بسم الله الرحمن الرحيم
عاد موضوع "إبليس" موضوعا مبتذلا عندنا لا يعبأ به دون أن نذكره أحيانا و نلعنه أو نتعوذ بالله منه أو نقبح بعض أفكارنا بأنها من الأفكار الشيطانية و وساوسه و نزغاته دون أن نتدبر فنحصل ما يعطيه القرآن الكريم في حقيقة هذا الموجود العجيب الغائب عن حواسنا، و ما له من عجيب التصرف و الولاية في العالم الإنساني.
و كيف لا و هو يصاحب العالم الإنساني على سعة نطاقه العجيبة منذ ظهر في الوجود حتى ينقضي أجله و ينقرض بانطواء بساط الدنيا ثم يلازمه بعد الممات ثم يكون قرينه حتى يورده النار الخالدة، و هو مع الواحد منا كما هو مع غيره هو معه في علانيته و سره يجاريه كلما جرى حتى في أخفى خيال يتخيله في زاوية من زوايا ذهنه أو فكرة يواريها في مطاوي سريرته لا يحجبه عنه حاجب، و لا يغفل عنه بشغل شاغل.
و أما الباحثون منا فقد أهملوا البحث عن ذلك و بنوا على ما بنى عليه باحثوا الصدر الأول سالكين ما خطوا لهم من طريق البحث، و هي النظريات الساذجة التي تلوح للأفهام العامية لأول مرة تلقوا الكلام الإلهي ثم التخاصم في ما يهتدي إليه فهم كل طائفة، خاصة و التحصن فيه ثم الدفاع عنه بأنواع الجدال، و الاشتغال بإحصاء إشكالات القصة و تقرير السؤال و الجواب بالوجه بعد الوجه.
لم خلق الله إبليس و هو يعلم من هو؟ لم أدخله في جمع الملائكة و ليس منهم؟ لم أمره بالسجدة و هو يعلم أنه لا يأتمر؟ لم لم يوفقه للسجدة و أغواه؟ لم لم يهلكه حين لم يسجد؟ لم أنظره إلى يوم يبعثون أو إلى يوم الوقت المعلوم؟ لم مكنه من بني آدم هذا التمكين العجيب الذي به يجري منهم مجرى الدم؟ لم أيده بالجنود من خيل و رجل و سلطه على جميع ما للحياة الإنسانية به مساس؟ لم لم يظهره على حواس الإنسان ليحترز مساسه؟ لم لم يؤيد الإنسان بمثل ما أيده به؟ و لم لم يكتم أسرار خلقه آدم و بنيه من إبليس حتى لا يطمع في إغوائهم؟ و كيف جازت المشافهة بينه و بين الله سبحانه و هو أبعد الخليقة منه و أبغضهم إليه و لم يكن بنبي و لا ملك؟ فقيل بمعجزة و قيل: بإيجاد آثار تدل على المراد، و لا دليل على شيء من ذلك.
ثم كيف دخل إبليس الجنة؟ و كيف جاز وقوع الوسوسة و الكذب و المعصية هناك و هي مكان الطهارة و القدس؟ و كيف صدقه آدم و كان قوله مخالفا لخبر الله؟ و كيف طمع في الملك و الخلود و ذلك يخالف اعتقاد المعاد؟ و كيف جازت منه المعصية و هو نبي معصوم؟ و كيف قبلت توبته و لم يرد إلى مقامه الأول و التائب من الذنب كمن لا ذنب له؟ و كيف...؟ و كيف...؟.
و قد بلغ من إهمال الباحثين في البحث الحقيقي و استرسالهم في الجدال إشكالا و جوابا أن ذهب الذاهب منهم إلى أن المراد بآدم هذا آدم النوعي و القصة تخييلية محضة و اختار آخرون أن إبليس الذي يخبر عنه القرآن الكريم هو القوة الداعية إلى الشر من الإنسان!.
و ذهب آخرون إلى جواز انتساب القبائح و الشنائع إليه تعالى و أن جميع المعاصي من فعله، و أنه يخلق الشر و القبيح فيفسد ما يصلحه، و أن الحسن هو الذي أمر به و القبيح هو الذي نهى عنه، و آخرون: إلى أن آدم لم يكن نبيا، و آخرون: إلى أن الأنبياء غير معصومين مطلقا، و آخرون: إلى أنهم غير معصومين قبل البعثة و قصة الجنة قبل بعثة آدم، و آخرون: إلى أن ذلك كله من الامتحان و اختبار و لم يبينوا ما هو الملاك الحقيقي في هذا الامتحان الذي يضل به كثيرون و يهلك به الأكثرون، و لو لا وجود ملاك يحسم مادة الإشكال لعادت الإشكالات بأجمعهم.
و الذي يمنع نجاح السعي في هذه الأبحاث و يختل به نتائجها هو أنهم لم يفرقوا في هذه المباحث جهاتها الحقيقية من جهاتها الاعتبارية، و لم يفصلوا التكوين عن التشريع فاختل بذلك نظام البحث، و حكموا في ناحية التكوين غالبا الأصول الوضيعة الاعتبارية الحاكمة في التشريعيات و الاجتماعيات.
و الذي يجب تحريره و تنقيحه على الحر الباحث عن هذه الحقائق الدينية المرتبطة بجهات التكوين أن يحرر جهات: الأولى: أن وجود شيء من الأشياء التي يتعلق بها الخلق و الإيجاد في نفسه - أعني وجوده النفسي من غير إضافة - لا يكون إلا خيرا و لا يقع إلا حسنا، فلو فرض محالا تعلق الخلقة بما فرض شرا في نفسه عاد أمرا موجودا له آثار وجودية يبتدىء من الله و يرتزق برزقه ثم ينتهي إليه فحاله حال سائر الخليقة ليس فيه أثر من الشر و القبح إلا أن يرتبط وجوده بغيره فيفسد نظاما عادلا في الوجود أو يوجب حرمان جمع من الموجودات من خيرها و سعادتها، و هذه هي الإضافة المذكورة.
و لذلك كان من الواجب في الحكمة الإلهية أن ينتفع من هذه الموجودات المضرة الوجود بما يربو على مضرتها و ذلك قوله تعالى: "الذي أحسن كل شيء خلقه": السجدة : 7، و قوله: "تبارك الله رب العالمين": الأعراف: 54، و قوله: "و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم": إسراء: 44.
و الثانية: أن عالم الصنع و الإيجاد على كثرة أجزائه و سعة عرضه مرتبط بعضه ببعض معطوف آخره إلى أوله فإيجاد بعضه إنما هو بإيجاد الجميع، و إصلاح الجزء إنما هو بإصلاح الكل فالاختلاف الموجود بين أجزاء العالم في الوجود و هو الذي صير العالم عالما ثم ارتباطها يستلزم استلزاما ضروريا في الحكمة الإلهية نسبة بعضها إلى بعض بالتنافي و التضاد أو بالكمال و النقص و الوجدان و الفقدان و النيل و الحرمان، و لو لا ذلك عاد جميع الأشياء إلى شيء واحد لا تميز فيه و لا اختلاف و يبطل بذلك الوجود قال تعالى: "و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر": القمر: 50.
فلو لا الشر و الفساد و التعب و الفقدان و النقص و الضعف و أمثالها في هذا العالم لما كان للخير و الصحة و الراحة و الوجدان و الكمال و القوة مصداق، و لا عقل منها معنى لأنا إنما نأخذ المعاني من مصاديقها.
و لو لا الشقاء لم تكن سعادة، و لو لا المعصية لم تتحقق طاعة، و لو لا القبح و الذم لم توجد حسن و لا مدح، و لو لا العقاب لم يحصل ثواب، و لو لا الدنيا لم تتكون آخرة.
فالطاعة مثلا امتثال الأمر المولوي فلو لم يمكن عدم الامتثال الذي هو المعصية لكان الفعل ضروريا لازما، و مع لزوم الفعل لا معنى للأمر المولوي لامتناع تحصيل الحاصل، و مع عدم الأمر المولوي لا مصداق للطاعة و لا مفهوم لها كما عرفت.
و مع بطلان الطاعة و المعصية يبطل المدح و الذم المتعلق بهما و الثواب و العقاب و الوعد و الوعيد و الإنذار و التبشير ثم الدين و الشريعة و الدعوة ثم النبوة و الرسالة ثم الاجتماع و المدنية ثم الإنسانية ثم كل شيء، و على هذا القياس جميع الأمور المتقابلة في النظام، فافهم ذلك.
و من هنا ينكشف لك أن وجود الشيطان الداعي إلى الشر و المعصية من أركان نظام العالم الإنساني الذي إنما يجري على سنة الاختيار و يقصد سعادة النوع.
و هو كالحاشية المكتنفة بالصراط المستقيم الذي في طبع هذا النوع أن يسلكه كادحا إلى ربه ليلاقيه، و من المعلوم أن الصراط إنما يتعين بمتنه صراطا بالحاشية الخارجة عنه الحافة به فلو لا الطرف لم يكن وسط فافهم ذلك و تذكر قوله تعالى: "قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم": الأعراف: 16، و قوله "قال: هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين": الحجر: 42.
إذا تأملت في هاتين الجهتين ثم تدبرت آيات قصة السجدة وجدتها صورة منبئة عن الروابط الواقعية التي بين النوع الإنساني و الملائكة و إبليس عبر عنها بالأمر و الامتثال و الاستكبار و الطرد و الرجم و السؤال و الجواب، و أن جميع الإشكالات الموردة فيها ناشئة من التفريط في تدبر القصة حتى أن بعض من تنبه لوجه الصواب و أنها تشير إلى ما عليه طبائع الإنسان و الملك و الشيطان ذكر أن الأمر و النهي - يريد أمر إبليس بالسجدة و نهي آدم عن أكل الشجرة - تكوينيان فأفسد بذلك ما قد كان أصلحه، و ذهل عن أن الأمر و النهي التكوينيين لا يقبلان التخلف و المخالفة، و قد خالف إبليس الأمر و خالف آدم النهي.
الثالثة: أن قصة الجنة مدلولها - على ما تقدم تفصيل القول فيها في سورة البقرة - ينبىء عن أن الله سبحانه خلق جنة برزخية سماوية، و أدخل آدم فيها قبل أن يستقر عليه الحياة الأرضية، و يغشاه التكليف المولوي ليختبر بذلك الطباع الإنساني فيظهر به أن الإنسان لا يسعه إلا أن يعيش على الأرض، و يتربى في حجر الأمر و النهي فيستحق السعادة و الجنة بالطاعة، و إن كان دون ذلك فدون ذلك، و لا يستطيع الإنسان أن يقف في موقف القرب و ينزل في منزل السعادة إلا بقطع هذا الطريق.
و بذلك ينكشف أن لا شيء من الإشكالات التي أوردوها في قصة الجنة فلا الجنة كانت جنة الخلد التي لا يدخلها إلا ولي من أولياء الله تعالى دخولا لا خروج بعده أبدا، و لا الدار كانت دارا دنيوية يعاش فيها عيشة دنيوية يديرها التشريع و يحكم فيها الأمر و النهي المولويان بل كانت دارا يظهر فيها حكم السجية الإنسانية لا سجية آدم (عليه السلام) بما هو شخص آدم إذ لم يؤمر بالسجدة له و لا أدخل الجنة إلا لأنه إنسان كما تقدم بيانه.
رجعنا إلى أول الكلام: لم يصف الله سبحانه من ذات هذا المخلوق الشرير الذي سماه إبليس إلا يسيرا و هو قوله تعالى: "كان من الجن ففسق عن أمر ربه": الكهف: 50، و ما حكاه عنه في كلامه: "خلقتني من نار" فبين أن بدء خلقته كان من نار من سنخ الجن و أما ما الذي آل إليه أمره فلم يذكره صريحا كما أنه لم يذكر تفصيل خلقته كما فصل القول في خلقة الإنسان.
نعم هناك آيات واصفة لصنعه و عمله يمكن أن يستفاد منها ما ينفع في هذا الباب قال تعالى حكاية عنه: "لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم و من خلفهم و عن أيمانهم و عن شمائلهم و لا تجد أكثرهم شاكرين": الأعراف: 17.
فأخبر أنه يتصرف فيهم من جهة العواطف النفسانية من خوف و رجاء و أمنية و أمل و شهوة و غضب ثم في أفكارهم و إرادتهم المنبعثة منها.
كما يقارنه في المعنى قوله: "قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض": الحجر: 39، أي لأزينن لهم الأمور الباطلة الرديئة الشوهاء بزخارف و زينات مهيأة من تعلق العواطف الداعية نحو اتباعها و لأغوينهم بذلك كالزنا مثلا يتصوره الإنسان و تزينه في نظره الشهوة و يضعف بقوتها ما يخطر بباله من المحذور في اقترافه فيصدق به فيقترفه، و نظير ذلك قوله "يعدهم و يمنيهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا": النساء: 120، و قوله: "فزين لهم الشيطان أعمالهم": النحل: 63.
كل ذلك - كما ترى - يدل على أن ميدان عمله هو الإدراك الإنساني و وسيلة عمله العواطف و الإحساسات الداخلة فهو الذي يلقي هذه الأوهام الكاذبة و الأفكار الباطلة في النفس الإنسانية كما يدل عليه قوله: "الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس": الناس: 5.
لكن الإنسان مع ذلك لا يشك في أن هذه الأفكار و الأوهام المسماة وساوس شيطانية أفكار لنفسه يوجدها هو في نفسه من غير أن يشعر بأحد سواه يلقيها إليه أو يتسبب إلى ذلك بشيء كما في سائر أفكاره و آرائه التي لا تتعلق بعمل و غيره كقولنا: الواحد نصف الاثنين و الأربعة زوج و أمثال ذلك.
فالإنسان هو الذي يوجد هذه الأفكار و الأوهام في نفسه كما أن الشيطان هو الذي يلقيها إليه و يخطرها بباله من غير تزاحم، و لو كان تسببه فيها نظير التسببات الدائرة فيما بيننا لمن ألقى إلينا خبرا أو حكما أو ما يشبه ذلك لكان إلقاؤه إلينا لا يجامع استقلالنا في التفكير، و لانتفت نسبة الفعل الاختياري إلينا لكون العلم و الترجيح و الإرادة له لا لنا، و لم يترتب على الفعل لوم و لا ذم و لا غيره، و قد نسبه الشيطان نفسه إلى الإنسان فيما حكاه الله من قوله يوم القيامة: "و قال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم و ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني و لوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم و ما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم": إبراهيم: 22، فنسب الفعل و الظلم و اللوم إليهم و سلبها عن نفسه، و نفى عن نفسه كل سلطان إلا السلطان على الدعوة و الوعد الكاذب كما قال تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين": الحجر: 42 فنفى سبحانه سلطانه إلا في ظرف الاتباع و نظيره قوله تعالى: "قال قرينة ربنا ما أطغيته و لكن كان في ضلال بعيد": ق: 27.
و بالجملة فإن تصرفه في إدراك الإنسان تصرف طولي لا ينافي قيامه بالإنسان و انتسابه إليه انتساب الفعل إلى فاعله لا عرضي ينافي ذلك.
فله أن يتصرف في الإدراك الإنساني بما يتعلق بالحياة الدنيا في جميع جهاتها بالغرور و التزيين فيضع الباطل مكان الحق و يظهره في صورته فلا يرتبط الإنسان بشيء إلا من وجهه الباطل الذي يغره و يصرفه عن الحق، و هذا هو الاستقلال الذي يراه الإنسان لنفسه أولا ثم لسائر الأسباب التي يرتبط بها في حياته فيحجبه ذلك عن الحق و يلهوه عن الحياة الحقيقية كما تقدم استفادة ذلك من قوله المحكي: "فبما أغويتني لأقعدن لهم": الأعراف: 16، و قوله: "رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض": الحجر: 39.
و يؤدي ذلك إلى الغفلة عن مقام الحق، و هو الأصل الذي ينتهي و يحلل إليه كل ذنب قال تعالى: "و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الإنس و الجن لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها و لهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون": الأعراف: 179.
فاستقلال الإنسان بنفسه و غفلته عن ربه و جميع ما يتفرع عليه من سيىء الاعتقاد و رديء الأوهام و الأفكار التي يرتضع عنها كل شرك و ظلم إنما هي من تصرف الشيطان في عين أن الإنسان يخيل إليه أنه هو الموجد لها القائم بها لما يراه من استقلال نفسه فقد صبغ نفسه صبغة لا يأتيه اعتقاد و لا عمل إلا صبغه بها.
و هذا هو دخوله تحت ولاية الشيطان و تدبيره و تصرفه من غير أن يتنبه لشيء أو يشعر بشيء وراء نفسه قال تعالى: "إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون": الأعراف: 27.
و ولاية الشيطان على الإنسان في المعاصي و المظالم على هذا النمط نظير ولاية الملائكة عليه في الطاعات و القربات، قال تعالى: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا و لا تحزنوا و أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياءكم في الحياة الدنيا": حم السجدة: 31، و الله من ورائهم محيط و هو الولي لا ولي سواه قال تعالى: "ما لكم من دونه من ولي و لا شفيع": السجدة: 4.
و هذا هو الاحتناك أي الإلجام الذي ذكره فيما حكاه الله تعالى عنه بقوله: "قال أ رأيتك هذا الذي كرمت علي إلى قوله لأحتنكن ذريته إلا قليلا قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا و استفزز من استطعت منهم بصوتك و أجلب عليهم بخيلك و رجلك و شاركهم في الأموال و الأولاد و عدهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا": إسراء: 64، أي لألجمنهم فأتسلط عليهم تسلط راكب الدابة الملجم لها عليها يطيعونني فيما آمرهم و يتوجهون إلى حيث أشير لهم إليه من غير أي عصيان و جماح.
و يظهر من الآيات أن له جندا يعينونه فيما يأمر به و يساعدونه على ما يريد و هو القبيل الذي ذكر في الآية السابقة: "إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم" و هؤلاء و إن بلغوا من كثرة العدد و تفنن العمل ما بلغوا فإنما صنعهم صنع نفس إبليس و وسوستهم نفس وسوسته كما يدل عليه قوله: "لأغوينهم أجمعين": الحجر: 39، و غيره مما حكته الآيات نظير ما يأتي به أعوان الملائكة العظام من الأعمال فتنسب إلى رئيسهم المستعمل لهم في ما يريده، قال تعالى في ملك الموت: "قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم": السجدة: 11، ثم قال: "حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا و هم لا يفرطون": الأنعام 61 إلى غير ذلك.
و تدل الآية: "الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة و الناس": الناس: 6 على أن في جنده اختلافا من حيث كون بعضهم من الجنة و بعضهم من الإنس و يدل قوله: "أ فتتخذونه و ذريته أولياء من دوني و هم لكم عدو": الكهف: 50، أن له ذرية هم من أعوانه و جنوده لكن لم يفصل كيفية انتشاء ذريته منه.
كما أن هناك نوعا آخر من الاختلاف يدل عليه قوله: "و أجلب عليهم بخيلك و رجلك" في الآية المتقدمة، و هو الاختلاف من جهة الشدة و الضعف و سرعة العمل و بطئه فإن الفارق بين الخيل و الرجل هو السرعة في اللحوق و الإدراك و عدمها.
و هناك نوع آخر من الاختلاف في العمل، و هو الاجتماع عليه و الانفراد كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: "و قل رب أعوذ بك من همزات الشياطين و أعوذ بك رب أن يحضرون": المؤمنون: 98، و لعل قوله تعالى: "هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع و أكثرهم كاذبون": الشعراء: 223 من هذا الباب.
فملخص البحث: أن إبليس لعنه الله موجود مخلوق ذو شعور و إرادة يدعو إلى الشر و يسوق إلى المعصية كان في مرتبة مشتركة مع الملائكة غير متميز منهم إلا بعد خلق الإنسان و حينئذ تميز منهم و وقع في جانب الشر و الفساد، و إليه يستند نوعا من الاستناد انحراف الإنسان عن الصراط المستقيم و ميله إلى جانب الشقاء و الضلال، و وقوعه في المعصية و الباطل كما أن الملك موجود مخلوق ذو إدراك و إرادة إليه يستند نوعا من الاستناد اهتداء الإنسان إلى غاية السعادة و منزل الكمال و القرب، و أن لإبليس أعوانا من الجن و الإنس و ذرية مختلفي الأنواع يجرون بأمره إياهم أن يتصرفوا في جميع ما يرتبط به الإنسان من الدنيا و ما فيها بإظهار الباطل في صورة الحق، و تزيين القبيح في صورة الحسن الجميل.
و هم يتصرفون في قلب الإنسان و في بدنه و في سائر شئون الحياة الدنيا من أموال و بنين و غير ذلك بتصرفات مختلفة اجتماعا و انفرادا، و سرعة و بطءا، و بلا واسطة و مع الواسطة و الواسطة ربما كانت خيرا أو شرا و طاعة أو معصية.
و لا يشعر الإنسان في شيء من ذلك بهم و لا أعمالهم بل لا يشعر إلا بنفسه و لا يقع بصره إلا بعمله فلا أفعالهم مزاحمة لأعمال الإنسان و لا ذواتهم و أعيانهم في عرض وجود الإنسان غير أن الله سبحانه أخبرنا أن إبليس من الجن و أنهم مخلوقون من النار، و كأن أول وجوده و آخره مختلفان.
عاد موضوع "إبليس" موضوعا مبتذلا عندنا لا يعبأ به دون أن نذكره أحيانا و نلعنه أو نتعوذ بالله منه أو نقبح بعض أفكارنا بأنها من الأفكار الشيطانية و وساوسه و نزغاته دون أن نتدبر فنحصل ما يعطيه القرآن الكريم في حقيقة هذا الموجود العجيب الغائب عن حواسنا، و ما له من عجيب التصرف و الولاية في العالم الإنساني.
و كيف لا و هو يصاحب العالم الإنساني على سعة نطاقه العجيبة منذ ظهر في الوجود حتى ينقضي أجله و ينقرض بانطواء بساط الدنيا ثم يلازمه بعد الممات ثم يكون قرينه حتى يورده النار الخالدة، و هو مع الواحد منا كما هو مع غيره هو معه في علانيته و سره يجاريه كلما جرى حتى في أخفى خيال يتخيله في زاوية من زوايا ذهنه أو فكرة يواريها في مطاوي سريرته لا يحجبه عنه حاجب، و لا يغفل عنه بشغل شاغل.
و أما الباحثون منا فقد أهملوا البحث عن ذلك و بنوا على ما بنى عليه باحثوا الصدر الأول سالكين ما خطوا لهم من طريق البحث، و هي النظريات الساذجة التي تلوح للأفهام العامية لأول مرة تلقوا الكلام الإلهي ثم التخاصم في ما يهتدي إليه فهم كل طائفة، خاصة و التحصن فيه ثم الدفاع عنه بأنواع الجدال، و الاشتغال بإحصاء إشكالات القصة و تقرير السؤال و الجواب بالوجه بعد الوجه.
لم خلق الله إبليس و هو يعلم من هو؟ لم أدخله في جمع الملائكة و ليس منهم؟ لم أمره بالسجدة و هو يعلم أنه لا يأتمر؟ لم لم يوفقه للسجدة و أغواه؟ لم لم يهلكه حين لم يسجد؟ لم أنظره إلى يوم يبعثون أو إلى يوم الوقت المعلوم؟ لم مكنه من بني آدم هذا التمكين العجيب الذي به يجري منهم مجرى الدم؟ لم أيده بالجنود من خيل و رجل و سلطه على جميع ما للحياة الإنسانية به مساس؟ لم لم يظهره على حواس الإنسان ليحترز مساسه؟ لم لم يؤيد الإنسان بمثل ما أيده به؟ و لم لم يكتم أسرار خلقه آدم و بنيه من إبليس حتى لا يطمع في إغوائهم؟ و كيف جازت المشافهة بينه و بين الله سبحانه و هو أبعد الخليقة منه و أبغضهم إليه و لم يكن بنبي و لا ملك؟ فقيل بمعجزة و قيل: بإيجاد آثار تدل على المراد، و لا دليل على شيء من ذلك.
ثم كيف دخل إبليس الجنة؟ و كيف جاز وقوع الوسوسة و الكذب و المعصية هناك و هي مكان الطهارة و القدس؟ و كيف صدقه آدم و كان قوله مخالفا لخبر الله؟ و كيف طمع في الملك و الخلود و ذلك يخالف اعتقاد المعاد؟ و كيف جازت منه المعصية و هو نبي معصوم؟ و كيف قبلت توبته و لم يرد إلى مقامه الأول و التائب من الذنب كمن لا ذنب له؟ و كيف...؟ و كيف...؟.
و قد بلغ من إهمال الباحثين في البحث الحقيقي و استرسالهم في الجدال إشكالا و جوابا أن ذهب الذاهب منهم إلى أن المراد بآدم هذا آدم النوعي و القصة تخييلية محضة و اختار آخرون أن إبليس الذي يخبر عنه القرآن الكريم هو القوة الداعية إلى الشر من الإنسان!.
و ذهب آخرون إلى جواز انتساب القبائح و الشنائع إليه تعالى و أن جميع المعاصي من فعله، و أنه يخلق الشر و القبيح فيفسد ما يصلحه، و أن الحسن هو الذي أمر به و القبيح هو الذي نهى عنه، و آخرون: إلى أن آدم لم يكن نبيا، و آخرون: إلى أن الأنبياء غير معصومين مطلقا، و آخرون: إلى أنهم غير معصومين قبل البعثة و قصة الجنة قبل بعثة آدم، و آخرون: إلى أن ذلك كله من الامتحان و اختبار و لم يبينوا ما هو الملاك الحقيقي في هذا الامتحان الذي يضل به كثيرون و يهلك به الأكثرون، و لو لا وجود ملاك يحسم مادة الإشكال لعادت الإشكالات بأجمعهم.
و الذي يمنع نجاح السعي في هذه الأبحاث و يختل به نتائجها هو أنهم لم يفرقوا في هذه المباحث جهاتها الحقيقية من جهاتها الاعتبارية، و لم يفصلوا التكوين عن التشريع فاختل بذلك نظام البحث، و حكموا في ناحية التكوين غالبا الأصول الوضيعة الاعتبارية الحاكمة في التشريعيات و الاجتماعيات.
و الذي يجب تحريره و تنقيحه على الحر الباحث عن هذه الحقائق الدينية المرتبطة بجهات التكوين أن يحرر جهات: الأولى: أن وجود شيء من الأشياء التي يتعلق بها الخلق و الإيجاد في نفسه - أعني وجوده النفسي من غير إضافة - لا يكون إلا خيرا و لا يقع إلا حسنا، فلو فرض محالا تعلق الخلقة بما فرض شرا في نفسه عاد أمرا موجودا له آثار وجودية يبتدىء من الله و يرتزق برزقه ثم ينتهي إليه فحاله حال سائر الخليقة ليس فيه أثر من الشر و القبح إلا أن يرتبط وجوده بغيره فيفسد نظاما عادلا في الوجود أو يوجب حرمان جمع من الموجودات من خيرها و سعادتها، و هذه هي الإضافة المذكورة.
و لذلك كان من الواجب في الحكمة الإلهية أن ينتفع من هذه الموجودات المضرة الوجود بما يربو على مضرتها و ذلك قوله تعالى: "الذي أحسن كل شيء خلقه": السجدة : 7، و قوله: "تبارك الله رب العالمين": الأعراف: 54، و قوله: "و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم": إسراء: 44.
و الثانية: أن عالم الصنع و الإيجاد على كثرة أجزائه و سعة عرضه مرتبط بعضه ببعض معطوف آخره إلى أوله فإيجاد بعضه إنما هو بإيجاد الجميع، و إصلاح الجزء إنما هو بإصلاح الكل فالاختلاف الموجود بين أجزاء العالم في الوجود و هو الذي صير العالم عالما ثم ارتباطها يستلزم استلزاما ضروريا في الحكمة الإلهية نسبة بعضها إلى بعض بالتنافي و التضاد أو بالكمال و النقص و الوجدان و الفقدان و النيل و الحرمان، و لو لا ذلك عاد جميع الأشياء إلى شيء واحد لا تميز فيه و لا اختلاف و يبطل بذلك الوجود قال تعالى: "و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر": القمر: 50.
فلو لا الشر و الفساد و التعب و الفقدان و النقص و الضعف و أمثالها في هذا العالم لما كان للخير و الصحة و الراحة و الوجدان و الكمال و القوة مصداق، و لا عقل منها معنى لأنا إنما نأخذ المعاني من مصاديقها.
و لو لا الشقاء لم تكن سعادة، و لو لا المعصية لم تتحقق طاعة، و لو لا القبح و الذم لم توجد حسن و لا مدح، و لو لا العقاب لم يحصل ثواب، و لو لا الدنيا لم تتكون آخرة.
فالطاعة مثلا امتثال الأمر المولوي فلو لم يمكن عدم الامتثال الذي هو المعصية لكان الفعل ضروريا لازما، و مع لزوم الفعل لا معنى للأمر المولوي لامتناع تحصيل الحاصل، و مع عدم الأمر المولوي لا مصداق للطاعة و لا مفهوم لها كما عرفت.
و مع بطلان الطاعة و المعصية يبطل المدح و الذم المتعلق بهما و الثواب و العقاب و الوعد و الوعيد و الإنذار و التبشير ثم الدين و الشريعة و الدعوة ثم النبوة و الرسالة ثم الاجتماع و المدنية ثم الإنسانية ثم كل شيء، و على هذا القياس جميع الأمور المتقابلة في النظام، فافهم ذلك.
و من هنا ينكشف لك أن وجود الشيطان الداعي إلى الشر و المعصية من أركان نظام العالم الإنساني الذي إنما يجري على سنة الاختيار و يقصد سعادة النوع.
و هو كالحاشية المكتنفة بالصراط المستقيم الذي في طبع هذا النوع أن يسلكه كادحا إلى ربه ليلاقيه، و من المعلوم أن الصراط إنما يتعين بمتنه صراطا بالحاشية الخارجة عنه الحافة به فلو لا الطرف لم يكن وسط فافهم ذلك و تذكر قوله تعالى: "قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم": الأعراف: 16، و قوله "قال: هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين": الحجر: 42.
إذا تأملت في هاتين الجهتين ثم تدبرت آيات قصة السجدة وجدتها صورة منبئة عن الروابط الواقعية التي بين النوع الإنساني و الملائكة و إبليس عبر عنها بالأمر و الامتثال و الاستكبار و الطرد و الرجم و السؤال و الجواب، و أن جميع الإشكالات الموردة فيها ناشئة من التفريط في تدبر القصة حتى أن بعض من تنبه لوجه الصواب و أنها تشير إلى ما عليه طبائع الإنسان و الملك و الشيطان ذكر أن الأمر و النهي - يريد أمر إبليس بالسجدة و نهي آدم عن أكل الشجرة - تكوينيان فأفسد بذلك ما قد كان أصلحه، و ذهل عن أن الأمر و النهي التكوينيين لا يقبلان التخلف و المخالفة، و قد خالف إبليس الأمر و خالف آدم النهي.
الثالثة: أن قصة الجنة مدلولها - على ما تقدم تفصيل القول فيها في سورة البقرة - ينبىء عن أن الله سبحانه خلق جنة برزخية سماوية، و أدخل آدم فيها قبل أن يستقر عليه الحياة الأرضية، و يغشاه التكليف المولوي ليختبر بذلك الطباع الإنساني فيظهر به أن الإنسان لا يسعه إلا أن يعيش على الأرض، و يتربى في حجر الأمر و النهي فيستحق السعادة و الجنة بالطاعة، و إن كان دون ذلك فدون ذلك، و لا يستطيع الإنسان أن يقف في موقف القرب و ينزل في منزل السعادة إلا بقطع هذا الطريق.
و بذلك ينكشف أن لا شيء من الإشكالات التي أوردوها في قصة الجنة فلا الجنة كانت جنة الخلد التي لا يدخلها إلا ولي من أولياء الله تعالى دخولا لا خروج بعده أبدا، و لا الدار كانت دارا دنيوية يعاش فيها عيشة دنيوية يديرها التشريع و يحكم فيها الأمر و النهي المولويان بل كانت دارا يظهر فيها حكم السجية الإنسانية لا سجية آدم (عليه السلام) بما هو شخص آدم إذ لم يؤمر بالسجدة له و لا أدخل الجنة إلا لأنه إنسان كما تقدم بيانه.
رجعنا إلى أول الكلام: لم يصف الله سبحانه من ذات هذا المخلوق الشرير الذي سماه إبليس إلا يسيرا و هو قوله تعالى: "كان من الجن ففسق عن أمر ربه": الكهف: 50، و ما حكاه عنه في كلامه: "خلقتني من نار" فبين أن بدء خلقته كان من نار من سنخ الجن و أما ما الذي آل إليه أمره فلم يذكره صريحا كما أنه لم يذكر تفصيل خلقته كما فصل القول في خلقة الإنسان.
نعم هناك آيات واصفة لصنعه و عمله يمكن أن يستفاد منها ما ينفع في هذا الباب قال تعالى حكاية عنه: "لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم و من خلفهم و عن أيمانهم و عن شمائلهم و لا تجد أكثرهم شاكرين": الأعراف: 17.
فأخبر أنه يتصرف فيهم من جهة العواطف النفسانية من خوف و رجاء و أمنية و أمل و شهوة و غضب ثم في أفكارهم و إرادتهم المنبعثة منها.
كما يقارنه في المعنى قوله: "قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض": الحجر: 39، أي لأزينن لهم الأمور الباطلة الرديئة الشوهاء بزخارف و زينات مهيأة من تعلق العواطف الداعية نحو اتباعها و لأغوينهم بذلك كالزنا مثلا يتصوره الإنسان و تزينه في نظره الشهوة و يضعف بقوتها ما يخطر بباله من المحذور في اقترافه فيصدق به فيقترفه، و نظير ذلك قوله "يعدهم و يمنيهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا": النساء: 120، و قوله: "فزين لهم الشيطان أعمالهم": النحل: 63.
كل ذلك - كما ترى - يدل على أن ميدان عمله هو الإدراك الإنساني و وسيلة عمله العواطف و الإحساسات الداخلة فهو الذي يلقي هذه الأوهام الكاذبة و الأفكار الباطلة في النفس الإنسانية كما يدل عليه قوله: "الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس": الناس: 5.
لكن الإنسان مع ذلك لا يشك في أن هذه الأفكار و الأوهام المسماة وساوس شيطانية أفكار لنفسه يوجدها هو في نفسه من غير أن يشعر بأحد سواه يلقيها إليه أو يتسبب إلى ذلك بشيء كما في سائر أفكاره و آرائه التي لا تتعلق بعمل و غيره كقولنا: الواحد نصف الاثنين و الأربعة زوج و أمثال ذلك.
فالإنسان هو الذي يوجد هذه الأفكار و الأوهام في نفسه كما أن الشيطان هو الذي يلقيها إليه و يخطرها بباله من غير تزاحم، و لو كان تسببه فيها نظير التسببات الدائرة فيما بيننا لمن ألقى إلينا خبرا أو حكما أو ما يشبه ذلك لكان إلقاؤه إلينا لا يجامع استقلالنا في التفكير، و لانتفت نسبة الفعل الاختياري إلينا لكون العلم و الترجيح و الإرادة له لا لنا، و لم يترتب على الفعل لوم و لا ذم و لا غيره، و قد نسبه الشيطان نفسه إلى الإنسان فيما حكاه الله من قوله يوم القيامة: "و قال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم و ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني و لوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم و ما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم": إبراهيم: 22، فنسب الفعل و الظلم و اللوم إليهم و سلبها عن نفسه، و نفى عن نفسه كل سلطان إلا السلطان على الدعوة و الوعد الكاذب كما قال تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين": الحجر: 42 فنفى سبحانه سلطانه إلا في ظرف الاتباع و نظيره قوله تعالى: "قال قرينة ربنا ما أطغيته و لكن كان في ضلال بعيد": ق: 27.
و بالجملة فإن تصرفه في إدراك الإنسان تصرف طولي لا ينافي قيامه بالإنسان و انتسابه إليه انتساب الفعل إلى فاعله لا عرضي ينافي ذلك.
فله أن يتصرف في الإدراك الإنساني بما يتعلق بالحياة الدنيا في جميع جهاتها بالغرور و التزيين فيضع الباطل مكان الحق و يظهره في صورته فلا يرتبط الإنسان بشيء إلا من وجهه الباطل الذي يغره و يصرفه عن الحق، و هذا هو الاستقلال الذي يراه الإنسان لنفسه أولا ثم لسائر الأسباب التي يرتبط بها في حياته فيحجبه ذلك عن الحق و يلهوه عن الحياة الحقيقية كما تقدم استفادة ذلك من قوله المحكي: "فبما أغويتني لأقعدن لهم": الأعراف: 16، و قوله: "رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض": الحجر: 39.
و يؤدي ذلك إلى الغفلة عن مقام الحق، و هو الأصل الذي ينتهي و يحلل إليه كل ذنب قال تعالى: "و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الإنس و الجن لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها و لهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون": الأعراف: 179.
فاستقلال الإنسان بنفسه و غفلته عن ربه و جميع ما يتفرع عليه من سيىء الاعتقاد و رديء الأوهام و الأفكار التي يرتضع عنها كل شرك و ظلم إنما هي من تصرف الشيطان في عين أن الإنسان يخيل إليه أنه هو الموجد لها القائم بها لما يراه من استقلال نفسه فقد صبغ نفسه صبغة لا يأتيه اعتقاد و لا عمل إلا صبغه بها.
و هذا هو دخوله تحت ولاية الشيطان و تدبيره و تصرفه من غير أن يتنبه لشيء أو يشعر بشيء وراء نفسه قال تعالى: "إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون": الأعراف: 27.
و ولاية الشيطان على الإنسان في المعاصي و المظالم على هذا النمط نظير ولاية الملائكة عليه في الطاعات و القربات، قال تعالى: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا و لا تحزنوا و أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياءكم في الحياة الدنيا": حم السجدة: 31، و الله من ورائهم محيط و هو الولي لا ولي سواه قال تعالى: "ما لكم من دونه من ولي و لا شفيع": السجدة: 4.
و هذا هو الاحتناك أي الإلجام الذي ذكره فيما حكاه الله تعالى عنه بقوله: "قال أ رأيتك هذا الذي كرمت علي إلى قوله لأحتنكن ذريته إلا قليلا قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا و استفزز من استطعت منهم بصوتك و أجلب عليهم بخيلك و رجلك و شاركهم في الأموال و الأولاد و عدهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا": إسراء: 64، أي لألجمنهم فأتسلط عليهم تسلط راكب الدابة الملجم لها عليها يطيعونني فيما آمرهم و يتوجهون إلى حيث أشير لهم إليه من غير أي عصيان و جماح.
و يظهر من الآيات أن له جندا يعينونه فيما يأمر به و يساعدونه على ما يريد و هو القبيل الذي ذكر في الآية السابقة: "إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم" و هؤلاء و إن بلغوا من كثرة العدد و تفنن العمل ما بلغوا فإنما صنعهم صنع نفس إبليس و وسوستهم نفس وسوسته كما يدل عليه قوله: "لأغوينهم أجمعين": الحجر: 39، و غيره مما حكته الآيات نظير ما يأتي به أعوان الملائكة العظام من الأعمال فتنسب إلى رئيسهم المستعمل لهم في ما يريده، قال تعالى في ملك الموت: "قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم": السجدة: 11، ثم قال: "حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا و هم لا يفرطون": الأنعام 61 إلى غير ذلك.
و تدل الآية: "الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة و الناس": الناس: 6 على أن في جنده اختلافا من حيث كون بعضهم من الجنة و بعضهم من الإنس و يدل قوله: "أ فتتخذونه و ذريته أولياء من دوني و هم لكم عدو": الكهف: 50، أن له ذرية هم من أعوانه و جنوده لكن لم يفصل كيفية انتشاء ذريته منه.
كما أن هناك نوعا آخر من الاختلاف يدل عليه قوله: "و أجلب عليهم بخيلك و رجلك" في الآية المتقدمة، و هو الاختلاف من جهة الشدة و الضعف و سرعة العمل و بطئه فإن الفارق بين الخيل و الرجل هو السرعة في اللحوق و الإدراك و عدمها.
و هناك نوع آخر من الاختلاف في العمل، و هو الاجتماع عليه و الانفراد كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: "و قل رب أعوذ بك من همزات الشياطين و أعوذ بك رب أن يحضرون": المؤمنون: 98، و لعل قوله تعالى: "هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع و أكثرهم كاذبون": الشعراء: 223 من هذا الباب.
فملخص البحث: أن إبليس لعنه الله موجود مخلوق ذو شعور و إرادة يدعو إلى الشر و يسوق إلى المعصية كان في مرتبة مشتركة مع الملائكة غير متميز منهم إلا بعد خلق الإنسان و حينئذ تميز منهم و وقع في جانب الشر و الفساد، و إليه يستند نوعا من الاستناد انحراف الإنسان عن الصراط المستقيم و ميله إلى جانب الشقاء و الضلال، و وقوعه في المعصية و الباطل كما أن الملك موجود مخلوق ذو إدراك و إرادة إليه يستند نوعا من الاستناد اهتداء الإنسان إلى غاية السعادة و منزل الكمال و القرب، و أن لإبليس أعوانا من الجن و الإنس و ذرية مختلفي الأنواع يجرون بأمره إياهم أن يتصرفوا في جميع ما يرتبط به الإنسان من الدنيا و ما فيها بإظهار الباطل في صورة الحق، و تزيين القبيح في صورة الحسن الجميل.
و هم يتصرفون في قلب الإنسان و في بدنه و في سائر شئون الحياة الدنيا من أموال و بنين و غير ذلك بتصرفات مختلفة اجتماعا و انفرادا، و سرعة و بطءا، و بلا واسطة و مع الواسطة و الواسطة ربما كانت خيرا أو شرا و طاعة أو معصية.
و لا يشعر الإنسان في شيء من ذلك بهم و لا أعمالهم بل لا يشعر إلا بنفسه و لا يقع بصره إلا بعمله فلا أفعالهم مزاحمة لأعمال الإنسان و لا ذواتهم و أعيانهم في عرض وجود الإنسان غير أن الله سبحانه أخبرنا أن إبليس من الجن و أنهم مخلوقون من النار، و كأن أول وجوده و آخره مختلفان.