ظلّ يتأمل صورتها التي لم تفارق مخيلته.. حتى باتت أميرة دفاتره وأشعاره.. ربط مستقبله وسر سعادته ونجاحه بالاقتران بها.. شغف بها حد الجنون.. لكن سحب الواقع المدلهمة بزخات اليأس.. جراء الفقر وقلة ذات اليد.. وانعدام فرص التألق في الحياة.. جعلته يقدم خطوة ويتراجع خطوات.. كيف يمكنه أن يجعل حياة حبيبته أحلى وأجمل..؟ هل يقترن بها ليذيقها مرارة العيش الذي كابده منذ نعومة أظفاره.. ؟ أي حب ذاك الذي سيتلاشى مع أول هبوب لأعاصير الزمن القاني، ورياحه المعتمة بسرابيل الحظ العاثر الذي لم يفارقه طيلة حياته..!
لم يكن والدها مقتنعا.. فهو يريد لابنته شابا قويا ميسور الحال.. يعتمد عليه حين يكشر الدهر أنيابه.. وتستأسد الخطوب.. وليس شاباً أسير تمنياته وأحلامه..!
مضى حميد إلى حال سبيله.. طاوياً همومه وجراحاته.. عاقداً الهمة على صنع مستقبله بعرق جبينه.. والبحث عن معان أكبر للحياة والحب..
:- إلى أين تمضي يا عزيز.. ؟ سأل رفيق دربه وربيب طفولته ودراسته..
:- سأمضي لأرجع وطني من براثن الإرهابيين الغزاة..
:- ولكن يا عزيز.. أي وطن ذاك الذي ستعيده.. وأنت لا تملك فيه شبرا..؟! هل ابتسم لنا يوما.. لنعيد له ابتسامته.. الفقر في الوطن غربة يا عزيز..!
:- عجبا لأفكارك يا حميد.. وتأويلك للأحاديث في غير مقاصدها.. أليس حب الأوطان من الإيمان.. ؟! هل نقايض الوطن مقايضة السلع الرخيصة..؟! الحب يا عزيزي لا يعرف المقايضة.. هو أن تعطي وتضحي وتبذل كل ما لديك في سبيل إرضاء المحبوب.. فكيف والمحبوب هو الوطن بأنهاره وخيراته ومقدساته وتاريخه العريق..؟!
ودع صديقه بحفاوة وألم.. وظلت عيناه تراقبان خطواته التي تغرس الأمل.. وتفجر أنهار الربيع.. رمق السماء بزرقتها التي خفت بريقها بدخان الحرب، وألسنة اللهب المتصاعد..
أمسى يحدق بكل صور الوطن ومشاهد الحياة اليومية.. (الحب لا يعرف المقايضة) أضحت عبارة عزيز لا تفارق تفكيره.. أي حب سيبقى، وأي ربيع، وأي غصن زيتون.. إن وطأت اقدامهم حدائقنا.. واقتادوا فراشاتنا سبايا.. لأحضان أبناء البغي وأحفاد الطلقاء..؟!
فكر في أن علقة الوطن، وعشق السواتر، ونكهة البارود هي الأقوى..
فلولاها لتيتمت الفراشات.. وادلهمت نهارات الحقول.. وما كان للعاشقين مأوى ولا ملاذ..
اتصل بصديقه عزيز، وطلب منه أن يتتظره في بيجي منطقة الـ600.. تفاجأ عزيز من من قراره المفاجئ.. واستفهم الأمر.. فقال له: لقد وجدت عروسي التي كنت أحلم بها.. إنها هناك.. تمشط ضفائرها على ضفاف الفرات.. وفوق التلال والقرى والقصبات..
التحق حميد برفاق الدفاع المقدس.. وقلبه يتحرق شوقاً للقاء محبوبته.. إنها هناك.. في كل مكان عبق بالفداء.. في كل ذرة تكحلت بعطر الأبطال.. وغيرة الشجعان..
كانت حركته دؤوبة.. يقود العجلات.. ويصنع السواتر.. ويشحذذ الهمم.. ويفدي رفاقه بنفسه.. حتى إذا جنّ عليه الليل.. لم يكن مقتنعا بما قدمه..
:- حميد.. هوّن عليك يا أخي.. لقد بذلت ما بوسعك.. وكنتَ بهمة مئة رجل..
:- ولكني أتوق إلى العشق بجنون عابس.. ووفاء زهير.. وصولات حبيب.. آه يا حبيب.. ومن مثلك يا حبيب..؟
بللت دموعه قصاصات أوراق دوّن فيها خواطره وأشعاره.. وبعض ذكريات ولهه القديم..!
تعالت صيحات المقاتلين عند بزوغ الفجر.. واخذ الجميع أماكنه لصد هجوم بالعجلات المفخخة.. فلم تكن للعدو من حيلة إلا بإرسال تلك المسوخ الشيطانية.. لتتمزق أشلاؤها تحت لهيب البتار.. وصواريخ الأكبر.. وأهازيج الجنوب التي ترتل سور الانتصارات قبل انتشار خيوط الدخان..
أسرع حميد إلى الحفارة القريبة (البوكلاين).. وتوجه بها نحو السيارة المفخخة المصفحة المتجهة نحو معسكرهم بسرعة.. تفاجأ الجميع من هول المنظر.. ما الذي يريد فعله بهذا التصرف الجنوني..!!
:- ارجع يا حميد.. احتمِ بإحدى الخنادق القريبة..
سيعالجها الشجعان بصواريخ الكاتيوشا، والآر بي جي سفن..
أدرك حميد اللحظة التي كان ينتظرها منذ زمن..
حيث كان رفاقه يزفونه إلى عرس بهيج.. كثافة الرمي حوّلت الأرض والسماء إلى غربان تنهش بلحوم الدواعش العفنة..
حاول الأعداء تفادي الاصطدام بالحفارة القادمة.. واصطدمت العجلة المفخخة بسيارة آمر اللواء.. لكنها وبمعجزة من السماء لم تنفجر.. فما كان من حميد إلا أن انقض بآليته المنتفضة على سيارة العدو وراح يطرقها ومزقها إربا إربا.. ولم ينزل من عرينه رغم نزفه المستمر، حتى هرع رجال الهندسة الميدانية إلى عجلة العدو، وأبعدوها عن المعسكر وفجروها..
ظلت العملية الجهادية التي نفذها حميد محل فخر كتائب وألوية الحشد المقدس.. وصارت مضربا للأمثال بالشجاعة والإقدام..
تحشد أبناء القرية لاستقبال حميد وعزيز وبقية الرجال الغيارى.. وكان على رأس المستقبلين أبو دلال.. والد تلك الفتاة التي طالما كانت حلماً وردياً بعيد المنال..
احتضنه وقبله من جببنه قائلاً:- الآن يا ولدي.. وجدت لابنتي رجلاً شهماً غيوراً.. فمن يضع الوطن نصب عينيه.. ويضحي بنفسه من أجل حريته وكرامته.. حري بأن تعيش ابنتي في كنفه بعزة وإباء وشرف..