائياً آثار القبر الشريف [بحار الأنوار: 10/294، أعيان الشيعة: 4/304].
والثالث كان المتوكل، وإن ذكر أبو الفرج الأصفهاني: إن المتوكل هو أول من خرب القبر وهدمه، على يد اليهود الذين كانوا معه سنة 233 هـ [مقاتل الطالبيين: 203].
لم يمنع إرهاب المتوكل الشيعة من المضي في إقامة العزاء أو القيام بمراسيم زيارة قبر الحسين (عليه السلام)، بل استمروا في ذلك بتحدٍ مباشر أو بصورة غير علنية.
وبعد انهيار الدولة العباسية وصعود البويهيين إلى السلطة في القرن العاشر الميلادي، جاء معز الدولة البويهي (936 – 967 م)، وكان مع وزيره ابن المهلبي من الشيعة.
قال ابن الجوزي: جرت في العاشر من محرم عام (963 م = 352 هـ) ولأول مرة في التاريخ احتفالات رسمية وفريدة في يوم عاشوراء، حيث أغلقت الأسواق وسارت النادبات في شوارع بغداد، وقد سودن وجوههن وحللن شعورهن ومزقن ثيابهن، وهن يلطمن وجوههن ويرددن مرثية حزينة [المنتظم لابن الجوزي]، وأول من جعل اليوم العاشر من المحرم يوم حزن لذكرى موقعة كربلاء بصفة رسمية، هو معز الدولة البويهي [الشيعة في الميزان، محمد جواد مغنية: 136].
وإثر ذلك تنفس الشيعة الصعداء، وأصبح الإعلان عن شعائرهم بذكرى عاشوراء الدم أمراً متاحاً، وأخذوا يمارسون طقوسهم بحرية تامة وبصورة علنية.
وينقل المقريزي أيضاً: جرت شعائر الحزن والعزاء يوم عاشوراء أيضاً أيام الإخشيديين في مصر، واتسع نطاقها أيام الفاطميين، حيث توقف البيع والشراء وتعطلت الأسواق، وذهب الناس إلى مشاهد أم كلثوم ونفيسة في القاهرة، وهم باكون نائحون [نهضة الحسين، هبة الدين الشهرستاني: 163].
وذهب الفاطميون إلى إظهار الحزن على الإمام الحسين (عليه السلام) في عاشوراء، بصورة ملحمية مؤثرة في النفوس، فكانت مصر في دولتهم في اليوم العاشر من المحرم تبطل البيع والشراء وتعطل الأسواق، ويجتمع أهل النوح والنشيد ويطوفون بالأزقة والأسواق، ويأتون إلى مشهد أم كلثوم ونفيسة وغيرهما وهم نائحون باكون، ويمضون إلى الجامع الأزهر أو إلى دار الخليفة، ولربما حضر الخليفة وهو حاف وعليه شعار الحزن، فيقرأ مقتل الحسين (عليه السلام)، ثم ينشد الشعراء ما قالوه في الحسين وأهل البيت (عليهم السلام)، إلى أن ينتصف النهار فيدعى الناس إلى مائدة الخليفة، ولا تكون المائدة كموائد الأعياد، من فرش أحسن البسط واختيار أنفس الأطعمة وتوفر الألوان، وغير ذلك من مظاهر الملوكية وأبهة السلطة، بل تفرش الحصر ويمد سماط الحزن ويغير لون الخبز عمداً، ويجعلون على السماط ألباناً وجبناً وعسلاً وأمثال ذلك، ثم يخرجون بعد تناول الطعام على تلك الهيئة التي كانوا عليها من النوح والبكاء، ويستمر الحال إلى ما بعد العصر [تاريخ الشيعة، محمد حسين المظفر: 188].
كما أقيمت مآتم أخرى في وسط الطريق عندما سيقت النساء أسارى إلى الشام، فعلى طول الطريق كانت النساء يندبن قتلاهن، وينشرن مظلومية أهل البيت (عليهم السلام) والمبادئ التي قتل من أجلها الحسين وأصحابه.
يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): "وكلما دمعت عين واحد منا، قرعوا رأسه بالرمح تارة وبالسياط تارة أخرى".
ولقد شاء الله أن يفضح جريمة بني أمية في عقر دارهم، إذ أقامت العقيلة زينب (عليها السلام) وبقية الهاشميات بيتاً للنياحة على الحسين الشهيد في دمشق بالذات، فلم تبق هاشمية ولا قريشية إلا ولبست السواد حزناً على الحسين (عليه السلام) وندبته.
وانتقلت المآتم الحسينية إلى المدينة المنورة، وكانت أول صارخة فيها على الحسين (عليه السلام) عندما قتل بكربلاء أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله)، وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) دفع إليها قارورة فيها تربة من كربلاء، وقال لها: "إن جبرئيل أعلمني أن أمتي تقتل الحسين، وأعطاني هذه التربة، فإذا صارت دماً عبيطاً فاعلمي أن الحسين قد قتل"، فصارت القارورة عندها، فلما حضر ذلك الوقت جعلت تنظر إلى القارورة في كل ساعة، وفي يوم الطف رأتها صارت دماً عبيطاً، فصاحت: واحسيناه! يا ابن رسول الله!
فتصارخت النساء في المدينة، حتى سُمع في المدينة رجة ما سمع مثلها قط.
وأقامت أم سلمة أول مأتم للحسين (عليه السلام) في المدينة المنورة، وكان الموالون والمحبون يأتون جماعات وفرادى، ويحضرون المأتم ويقدمون تعازيهم ومواساتهم لأهل بيت النبوة، تارة بالنثر وتارة بالشعر، ويعبّرون عن مشاعرهم وأحزانهم بأبلغ بيان وأجمل تعبير، حتى إنهم تركوا ثروة أدبية لا يستهان بها في التسلية والمواساة.
وكان الواجب يقتضي إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام)، ليبقى كشريان نابض في حياة الأمة الإٍسلامية، يحفظ لها حيويتها بما يمثله من صور ناصعة للإسلام، وأصالة لم تشبها شائبة، لذلك استمرت المآتم ومجالس العزاء بالانعقاد، وتعاظم صداها على طول البلاد وعرضها، لتعبر عن حالة الهيجان الشعبي، ورغم كل الصعاب واصلت مسيرتها على مر الأيام والسنين، بقوة أحياناً وضعف أحياناً أخرى، حسب ما كانت تسمح به الظروف، ففي مدينة الدم والشهادة كان أول من أقام العزاء على الحسين في كربلاء من زوجاته الرباب، حيث يروى أنه لما قتل الحسين (عليه السلام)، أقامت امرأته الكلبية مأتماً وبكت عليه سنة كاملة [لواعج الأشجان لمحسن الأمين: 176].
وتروي كتب التاريخ أن أول زائر لقبر الحسين (عليه السلام) هو عبد الله بن الحر الجعفي لقرب موضعه منه، قصد الطف ووقف على الأجداث ونظر إلى مصارع القوم، فاستعبر باكياً ورثى الحسين بقصيدة معروفة.
يقول أمير غادر وابن غادر:
ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمة * فوا ندمي ألا أكون نصرته
ألا كل نفس لا تسدد نادمة
أهم مراراً أن أسير بجحفل * إلى فئة زاغت عن الحق ظالمة
ألا كل نفس لا تسدد نادمة
أهم مراراً أن أسير بجحفل * إلى فئة زاغت عن الحق ظالمة
[الطبري: 6/271]
وجاء في بحار الأنوار: أن أول من قرأ الشعر على مصيبة سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) غير عبد الله بن الحر الجعفي المذكورة قصيدته آنفاً، هو الشاعر عقبة بن عمرو السهمي من قبيلة بني سهم:
إذا العين قرّت في الجنان وأنتم * تخافون في الدنيا فأظلم نورها
مررت على قبر الحسين بكربلا * ففاض عليه من دموعي غزيرها
فما زلت أرثيه وأبكي لشجوه * ويسعد عيني دمعها وزفيرها
مررت على قبر الحسين بكربلا * ففاض عليه من دموعي غزيرها
فما زلت أرثيه وأبكي لشجوه * ويسعد عيني دمعها وزفيرها
[بحار الأنوار: 10/167]
وذكر الشيخ الطوسي في رجاله: إن أول زائر لقبر الحسين (عليه السلام) في كربلاء، هو جابر بن عبد الله الأنصاري السلمي الخزرجي، ويظهر من استقراء الروايات الواردة في هذا الباب، أن جابر بن عبد الله هو أول زائر للقبر في يوم الأربعين [موسوعة العتبات المقدسة، جعفر الخليلي: 8/257].
لقد أثرت هذه الزيارات وأبيات الشعر تأثيراً فاعلاً، في نفوس القائمين بها والمحيطين بهم، لاسيما وأن مدينة كربلاء قبلة حجة للزوار، وعلى مدى الأشهر القليلة استقطبت الكثير منهم، والذين بادروا إلى نقل مشاهداتهم ورواياتهم عن تلك الواقعة المرعبة، إلى ذويهم وأبناء قراهم ومدنهم، مما ساعد على تأجيج الحماس وإذكاء نيران الحقد ضد الطاغية يزيد، وهيجت مشاعر الناس البسطاء وأنصار آل البيت (عليهم السلام)، فعبروا عن غضبهم بشتى السبل، فقال بعضهم شعراً أو نثراً أو خطاباً..
وهذا كثير بن كثير السهمي الشاعر، يعجب لما وقع فيقول:
يأمن الظبي والحمام، ولا يأمن آل الرسول عند المقام، وهذه سيدة تخرج إلى الناس سائلة على لسان النبي (صلى الله عليه وآله):
ماذا تقولون إن قال النبي لكم: * ماذا فعلتم، وأنتم خيرة الأمم؟
بعترتي وبأهلي عند مفتقدي * منهم أسارى وقتلى ضرّجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذْ نصحت لكم * أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
بعترتي وبأهلي عند مفتقدي * منهم أسارى وقتلى ضرّجوا بدم
ما كان هذا جزائي إذْ نصحت لكم * أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
ولم يقتصر الأمر على هؤلاء، بل كان لتدخل كبار الشعراء وعتابهم المرير على المتقاعسين عن نصرة الحسين، الأثر الكبير في تأجيج النيران ضد بني أمية، وفي تحريك الثوار.
يروى أن الفرزدق قال لما قتل الإمام الحسين (عليه السلام): إن غضبت العرب لابن سيدها وخيرها، فاعلموا إنه سيدوم عزها وتبقى هيبتها، وإن صبرت عليه ولم تتغير، لم يزدها الله إلى آخر الدهر إلا ذلاً.. وأنشد:
فإن أنتمُ لم تثأروا لابن خيركم * فألقوا السلاح واغزلوا بالمغازل
[ديوان الفرزدق: دار صادر]وقال عبيد الله بن الزبير الأسدي معاتباً:
فإن أنتم لم تثأروا لأخيكمُ * فكونوا بغايا أرضيت بقليلِ
[الطبري: 6/214]وبعد هذا كله وغيره، نشطت ـ وبصورة ملحوظة ـ دعوات الثأر للحسين وصحبه، وكثرت المجالس التأبينية والمآتم.
وتجمع كتب التاريخ على أن أهل البيت وشيعتهم، كانوا يجتمعون يوم عاشوراء في كل عام في بيت من بيوت الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، ويقيمون النياحة، حيث يستحضر أحد الشعراء مأساة الطف، وكان هناك شعر غزير مملوء بالعواطف، ملتهب الوجدان، لم يسمح للشعراء آنذاك الجهر به، سمي بشعر (المكتمات) الذي منع من التداول [دراسات حول كربلاء، إبراهيم الحيدري: 709].
ولقد أتى هذا النشاط البسيط بمردود كبير لا يمكن نكرانه، في ربيع الأول من عام 65هـ، وفي عهد عبد الملك بن مروان، قصد كربلاءَ جماعةٌ من التوابين من أهل الكوفة، يقارب عددهم الأربعة آلاف نسمة، بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي، يطالبون بثارات الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، فازدحموا حول القبر كازدحام الناس عند لثم الحجر الأسود في الكعبة، ولم يكن إذ ذاك ما يظلل القبر، فكان ظاهراً معروفاً [الطبري: 3/417].
ومكثوا في كربلاء يوماً وليلة، بكوا وناحوا ثم رحلوا إلى (عين الوردة)، فقاتلوا الأمويين فيها وقتل رأسهم سليمان بن صرد الخزاعي، فتشتت شملهم.
ولهم في رثاء الحسين خطب وقصائد ورد ذكرها في (تاريخ الطبري) وغيره، كابن الأثير الذي يقول عن التوابين: ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين، فلما وصلوا صاحوا صيحة واحدة، فما رؤي أكثر باكياً من ذلك اليوم، فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه وترك القتال معه، وأقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرعون عليه وعلى أصحابه [مدينة الحسين، محمد حسن الكليدار: 2/73].
وتدريجياً، أصبحت كربلاء مزاراً يؤمه الكثير من المسلمين، بالرغم من محاولات المنع والتقييد والاضطهاد التي قام بها الأمويون، ومن بعدهم العباسيون، وقد أصبح قبر الإمام الحسين (عليه السلام) مركزاً لتجمع الشيعة القادمين من كل مكان، على مدار السنة وبخاصة يوم عاشوراء، ولهذا السبب عمل المتوكل العباسي على منع إقامة المآتم الحسينية، ومنع زيارة قبر الحسين (عليه السلام)، وكان بذلك أول شخص فعل ذلك، ولم يكتف المتوكل بهذا المنع، بل تطرف في عدائه للحسين، ويذكر ابن الأثير في حوادث سنة (236 هـ = 850 م) قائلاً: في هذه السنة أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي (عليه السلام)، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يبذر ويسقى موضع قبره [الكامل في التاريخ، لابن الأثير: 7/55، وفيات الأعيان لابن خلكان: 2/434].
علماً بأن المنصور الدوانيقي هو أول من هدم قبر الحسين، وجاء من بعده هارون الرشيد سنة (193 ه)، فهدم القبر وحرث الأرض وقطع شجرة السدر التي كانت قرب القبر، ليمحوا نهائياً آثار القبر الشريف [بحار الأنوار: 10/294، أعيان الشيعة: 4/304].
والثالث كان المتوكل، وإن ذكر أبو الفرج الأصفهاني: إن المتوكل هو أول من خرب القبر وهدمه، على يد اليهود الذين كانوا معه سنة 233 هـ [مقاتل الطالبيين: 203].
لم يمنع إرهاب المتوكل الشيعة من المضي في إقامة العزاء أو القيام بمراسيم زيارة قبر الحسين (عليه السلام)، بل استمروا في ذلك بتحدٍ مباشر أو بصورة غير علنية.
وبعد انهيار الدولة العباسية وصعود البويهيين إلى السلطة في القرن العاشر الميلادي، جاء معز الدولة البويهي (936 – 967 م)، وكان مع وزيره ابن المهلبي من الشيعة.
قال ابن الجوزي: جرت في العاشر من محرم عام (963 م = 352 هـ) ولأول مرة في التاريخ احتفالات رسمية وفريدة في يوم عاشوراء، حيث أغلقت الأسواق وسارت النادبات في شوارع بغداد، وقد سودن وجوههن وحللن شعورهن ومزقن ثيابهن، وهن يلطمن وجوههن ويرددن مرثية حزينة [المنتظم لابن الجوزي]، وأول من جعل اليوم العاشر من المحرم يوم حزن لذكرى موقعة كربلاء بصفة رسمية، هو معز الدولة البويهي [الشيعة في الميزان، محمد جواد مغنية: 136].
وإثر ذلك تنفس الشيعة الصعداء، وأصبح الإعلان عن شعائرهم بذكرى عاشوراء الدم أمراً متاحاً، وأخذوا يمارسون طقوسهم بحرية تامة وبصورة علنية.
وينقل المقريزي أيضاً: جرت شعائر الحزن والعزاء يوم عاشوراء أيضاً أيام الإخشيديين في مصر، واتسع نطاقها أيام الفاطميين، حيث توقف البيع والشراء وتعطلت الأسواق، وذهب الناس إلى مشاهد أم كلثوم ونفيسة في القاهرة، وهم باكون نائحون [نهضة الحسين، هبة الدين الشهرستاني: 163].
وذهب الفاطميون إلى إظهار الحزن على الإمام الحسين (عليه السلام) في عاشوراء، بصورة ملحمية مؤثرة في النفوس، فكانت مصر في دولتهم في اليوم العاشر من المحرم تبطل البيع والشراء وتعطل الأسواق، ويجتمع أهل النوح والنشيد ويطوفون بالأزقة والأسواق، ويأتون إلى مشهد أم كلثوم ونفيسة وغيرهما وهم نائحون باكون، ويمضون إلى الجامع الأزهر أو إلى دار الخليفة، ولربما حضر الخليفة وهو حاف وعليه شعار الحزن، فيقرأ مقتل الحسين (عليه السلام)، ثم ينشد الشعراء ما قالوه في الحسين وأهل البيت (عليهم السلام)، إلى أن ينتصف النهار فيدعى الناس إلى مائدة الخليفة، ولا تكون المائدة كموائد الأعياد، من فرش أحسن البسط واختيار أنفس الأطعمة وتوفر الألوان، وغير ذلك من مظاهر الملوكية وأبهة السلطة، بل تفرش الحصر ويمد سماط الحزن ويغير لون الخبز عمداً، ويجعلون على السماط ألباناً وجبناً وعسلاً وأمثال ذلك، ثم يخرجون بعد تناول الطعام على تلك الهيئة التي كانوا عليها من النوح والبكاء، ويستمر الحال إلى ما بعد العصر [تاريخ الشيعة، محمد حسين المظفر: 188].