بسم الله الرحمن الرحيم
وبغض النظر عن صحة او سقم الأقوال السابقة، الا ان هناك قولاً آخراً جدير بالاهتمام بل لعله الأقرب بينها لما يشتمل عليه من دليل قرآني مدعوم بنصوص روائية كثيرة، وملخصه: إن قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ([1])، قد أجابت على هذا التساؤل حين قالت: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي، فقد قيد استجابة الدعاء بأمرين:الأول: وجود دعوة من العبد، أي أنّ للعبد حاجة واقعية ممكنة يدعو بها حقيقة مع الالتفات إلى ما يكتنفها من ملابسات ومتعلقات؛ وهذا ما أشار اليه قوله تعالى: دَعْوَةَ الدَّاعِي.
الثاني: دعاء العبد ربه وحده بأن يعتقد إن الأمر كله لله وحده لا شريك له؛ وأشار اليها تعالى بقوله: إِذَا دَعَانِي. كما عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (ع) في قوله: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي، يعلمون أني أقدر على أن أعطيهم ما يسألوني([2]).
فلابد أولاً: من وجود حاجة حقيقية للعبد ليس له الاستغناء عنها، يدعو بها قلبه قبل لسانه، لا ما يتوهمه الإِنسان أحياناً، كأن يدعو الإِنسان فيسأل ما لا يمكن تحققه، أو ما لا يريده لو انكشف له حقيقة الأمر، او ما لا يريده حقيقة، وإنما قاله لغضب ونحوه كدعاء الأم على ولدها الصغير، قال تعالى: وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً([3])، يقول الشيخ الطبرسي (ره) في مجمع البيان: قيل في معناه أقوال ( أحدها ) أن الإنسان ربما يدعو في حال الزجر والغضب على نفسه وأهله وماله بما لا يجب أن يستجاب له فيه كما يدعو لنفسه بالخير فلو أجاب الله دعاءه لأهلكه لكنه لا يجيب بفضله ورحمته عن ابن عباس والحسن وقتادة([4]).
وعن الإمام أمير المؤمنين (ع) قال: يا صاحب الدعاء لا تسأل ما لا يكون ولا يحل([5]).
وفي أمالي الشيخ الطوسي والصدوق في خبر الشيخ الشامي أنه سأل أمير المؤمنين ع)) أي دعوة أضل قال: الداعي بما لا يكون([6]).
وكذا في عدة الداعي، قال أمير المؤمنين ع)): من سأل فوق قدره استحق الحرمان([7]).
ولا يخفى ان الدعاء بالحاجة يستدعي الالتفات وحضور القلب اثناء الدعاء وعدم الغفلة، فإن حقيقة الدعاء والسؤال هو الذي يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة، دون ما يأتي به اللسان مجرداً من دون احتياج حقيقي تشعر به النفس، ولذلك ترى أنه تعالى عد الكثير مما أنعم على عباده من نعم استجابة منه تعالى لدعائهم مع إنهم لم يسألوها بلسانهم، قال تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ([8])، فهم فيما لا يحصونها من النعم داعون سائلون ولم يسألوها بلسانهم الظاهر، بل بلسان فقرهم واستحقاقهم لساناً فطرياً وجودياً، بدليل ان ما يدعو به العبد بلسانه لا يستحيل احصائه.
والخلاصة: إن حقيقة الدعاء والسؤال هو الذي يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة، مواطئاً لما يحمله القلب دون ما يأتي به اللسان فقط الذي يدور كيفما أدير صدقاً أو كذباً جداً أو هزلاً حقيقة أو مجاز.
وهذا ما نصت عليه الأحاديث الواردة من طرق الفريقين ففي كتاب الأدعية المروية من الحضرة النبوية للسمعاني بإسناده المتصل عن النبي (ص) أنه قال: ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا ان الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه.
وعن طرق الخاصة ما رواه صاحب البحار عن الإمام الصادق(ع) قال: إن الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن الإجابة.
وثانياً: يجب تحقق السؤال من الله وحده وأما من لم يخلص الدعاء كمن يسأل الله حاجة من حوائجه وقلبه متعلق بالأسباب العادية أو بأمور وهمية توهم بعقله القاصر أنها كافية في أمره أو مؤثرة في شأنه؛ فهذا لم يسأل الله بالحقيقة فإن الله (جل جلاله) الذي يجيب الدعوات هو الذي لا شريك له في أمره، بينما الذي سأله العبد هو الذي يعمل بشركة الأسباب والأوهام، فهذا العبد لم يسأل الله حقيقة بل سأل إلهاً آخر.
فقوله تعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي، يدل على اشتراط الحقيقة دون التجوز والشبه، لأن قوله تعالى إِذَا دَعَانِي، يدل على أن وعد الإجابة المطلقة يتوقف على دعوته تعالى دون غيره ولو بالشركة، قال تعالى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ([9]).
من هنا نفهم سبب الاطلاق في إجابة دعوة المضطر في قوله تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ([10])، و إنما أخذ وصف الاضطرار ليتحقق بذلك من الداعي حقيقة الدعاء و المسألة، فإن الإِنسان إذا لم يقع في مضيقة الاضطرار وكان في مندوحة من المطلوب لم يتمحض منه الطلب.
ثم قيده بقوله: إِذَا دَعَاهُ للدلالة على أن المدعو يجب أن يكون هو الله سبحانه وإنما يكون ذلك عند ما ينقطع الداعي عن عامة الأسباب الظاهرية ويتعلق قلبه بربه وحده، وأما من تعلق قلبه بالأسباب الظاهرية فقط أو بالمجموع من ربه ومنها فليس يدعو ربه وإنما يدعو غيره كما ذكرنا سالفاً.
فإذا صدق في الدعاء وكان مدعوه ربه وحده فإنه تعالى يجيبه ويكشف السوء الذي اضطره إلى المسألة كما قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ([11])، فلم يشترط للاستجابة إلاّ أن يكون هناك دعاء حقيقة وأن يكون ذلك الدعاء متعلقاً به وحده.
وهذا ما أكدته أحاديث أهل بيت العصمة والطهارة (%)، فعن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بسنده قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع): إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ لَا يَسْأَلَ رَبَّهُ شَيْئاً إِلَّا أَعْطَاهُ فَلْيَيْأَسْ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ وَلَا يَكُونُ لَهُ رَجَاءٌ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ فَإِذَا عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِهِ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ شَيْئاً إِلَّا أَعْطَاهُ([12]).
وعن عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ(ع) قَالَ: رَأَيْتُ الْخَيْرَ كُلَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِي قَطْعِ الطَّمَعِ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ وَمَنْ لَمْ يَرْجُ النَّاسَ فِي شَيْءٍ وَرَدَّ أَمْرَهُ إلى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ اسْتَجَابَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ فِي كُلِّ شَيْ ءٍ([13]).
وعن أَحْمَدُ بْنُ فَهْدٍ فِي عُدَّةِ الدَّاعِي قَالَ وَرُوِيَ: أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلى عِيسَى (ع) ادْعُنِي دُعَاءَ الْحَزِينِ الْغَرِيقِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مُغِيثٌ يَا عِيسَى سَلْنِي وَلَا تَسْأَلْ غَيْرِي فَيَحْسُنَ مِنْكَ الدُّعَاءُ وَمِنِّي الْإِجَابَةُ ...الْحَدِيثَ.
وايضاً في الأمالي للشيخ الطوسي (ره) عن حفص بن غياث القاضي, قال سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد (ع) يقول: إذا أراد أحدكم أن لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه, فلييأس عن الناس كلهم, ولا يكون له رجاء إلاّ من الله (عز وجل), فإنه إذا علم الله (تعالى) ذلك من قلبه لم يسأل الله شيئاً إلاّ أعطاه...الحديث([14]).
وفي رواية هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) قال: إذا قال العبد لا حول ولا قوة إلاّ بالله قال الله عز وجل للملائكة استسلم عبدي اقضوا حاجته([15]).
و فِي ثَوَابِ الْأَعْمَالِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ (ص) قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ سَأَلَنِي وَهُوَ يَعْلَمُ أَنِّي أَضُرُّ وَأَنْفَعُ اسْتَجَبْتُ لَهُ([16]).
والخلاصة: فما لا يستجاب من الدعاء ولا يصادف الإجابة فقد فَقَدَ أحدَ الأمرين السابقين.
([1]) البقرة: 186.
([2]) بحار الأنوار: ج 90 ص 323.
([3]) الأسراء: 11.
([4]) مجمع البيان: ج6ص201.
([5]) وسائل الشيعة ج : 7 ص : 83، رقم الحديث: 8791.
([6]) الأمالي للشيخ الطوسي (ره): ص435، الأمالي للشيخ الصدوق: ص394.
([7]) عدّة الداعي: 152; البحار 93: 327.
([8]) إبراهيم: 34.
([9]) غافر: 14.
([10]) النمل: 62.
([11]) المؤمن: 60.
([12]) الكافي: ج2 ص148.
([13]) الكافي: ج2 ص148.
([14]) الأمالي للشيخ الطوسي: ص110-111.
([15]) وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة للحر العاملي: ج7ص218.
([16]) وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة للحر العاملي: ج7ص218.