بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي تجلى للقلوب بالعظمة ، واحتجب عن الابصار بالعزة ، واقتدر على الاشياء بالقدرة ، فلا الابصار تثبت لرؤيته ، ولا الاوهام تبلغ كنه عظمته ، تجبر بالعظمة والكبرياء ، وتعطف بالعز والبر والجلال ، وتقدس بالحسن والجمال ، وتمجد بالفخر والبهاء ، وتهلل بالمجد والآلاء ، واستخلص بالنور والضياء . خالق لا نظير له ، وواحد لاند له ، وماجد لا ضد له ، وصمد لا كفو له ، وإله لاثاني معه ، وفاطر لا شريك له ، ورازق لا معين له ، الاول بلا زوال والدائم بلا فناء ، والقائم بلاعناء ، والباقي بلا نهاية ، والمبدئ بلا أمد ، والصانع بلا ظهير، والرب بلا شريك ، والفاطر بلا كلفة والفاعل بلا عجز . ليس له حد في مكان ولا غاية في زمان ، لم يزل ولا يزول ولن يزال ، كذلك أبدا هو الاله الحي القيوم ، الدائم القديم القادر .
والصلاة على أشرف أهل الاصطفاء محمد بن عبدالله سيد الانبياء ، وعلى آله الحافظين لما نقل عن رب السموات والأرضين , واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين .
أشكل في الآونة الأخيرة البعض على كل من مسألة الإجتهاد ومسألة التقليد وقد تم إستخدام بعض الأدلة والروايات التي تشير الى عدم وجوب التقليد وتم تجيير هذه الروايات وتحميلها أكثر مما تحتمل وتخريجها عن مضمونها والشأن الذي وردت فيه الى إتجاه آخر مستخدمين من لفظة تقليد مرتكزا لضرب المرجعية الرشيدة , وإحداث شرخ أو صدع ما بين الحوزة العلمية والمرجعية من جانب وجمهور المرجعية المؤمن من جانب آخر . بعد أن باءت كل الخطط السابقة لفك هذا التلاحم بالفشل وبعد النجاحات التي تحققت بفضل هذا التلاحم والتي أسفرت عن تحرير البلاد والعباد وحماية المقدسات من شذاذ الآفاق وخوارج العصر المجرمين داعش ومن لف لفهم .
ومما ساقة المبطلون هو عدم وجود دليل على الإجتهاد .
نقول لأولئك إن باب الإجتهاد كان مفتوحاً منذ عصر النبوة بين الصحابة , فكان الصحابي تارة يروي نفس ألفاظ الحديث للسامع فهو راوٍ مُحَدّث , وتارة اخرى يذكر الحكم الذي إستفاده من الحديث حسب نظره وإجتهاده فهو في هذه الحالة مفتٍ وصاحب رأي وأهل هذه الملكة هم المجتهدون وسائر المسلمين الذين أخذوا برأيه هم المقلدون .
والإجتهاد أهم موضوع له صلة وثيقة بالفقة الإسلامي لما يترتب عليه من صلاحية لكفالة الحياة السعيدة لبني البشر في كل عصر وزمان .
فالإجتهاد هو استقصاء طرق كشف الأحكام من الكتاب والسنة , أي إستنباط الفروع من الأصول المأثورة في الدين .
والإجتهاد واجب كفائي في الإسلام , فإذا أقامة البعض سقط الوجوب عن الباقين , وان لم يقم به أحد أثم المسلمون جميعاً في ذلك العصر الذي لا يوجد فيه مجتهد , والدليل على وجوبه الكفائي قوله تعالى { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة: 122] .
ثم ان العقل حاكم أيضاً بوجوبه الكفائي . فلولا وجود مجتهد عالم بالأحكام لما أمكن إطاعة الله ولا إطاعة رسوله ولا إطاعة أولي الأمر عليهم السلام .
وهنا يورد من لا يرى حجية للأجتهاد إشكال مفاده إن الدين الإسلامي قد إكتمل بآية إكمال الدين { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة: 3] أي ان هناك حكم في الشريعة لكل واقعة وان عدم وجود حكم ما في جميع الأزمان يستلزم البخل منه سبحانه وتعالى وهو محال .
نقول نعم ان الله تعالى قد جعل هناك حكم لكل واقعة قال تعالى { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] .
ولكن في الكتاب آيات محكمات وأخر متشابهات كما قال تعالى { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7].
ومعرفة تلك الآيات تشق على ذوي الإختصاص فما بال عامة الناس .
إشكال آخر ولكن السنة النبوية والروايات الواردة عن أهل البيت كفيلة بتبيان الأحكام كما كان يُعملُ في السابق فلا لزوم للأجتهاد وكذلك لا لزوم للتقليد الذي استحدث قبل مئة وخمسون عام تقريباً .
إن تحصيل الأحكام انذاك كان متيسراً بعض الشيء , لقرب العهد بالرسول صلى الله عليه وآله ومن بعده المعصومين عليهم السلام وأصحابهم الخلّص , وتوفر القرائن وإمكان السؤال المفيد للعلم القاطع . أما اليوم فهو صعب لكثرة الأحاديث ودخول الدس فيها والوضع وتوفر دواعي الكذب , فالعقل يوجب وجود شخص متخصص ذا دراية بالأسانيد والرجال والأحكام واللغة والتفسير وعلوم القرآن وأسباب النزول الخ من العلوم . وهذا الشخص هو المجتهد الذي أخذ على عاتقة استخلاص الأحكام من مصادرها وتبيانها للمؤمنين .
ولكن الله يقول { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [المائدة: 45]
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [المائدة: 47]
ونرى إن كثير من المجتهدين يصدرون أحكام أو فتاوى ثم بعد فتره نراهم يسحبون تلك الأحكام والفتاوى أو يغيرونها .
لم تصدر فتوى تغاير حكم إلهي جلي كما ان هذه الآيات ناظرة الى صورة العمد . مثال ذلك { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } [البقرة: 256]
وقوله { وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} [البقرة: 126] .
مضافاً الى ان العقل والنقل متفقان على معذورية الجاهل بالحكم إذا كان جهله عن قصور لا عن تقصير قال تعالى: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } [النساء: 17] وقوله { مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الأنعام: 54] .
ولكن لا يوجد دليل شرعي أو عقلي على عقيدة التقليد فلا توجد آية قرآنية محكمة الدلاله ولا رواية قطعية الصدور قطعية الدلاله ولا يوجد دليل عقلي تام .
كيف هذا والأدلة الشرعية عديده ومنها :
قال تعالى { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]
وقوله تعالى { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104] تحكم هاتان الآيتان بحرمة اتباع الآباء الجهلة , فإنه من التقليد الأعمى القبيح , فالقرآن الكريم يوبخ قوماً يتبعون آباءهم على جهلهم والجاهل الذي لا يعرف الطريق كيف يقدر على إراءته أما التقليد الذي ندافع عنه فهو التقليد الذي يدلنا على حدود الله وأحكامة وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله) .
والتقليد يجري في الموضوعات الشرعية مثل الصلاة ونحوها وما يعتبر فيها وما يفسدها . ان هذه الموضوعات مما له دخل في الأحكام يجب أخذها عن الفقيه كما ان التقليد في العمل بالاحكام الشرعية ورد في مرويات اهل البيت (عليهم السلام) ( عن أبي جعفر عليه السلام من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة والعذاب , ولحقة وزر من عمل بفتياه ) (1) . فالظاهر منها ان المراد بقوله ( من عمل بفتياه ) من يقلد ذلك المفتي , اذن فالتقليد هو العمل بفتوى المفتي .
وعن عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : كان أبو عبدالله ( عليه السلام ) قاعدا في حلقة ربيعة الرأي ، فجاء أعرابي ، فسأل ربيعة الرأي عن مسألة ، فأجابه ، فلما سكت قال له الأعرابي : أهو في عنقك ؟ فسكت عنه ربيعة ، ولم يرد عليه شيئا ، فأعاد المسألة عليه ، فأجابه بمثل ذلك ، فقال له الأعرابي : أهو في عنقك ؟ فسكت ربيعة ، فقال أبو عبدالله ( عليه السلام ) : هو في عنقه ، قال : أو لم يقل : وكل مفت ضامن (2) .
أما الدليل العقلي فالعقل يرى ان الإتباع والانقياد لكل أحد قبيح , وأنه يخطيء من يميل مع كل ريح , ويراه مستحقاً للوم , فأن البشر أجل شأناً , وأشرف مقاماً من ان يكون مثل النبات الفاقد للعقل والارادة , فالأتباع الأعمى غير مستحسن عند جميع العقلاء , و ان حسن الاتباع عند العقل موقوف على صحة الإحتجاج بكلام من يتبع , كما ان قول الغير في كثير من الأوقات لا يفيد الوثوق ؛ وما لا يفيد الوثوق لا يجوز الإعتماد عليه عند العقلاء , فأن الحجة عند العقلاء هو الوثوق دون غيره .
أما إذا كان للتقليد جهة عقلائية فيخرج من كونه مذموماً عند العقلاء فأنه ليس بتقليد أعمى , لأن الجهة المرجحة التي يخضع لها العقل تخرجة عن دائرة الذم والقبح , وتدخله في إطار المدح والحسن , وخير مرشد لذلك سيرة العقلاء في جميع أمورهم وشؤونهم على مر الدهور ؛ فأنهم عند جهلهم بشيء يتبعون العارف به , فإن دربهم لتحصيل المعرفة بقيم الأشياء هو الرجوع الى المقوم العارف بالقيم , ولمعرفة صحيح الأشياء عن سقيمها هو الرجوع الى المتخصص , كما يرجعون لمعرفة معاني الألفاظ الى أهل اللسان وهكذا . بل يمكن القول إن رجوع غير العالم الى العالم من العقل الفطري للإنسان , فمن البديهي أن من لا يعرف الطريق يسأل العارف به ِ.
ومن البديهي أن هذه السيرة غير مختصة بصورة حصول اليقين من قول العالم , بل هي جارية بينهم حتى في الصورة التي لا يحصل لهم اليقين من قوله , كما انها جارية لديهم في صورة تمكنهم من معرفة حال المجهول بالبحث عنه , وليس مطلوب من تقليد العامي بالأحكام الشرعية عن المجتهد إلا إجراء هذه السيرة العقلائية في كيفية إطاعة الأحكام الإلهية , ولو كان للشرع طريق خاص لإمتثال أحكامه لوجب الإخبار به , وإلا لزم لغوية التشريع من جهة عدم معرفة البشر به , فإذا لم يخبر عن ذلك فهو كاشف عن إتكال إمتثال أحكامه إلى ما يعرفه العقل البشري .
ولكن أغلب الأحكام الفقهية هي أحكام ظنية وليست قطعية .
قال تعالى في محكم كتابه { قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]
{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ } [النساء: 157]
{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]
{ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } [النجم: 23]
{ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]
{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]
فكل هذه الآيات تفيد عدم اتباع الظن فانه لا حجية له ولكننا نرى ان المجتهدين يعتمدون عليه .
ان في القرآن ناسخ ومنسوخ ومحكم و متشابه قال صلى الله عليه واله: من عمل بالمقائيس فقد هلك وأهلك ، ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك (3) .
وإن كان قول المجتهد ظنّي لا قطعي ، ولكنّه ظنّ قامت الأدلّة على إتباعه ، وجعله الشارع المقدّس طريقاً للوصول إلى أكثر الأحكام الشرعية ؛ إذ لا طريق لنا غالباً في معرفة الأحكام إلاّ عن طريق الرواة والفقهاء ، وهو يصيب الواقع في أكثر الأحيان لا في جميعها ، فكانت المصلحة بجعل التقليد طريقاً لذلك ، واحتمال الخطأ بنسبة قليلة يمكن التسامح به ، وعدم الاعتداد به عند العقلاء , بل ان على العالم ان يظهر علمه عملا بقوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } [البقرة: 159] .
كما ان المتبحر في آية النفر { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة: 122] . يستشف أن المأمور به من خلالها الإنذار , والمقصود بالإنذار بيان الأحكام الشرعية بشهادة نفس الآية , فإن الظاهر منها كون الإنذار نتيجة التفقه في الدين . فذُكِرَ اللازم وأُريد الملزوم . وكلمة ( لعل ) الواقعة في الآية على الحذر مفيدة للتوقع ولما كان التوقع غير لائق بمقامة تعالى فأن الشك مأخوذ في مفهوم التوقع . فالحذر في الآية جُعِلَ كناية عن العمل بما أخبر به النافرون , وهم الرواة أو المجتهدون . والعمل بخبر المجتهد هو التقليد عنه , ففي الآية دلالة على ان التقليد هو العمل .
كما إن سيرة الصحابة والتابعين كانت على ذلك فكان العوام منهم يرجعون الى فقهائهم , كما كان الفقهاء يرشدون العوام الى الأحكام الشرعية .
عن علي بن أسباط ، قال : قلت للرضا ( عليه السلام ) : يحدث الأمر لا أجد بدا من معرفته ، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك ، قال : فقال : ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك ، فاذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ، فإن الحق فيه (4) .
ويظهر من ذلك أن سيرة الأصحاب كانت مستمرة على الإستفتاء .
وعن حمزة بن حمران ، قال : سمعت أبا عبدالله ( عليه السلام ) يقول : من استأكل بعلمه افتقر ، قلت : إن في شيعتك قوما يتحملون علومكم ، ويبثونها في شيعتكم ، فلا يعدمون منهم البر والصلة والاكرام فقال : ليس اولئك بمستأكلين ، إنما ذاك الذي يفتي بغير علم ولا هدى من الله ، ليبطل به الحقوق ، طمعا في حطام الدنيا (5) . إذن فإن نقيض ذلك اي الذي يفتي بعلم وهدى من الله قد أقره الإمام على فعله ولو كان غير ذلك لنهى .
وقول أبوجعفر (عليه السلام) لأبان بن تغلب : « إجلس في مجلس المدينة ، أفت الناس ، فإني أحب أن أرى في شيعتي مثلك (6) . وهذا كلام لا يحتاج الى تبيان فإن المسألة تتعلق بالفتوى ومن يطلب الإفتاء يأخذ به .
وعن عبد السلام الهروي عن الرضا ( عليه السلام ) ، قال : رحم الله عبدا أحيى أمرنا ، قلت : كيف يحيي أمركم ؟ قال : يتعلم علومنا ، ويعلمها الناس ، فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا (7) . وهذا عين ما يفعله المرجع في إحاطته بعلوم أهل البيت واحكامهم ثم يعلمها للناس .
وعن الكاظم (عليه السلام) : تفقهوا في دين الله ، فإن الفقه مفتاح البصيرة ، وتمام العبادة ، و السبب إلى المنازل الرفيعة ، والرتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب ، ومن لم يتفقه في دينه لم يرض الله له عملا (8) .
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) : لا يتم مروة الرجل حتى يتفقه [ في دينه ] ويقتصد في معيشته ، ويصبر على النائبة إذا نزلت به ، ويستعذب مرارة إخوانه (9) .
كما إن كثيرا من محققي علماء هذه الامة ربما ترجحوا في الحقائق على بعض أنبياء بني اسرائيل، واحتياج موسى (عليه السلام) الى خضر يشهد في ظاهر الحال على ذلك، و أيضا استفادة داود من لقمان .
{ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32] .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
(1) وسائل الشيعة ج27 الباب 4 من ابواب صفات القاضي ح1 .
(2) وسائل الشيعة (255/ 15) بترقيم الشامله آلياً .
(3) بحار الأنوار - العلامة المجلسي (2/ 121، بترقيم الشاملة آليا)
(4) وسائل الشيعة (250/ 11)
(5) وسائل الشيعة (251/ 17)
(6) وسائل الشيعة (ج30 ص 275)
(7) وسائل الشيعة (249/ 7)
(8) بحار الأنوار - العلامة المجلسي (10/ 247، بترقيم الشاملة آليا)
(9) بحار الأنوار - العلامة المجلسي (75/ 63، بترقيم الشاملة آليا)
الحمد لله الذي تجلى للقلوب بالعظمة ، واحتجب عن الابصار بالعزة ، واقتدر على الاشياء بالقدرة ، فلا الابصار تثبت لرؤيته ، ولا الاوهام تبلغ كنه عظمته ، تجبر بالعظمة والكبرياء ، وتعطف بالعز والبر والجلال ، وتقدس بالحسن والجمال ، وتمجد بالفخر والبهاء ، وتهلل بالمجد والآلاء ، واستخلص بالنور والضياء . خالق لا نظير له ، وواحد لاند له ، وماجد لا ضد له ، وصمد لا كفو له ، وإله لاثاني معه ، وفاطر لا شريك له ، ورازق لا معين له ، الاول بلا زوال والدائم بلا فناء ، والقائم بلاعناء ، والباقي بلا نهاية ، والمبدئ بلا أمد ، والصانع بلا ظهير، والرب بلا شريك ، والفاطر بلا كلفة والفاعل بلا عجز . ليس له حد في مكان ولا غاية في زمان ، لم يزل ولا يزول ولن يزال ، كذلك أبدا هو الاله الحي القيوم ، الدائم القديم القادر .
والصلاة على أشرف أهل الاصطفاء محمد بن عبدالله سيد الانبياء ، وعلى آله الحافظين لما نقل عن رب السموات والأرضين , واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين .
أشكل في الآونة الأخيرة البعض على كل من مسألة الإجتهاد ومسألة التقليد وقد تم إستخدام بعض الأدلة والروايات التي تشير الى عدم وجوب التقليد وتم تجيير هذه الروايات وتحميلها أكثر مما تحتمل وتخريجها عن مضمونها والشأن الذي وردت فيه الى إتجاه آخر مستخدمين من لفظة تقليد مرتكزا لضرب المرجعية الرشيدة , وإحداث شرخ أو صدع ما بين الحوزة العلمية والمرجعية من جانب وجمهور المرجعية المؤمن من جانب آخر . بعد أن باءت كل الخطط السابقة لفك هذا التلاحم بالفشل وبعد النجاحات التي تحققت بفضل هذا التلاحم والتي أسفرت عن تحرير البلاد والعباد وحماية المقدسات من شذاذ الآفاق وخوارج العصر المجرمين داعش ومن لف لفهم .
ومما ساقة المبطلون هو عدم وجود دليل على الإجتهاد .
نقول لأولئك إن باب الإجتهاد كان مفتوحاً منذ عصر النبوة بين الصحابة , فكان الصحابي تارة يروي نفس ألفاظ الحديث للسامع فهو راوٍ مُحَدّث , وتارة اخرى يذكر الحكم الذي إستفاده من الحديث حسب نظره وإجتهاده فهو في هذه الحالة مفتٍ وصاحب رأي وأهل هذه الملكة هم المجتهدون وسائر المسلمين الذين أخذوا برأيه هم المقلدون .
والإجتهاد أهم موضوع له صلة وثيقة بالفقة الإسلامي لما يترتب عليه من صلاحية لكفالة الحياة السعيدة لبني البشر في كل عصر وزمان .
فالإجتهاد هو استقصاء طرق كشف الأحكام من الكتاب والسنة , أي إستنباط الفروع من الأصول المأثورة في الدين .
والإجتهاد واجب كفائي في الإسلام , فإذا أقامة البعض سقط الوجوب عن الباقين , وان لم يقم به أحد أثم المسلمون جميعاً في ذلك العصر الذي لا يوجد فيه مجتهد , والدليل على وجوبه الكفائي قوله تعالى { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة: 122] .
ثم ان العقل حاكم أيضاً بوجوبه الكفائي . فلولا وجود مجتهد عالم بالأحكام لما أمكن إطاعة الله ولا إطاعة رسوله ولا إطاعة أولي الأمر عليهم السلام .
وهنا يورد من لا يرى حجية للأجتهاد إشكال مفاده إن الدين الإسلامي قد إكتمل بآية إكمال الدين { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة: 3] أي ان هناك حكم في الشريعة لكل واقعة وان عدم وجود حكم ما في جميع الأزمان يستلزم البخل منه سبحانه وتعالى وهو محال .
نقول نعم ان الله تعالى قد جعل هناك حكم لكل واقعة قال تعالى { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] .
ولكن في الكتاب آيات محكمات وأخر متشابهات كما قال تعالى { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7].
ومعرفة تلك الآيات تشق على ذوي الإختصاص فما بال عامة الناس .
إشكال آخر ولكن السنة النبوية والروايات الواردة عن أهل البيت كفيلة بتبيان الأحكام كما كان يُعملُ في السابق فلا لزوم للأجتهاد وكذلك لا لزوم للتقليد الذي استحدث قبل مئة وخمسون عام تقريباً .
إن تحصيل الأحكام انذاك كان متيسراً بعض الشيء , لقرب العهد بالرسول صلى الله عليه وآله ومن بعده المعصومين عليهم السلام وأصحابهم الخلّص , وتوفر القرائن وإمكان السؤال المفيد للعلم القاطع . أما اليوم فهو صعب لكثرة الأحاديث ودخول الدس فيها والوضع وتوفر دواعي الكذب , فالعقل يوجب وجود شخص متخصص ذا دراية بالأسانيد والرجال والأحكام واللغة والتفسير وعلوم القرآن وأسباب النزول الخ من العلوم . وهذا الشخص هو المجتهد الذي أخذ على عاتقة استخلاص الأحكام من مصادرها وتبيانها للمؤمنين .
ولكن الله يقول { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [المائدة: 45]
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [المائدة: 47]
ونرى إن كثير من المجتهدين يصدرون أحكام أو فتاوى ثم بعد فتره نراهم يسحبون تلك الأحكام والفتاوى أو يغيرونها .
لم تصدر فتوى تغاير حكم إلهي جلي كما ان هذه الآيات ناظرة الى صورة العمد . مثال ذلك { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } [البقرة: 256]
وقوله { وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} [البقرة: 126] .
مضافاً الى ان العقل والنقل متفقان على معذورية الجاهل بالحكم إذا كان جهله عن قصور لا عن تقصير قال تعالى: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } [النساء: 17] وقوله { مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الأنعام: 54] .
ولكن لا يوجد دليل شرعي أو عقلي على عقيدة التقليد فلا توجد آية قرآنية محكمة الدلاله ولا رواية قطعية الصدور قطعية الدلاله ولا يوجد دليل عقلي تام .
كيف هذا والأدلة الشرعية عديده ومنها :
قال تعالى { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]
وقوله تعالى { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104] تحكم هاتان الآيتان بحرمة اتباع الآباء الجهلة , فإنه من التقليد الأعمى القبيح , فالقرآن الكريم يوبخ قوماً يتبعون آباءهم على جهلهم والجاهل الذي لا يعرف الطريق كيف يقدر على إراءته أما التقليد الذي ندافع عنه فهو التقليد الذي يدلنا على حدود الله وأحكامة وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله) .
والتقليد يجري في الموضوعات الشرعية مثل الصلاة ونحوها وما يعتبر فيها وما يفسدها . ان هذه الموضوعات مما له دخل في الأحكام يجب أخذها عن الفقيه كما ان التقليد في العمل بالاحكام الشرعية ورد في مرويات اهل البيت (عليهم السلام) ( عن أبي جعفر عليه السلام من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة والعذاب , ولحقة وزر من عمل بفتياه ) (1) . فالظاهر منها ان المراد بقوله ( من عمل بفتياه ) من يقلد ذلك المفتي , اذن فالتقليد هو العمل بفتوى المفتي .
وعن عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : كان أبو عبدالله ( عليه السلام ) قاعدا في حلقة ربيعة الرأي ، فجاء أعرابي ، فسأل ربيعة الرأي عن مسألة ، فأجابه ، فلما سكت قال له الأعرابي : أهو في عنقك ؟ فسكت عنه ربيعة ، ولم يرد عليه شيئا ، فأعاد المسألة عليه ، فأجابه بمثل ذلك ، فقال له الأعرابي : أهو في عنقك ؟ فسكت ربيعة ، فقال أبو عبدالله ( عليه السلام ) : هو في عنقه ، قال : أو لم يقل : وكل مفت ضامن (2) .
أما الدليل العقلي فالعقل يرى ان الإتباع والانقياد لكل أحد قبيح , وأنه يخطيء من يميل مع كل ريح , ويراه مستحقاً للوم , فأن البشر أجل شأناً , وأشرف مقاماً من ان يكون مثل النبات الفاقد للعقل والارادة , فالأتباع الأعمى غير مستحسن عند جميع العقلاء , و ان حسن الاتباع عند العقل موقوف على صحة الإحتجاج بكلام من يتبع , كما ان قول الغير في كثير من الأوقات لا يفيد الوثوق ؛ وما لا يفيد الوثوق لا يجوز الإعتماد عليه عند العقلاء , فأن الحجة عند العقلاء هو الوثوق دون غيره .
أما إذا كان للتقليد جهة عقلائية فيخرج من كونه مذموماً عند العقلاء فأنه ليس بتقليد أعمى , لأن الجهة المرجحة التي يخضع لها العقل تخرجة عن دائرة الذم والقبح , وتدخله في إطار المدح والحسن , وخير مرشد لذلك سيرة العقلاء في جميع أمورهم وشؤونهم على مر الدهور ؛ فأنهم عند جهلهم بشيء يتبعون العارف به , فإن دربهم لتحصيل المعرفة بقيم الأشياء هو الرجوع الى المقوم العارف بالقيم , ولمعرفة صحيح الأشياء عن سقيمها هو الرجوع الى المتخصص , كما يرجعون لمعرفة معاني الألفاظ الى أهل اللسان وهكذا . بل يمكن القول إن رجوع غير العالم الى العالم من العقل الفطري للإنسان , فمن البديهي أن من لا يعرف الطريق يسأل العارف به ِ.
ومن البديهي أن هذه السيرة غير مختصة بصورة حصول اليقين من قول العالم , بل هي جارية بينهم حتى في الصورة التي لا يحصل لهم اليقين من قوله , كما انها جارية لديهم في صورة تمكنهم من معرفة حال المجهول بالبحث عنه , وليس مطلوب من تقليد العامي بالأحكام الشرعية عن المجتهد إلا إجراء هذه السيرة العقلائية في كيفية إطاعة الأحكام الإلهية , ولو كان للشرع طريق خاص لإمتثال أحكامه لوجب الإخبار به , وإلا لزم لغوية التشريع من جهة عدم معرفة البشر به , فإذا لم يخبر عن ذلك فهو كاشف عن إتكال إمتثال أحكامه إلى ما يعرفه العقل البشري .
ولكن أغلب الأحكام الفقهية هي أحكام ظنية وليست قطعية .
قال تعالى في محكم كتابه { قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]
{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ } [النساء: 157]
{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]
{ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } [النجم: 23]
{ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]
{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]
فكل هذه الآيات تفيد عدم اتباع الظن فانه لا حجية له ولكننا نرى ان المجتهدين يعتمدون عليه .
ان في القرآن ناسخ ومنسوخ ومحكم و متشابه قال صلى الله عليه واله: من عمل بالمقائيس فقد هلك وأهلك ، ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك (3) .
وإن كان قول المجتهد ظنّي لا قطعي ، ولكنّه ظنّ قامت الأدلّة على إتباعه ، وجعله الشارع المقدّس طريقاً للوصول إلى أكثر الأحكام الشرعية ؛ إذ لا طريق لنا غالباً في معرفة الأحكام إلاّ عن طريق الرواة والفقهاء ، وهو يصيب الواقع في أكثر الأحيان لا في جميعها ، فكانت المصلحة بجعل التقليد طريقاً لذلك ، واحتمال الخطأ بنسبة قليلة يمكن التسامح به ، وعدم الاعتداد به عند العقلاء , بل ان على العالم ان يظهر علمه عملا بقوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } [البقرة: 159] .
كما ان المتبحر في آية النفر { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة: 122] . يستشف أن المأمور به من خلالها الإنذار , والمقصود بالإنذار بيان الأحكام الشرعية بشهادة نفس الآية , فإن الظاهر منها كون الإنذار نتيجة التفقه في الدين . فذُكِرَ اللازم وأُريد الملزوم . وكلمة ( لعل ) الواقعة في الآية على الحذر مفيدة للتوقع ولما كان التوقع غير لائق بمقامة تعالى فأن الشك مأخوذ في مفهوم التوقع . فالحذر في الآية جُعِلَ كناية عن العمل بما أخبر به النافرون , وهم الرواة أو المجتهدون . والعمل بخبر المجتهد هو التقليد عنه , ففي الآية دلالة على ان التقليد هو العمل .
كما إن سيرة الصحابة والتابعين كانت على ذلك فكان العوام منهم يرجعون الى فقهائهم , كما كان الفقهاء يرشدون العوام الى الأحكام الشرعية .
عن علي بن أسباط ، قال : قلت للرضا ( عليه السلام ) : يحدث الأمر لا أجد بدا من معرفته ، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك ، قال : فقال : ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك ، فاذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ، فإن الحق فيه (4) .
ويظهر من ذلك أن سيرة الأصحاب كانت مستمرة على الإستفتاء .
وعن حمزة بن حمران ، قال : سمعت أبا عبدالله ( عليه السلام ) يقول : من استأكل بعلمه افتقر ، قلت : إن في شيعتك قوما يتحملون علومكم ، ويبثونها في شيعتكم ، فلا يعدمون منهم البر والصلة والاكرام فقال : ليس اولئك بمستأكلين ، إنما ذاك الذي يفتي بغير علم ولا هدى من الله ، ليبطل به الحقوق ، طمعا في حطام الدنيا (5) . إذن فإن نقيض ذلك اي الذي يفتي بعلم وهدى من الله قد أقره الإمام على فعله ولو كان غير ذلك لنهى .
وقول أبوجعفر (عليه السلام) لأبان بن تغلب : « إجلس في مجلس المدينة ، أفت الناس ، فإني أحب أن أرى في شيعتي مثلك (6) . وهذا كلام لا يحتاج الى تبيان فإن المسألة تتعلق بالفتوى ومن يطلب الإفتاء يأخذ به .
وعن عبد السلام الهروي عن الرضا ( عليه السلام ) ، قال : رحم الله عبدا أحيى أمرنا ، قلت : كيف يحيي أمركم ؟ قال : يتعلم علومنا ، ويعلمها الناس ، فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا (7) . وهذا عين ما يفعله المرجع في إحاطته بعلوم أهل البيت واحكامهم ثم يعلمها للناس .
وعن الكاظم (عليه السلام) : تفقهوا في دين الله ، فإن الفقه مفتاح البصيرة ، وتمام العبادة ، و السبب إلى المنازل الرفيعة ، والرتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب ، ومن لم يتفقه في دينه لم يرض الله له عملا (8) .
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) : لا يتم مروة الرجل حتى يتفقه [ في دينه ] ويقتصد في معيشته ، ويصبر على النائبة إذا نزلت به ، ويستعذب مرارة إخوانه (9) .
كما إن كثيرا من محققي علماء هذه الامة ربما ترجحوا في الحقائق على بعض أنبياء بني اسرائيل، واحتياج موسى (عليه السلام) الى خضر يشهد في ظاهر الحال على ذلك، و أيضا استفادة داود من لقمان .
{ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32] .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
(1) وسائل الشيعة ج27 الباب 4 من ابواب صفات القاضي ح1 .
(2) وسائل الشيعة (255/ 15) بترقيم الشامله آلياً .
(3) بحار الأنوار - العلامة المجلسي (2/ 121، بترقيم الشاملة آليا)
(4) وسائل الشيعة (250/ 11)
(5) وسائل الشيعة (251/ 17)
(6) وسائل الشيعة (ج30 ص 275)
(7) وسائل الشيعة (249/ 7)
(8) بحار الأنوار - العلامة المجلسي (10/ 247، بترقيم الشاملة آليا)
(9) بحار الأنوار - العلامة المجلسي (75/ 63، بترقيم الشاملة آليا)