السبب الثالث: الاختبار
السبب الثالث هو: الاختبار؛ فالمراد منه إظهار مكنون نفس المبتلى، فقد يظهر العبد إيماناً ويبطن كفراً، لكن في المواقف الصعبة والشديدة ليس له إلاّ الظهور على حقيقته؛ أهي طيّبة أم خبيثة، كما قال أمير المؤمنين (8): «في تقلب الاحوال، علم جواهر الرجال، والأيام توضح لك السرائر الكامنة»([1]).قال تعالى: )مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ(([2]).
وقال سبحانه وتعالى: )لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ(([3]).ومنه قول ابليس لعنه الله عند تكليفه وابتلائه بالسجود لآدم: )قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(([4])، فلولا هذا الاختبار والابتلاء ما ظهرت حقيقته وكبره وحسده، وقد كان يتمثل بالعبادة، وهذا لا يعني انه تعالى: كان جاهلاً بحقيقته والعياذ بالله )قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ(([5])، غاية ما في الأمر أنّه تعالى ألزم نفسه بمقتضى عدله أن لا يعاقب أحداً إلاّ بعد صدور المعصية منه، ولا يكفي علمه تعالى بنيته في ارتكابها، قال أمير المؤمنين:7 «ألا إن الله تعالى قد كشف الخلق كشفة، لا أنه جهل ما أخفوه من مصون أسرارهم ومكنون ضمائرهم، ولكن ليبلوهم أيهم أحسن عملا، فيكون الثواب جزاء والعقاب بواء»([6]).وفي الحقيقة نجد هذا المبدأ يطابق حتى بعض الأنظمة والقوانين الوضعية فلا يعاقب الإنسان بمجرد نيته السرقة، بل لابد من تحققها منه في الخارج، وهنا يأتي دور البلاء والاختبار ليظهر مكنونات قلب الإنسان الخيرة والشريرة.وقد أشار إلى هذا النوع من البلاء، قوله تعالى: )إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (([7]).وأوضح منه قوله تعالى: )وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (([8]).وقوله تعالى: )أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (([9]).وعن أمير المؤمنين (8) في قوله تعالى: )انما اموالكم واولادكم فتنة(: «ومعنى ذلك انه سبحانه يختبر عباده بالأموال والأولاد؛ ليتبين الساخط لرزقه، والراضي بقسمه، وإن كان سبحانه أعلم بهم من انفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب»([10]).

([1]) بحار الأنوار: ج71 ص163.
([2]) آل عمران: 179.
([3]) الأنفال: 37.
([4]) الحجر: 33.
([5]) آل عمران: 29.
([6]) شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد: 9 / 84.
([7]) آل عمران: 140-142.
([8]) آل عمران: 154.
([9]) التوبة: 16.
([10]) شرح النهج لآبن ابي الحديد:ج 18، ص 248.