بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين


...أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) جمع الناس بعد رجوعه من حجة الوداع في غدير خم ، وجمع الرحال وصعد عليها ، فقال: ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ فقالوا : اللهم نعم ، فقال بعد إشارته إلى علي ( عليه السلام ) : فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، حتى قال عمر بن الخطاب : بخ بخ أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة (1) .
الدليل على كون هذا الخبر من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أنه مع شهرة نقل العامة هذا الخبر لم يجسر أحد من قدمائهم إنكار هذا الخبر لا تصريحا ولا تلويحا ، فلما رأوا دلالة الخبر على إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) واستدلال أهل الحق به عليها ، ارتكبوا فيجب لو لم يكن صدوره عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) معلوما عندهم منعه أولا ، ثم تعرض ما يتعلق بالدلالة ، وعدم تعرض أحد منهم المنع مع كون عادتهم وقانون المناظرة تقديم المنع ، يدل على عدم قبول المنع عندهم ، ولعل كثرة الكتب المشتملة على أسناد هذا الخبر في زمانهم وخوفهم من الفضيحة منعاهم عن جرأة المنع .
قال السيد المرتضى (رحمه الله) : أما الدلالة على صحة الخبر ، فما يطالب بها إلا متعنت لظهوره وانتشاره ، وحصول العلم لكل من سمع الإخبار به ، وما المطالب بتصحيح خبر الغدير والدلالة عليه إلا كالمطالب بتصحيح غزوات النبي ( صلى الله عليه وآله ) الظاهرة المنشورة وأحواله المعروفة ، وحجة الوداع نفسها ، لأن ظهور الجميع وعموم العلم به بمنزلة واحدة.
وبعد فإن الشيعة قاطبة تنقله وتتواتر به ، وأكثر رواة أصحاب الحديث يرويه بالأسانيد المتصلة، وجميع أصحاب السير ينقلونه عن أسلافهم خلفا عن خلف نقلا بغير إسناد مخصوص، كما نقلوا الوقائع والحوادث الظاهرة ، وقد أورده مصنفوا الحديث في جملة الصحيح ، وقد استبد هذا الخبر بما لا يشركه فيه سائر الأخبار .
لأن الأخبار على ضربين : أحدهما لا يعتبر في نقله الأسانيد المتصلة ، كالخبر عن وقعة بدر وخيبر والجمل وصفين ، وما جرى مجرى ذلك من الأمور الظاهرة التي يعلمها الناس قرنا بعد قرن بغير إسناد وطريق مخصوص . والضرب الآخر يعتبر فيه اتصال الأسناد ، كأكثر أخبار الشريعة ، وقد اجتمع في خبر الغدير معا ، مع تفرقهما في غيره من الأخبار ، على أن ما اعتبر في نقله من أخبار الشريعة اتصال الأسانيد لو فتشت عن جميعه لم تجد إلا الآحاد ، وخبر الغدير قد رواه بالأسانيد الكثيرة المتصلة الجمع الكثير ، فمزيته ظاهرة .
ومما يدل على صحة الخبر إطباق علماء الأمة على قبوله ، ولا شبهة فيما ادعيناه من الاطباق ، لأن الشيعة جعله الحجة في النص على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالإمامة ، ومخالفوا الشيعة تأولوه على خلاف الإمامة على اختلاف تأويلاتهم ، فمنهم من يقول إنه يقتضي كونه (عليه السلام) الأفضل ، ومنهم من يقول : إنه يقتضي موالاته على الظاهر والباطن ، وآخرون يذهبون فيه إلى ولاء العتق ، ويجعلون سببه ما وقع من زيد بن حارثة أو ابنه أسامة بن زيد من المشاجرة ، إلى غير ما ذكرناه من ضروب التأويلات والاعتقادات .
وما نعلم أن فرقة من فرق الأمة ردت هذا الخبر أو اعتقدت بطلانه ، أو امتنعت من قبوله ، وما تجمع الأمة عليه لا يكون إلا حقا عندنا وعند مخالفينا ، وإن اختلفنا في العلة والاستدلال (2) انتهى .
والدليل الآخر على صحة الخبر ما اشتهر بين العامة والخاصة ، على ما ذكره السيد (رحمه الله) بقوله : وقد استدل قوم على صحة الخبر بما تظاهرت به الروايات من احتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام) في الشورى على الحاضرين في جملة ما عدده من فضائله ومناقبه ، وما خصه الله تعالى به حين قال : أنشدكم الله هل فيكم أحد أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده ، فقال : من كنت مولاه فهذا مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه غيري ؟ فقال القوم : اللهم لا .
وإذا اعترف به من حضر الشورى من الوجوه ، واتصل أيضا بغيرهم من الصحابة ممن لم يحضر الموضع ، كما اتصل به سائر ما جرى ، ولم يكن من أحد نكير له ولا إظهار الشك فيه ، مع علمنا بتوفر الدواعي إلى إظهار ذلك ، لو كان الخبر بخلاف ما حكمنا عليه من الصحة ، فقد وجب القطع على صحته (3) .
ولا يخفى أن كل واحد من الوجهين يفيد بانفراده القطع بصحة الخبر في الجملة ، فكيف مع الاجتماع .
اعترض بعدم تواتر المقدمة التي هي العمدة في الإستدلال ، لأن بعض المانعين لدلالة الخبر لم يذكروا المقدمة ، وحديث الشورى أيضا خال عنها .
أجاب السيد بما حاصله : إن كل الشيعة وأكثر رواة العامة نقلوا الخبر بمقدمته وبنقل من نقل ، بل بنقل بعضهم تتم الحجة لنا ، وإغفال البعض لا يضرنا .
وأما حكاية الشورى ، فمن باب الاكتفاء بذكر ما هو المشهور عن الباقي ، كاكتفائه (عليه السلام) في الشورى في حكاية الطائر بقوله " أفيكم رجل قال له النبي (صلى الله عليه وآله) اللهم أبعث إلي بأحب خلقك يأكل معي غيري ؟ " وكذلك ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في شأنه في خيبر (4) .
أقول : مع علمنا بمقدمة الخبر إذا شرعنا في الاستدلال بالخبر ، نستدل به على فرض عدم المقدمة أيضا .
قال السيد طاب ثراه : فإن قال : أليس قد حكي عن ابن أبي داود السجستاني دفع الخبر ، وحكي عن الخوارج مثله ، وطعن الجاحظ في كتابه العثمانية فيه .
قيل له : أول ما نقوله أنه لا معتبر في باب الاجماع بشذوذ كل شاذ عنه ، بل الواجب أن يعلم أن الذي خرج عنه ممن يعتبر قوله في الاجماع ، ثم يعلم أن الاجماع لم يتقدم خلافه ، فإن ابن أبي داود والجاحظ لو صرحا بالخلاف لسقط خلافهما بما ذكرناه من الاجماع ، خصوصا بالذي لا شبهة فيه من تقدم الاجماع وفقد الخلاف ، وقد سبقهما ثم تأخر عنهما .
على أنه قد قيل : إن ابن أبي داود لم ينكر الخبر ، وإنما أنكر كون المسجد الذي بغدير خم متقدما ، وقد حكي عنه التنصل من القدح في الخبر والتبري مما قذفه به محمد بن جرير الطبري .
وأما الجاحظ ، فلم يتجاسر أيضا على التصريح بدفع الخبر ، وإنما طعن في بعض رواته وادعى اختلاف ما نقل من لفظه ، ولو صرح الجاحظ والسجستاني وأمثالهما بالخلاف لم يكن قادحا لما قدمناه .
فأما الخوارج ، فما يقدر أحد على أن يحكي عنهم دفعا لهذا الخبر ، أو امتناعا من قبوله ، وهذه كتبهم ومقالاتهم موجودة وهي خالية مما ادعي ، والظاهر من أمرهم حملهم الخبر على التفضيل، أو ما جرى مجراه من صنوف تأويل مخالفي الشيعة .
وإنما آنس بعض الجهلة بهذه الدعوى على الخوارج ما ظهر عنهم فيما بعد من القول الخبيث في أمير المؤمنين ( عليه السلام) فظن أن خلافهم له ورجوعهم عن ولايته يقتضي أن يكونوا جحدوا فضائله ومناقبه ، وقد أبعد هذا المدعي غاية البعد ، لأن انحراف الخوارج إنما كان بعد التحكيم للسبب المعروف ، وإلا فاعتقادهم لإمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وفضله وتقدمه قد كان أمرا ظاهرا ، وهم على كل حال بعض أنصاره وممن جاهد معه الأعداء ، وكانوا في عداد الأولياء إلى أن كان من أمرهم ما كان (5) انتهى .
اعلم أنه لا حاجة لنا في إثبات قطعية الخبر إلى إثبات الاجماع ، لأن العلم بالخبر قد يحصل بالتواتر ، وقد يحصل بالقرائن ، وإن لم يكن متواترا ، وقد لا يحصل لآخر للاعتقاد بما ينافيه لشبهة ، أو لعدم تخلية النفس ، فكما أن الاعتقاد بما ينافي الأوليات لشبهة مع جلائها وغنائها عن جميع ما هو خارج عنها مانع عن الاذعان بها ، فكذا غيرها .
ولا يخفى على أحد ممن خلى نفسه عن الأغراض ، وفرض عرض عقائده وأعماله على الميزان ، قطعية الخبر بملاحظة الدليلين المنقولين ، لصحة الخبر من السيد ( رحمه الله ) بل بأحدهما ، وإن فرض إصرار الخوارج والجاحظ وابن أبي داود في إنكار الخبر من غير حاجة إلى ملاحظة زمان سابق ولاحق عن زمانهم .
اعلم أن صاحب المغني سئل بما حاصله : أن مقدمة الرواية لما دلت على وجوب الإطاعة والانقياد ، فكذا الجملة التابعة لها . وأجاب بما حاصله : تجويز إرادة الاشفاق والرحمة وحسن النظر وغيرها مما لا حاجة لنا إلى نقله ، إلى أن قال : على أن كثيرا من شيوخنا (6) ينكر أن يكون هذه المقدمة ثابتة بالتواتر ، ونقول : إنها من باب الآحاد ، والثابت قوله ( صلى الله عليه وآله ) " من كنت مولاه " إلى آخر الخبر ، وهو الذي ذكر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في مجالس عدة عند ذكر مناقبه (7) انتهى .
ولا يخفى من سياق الكلام أنه لم يجترأ من إنكار المقدمة ولا من انتسابه إلى مشايخه مطلقا ، بل نسبه إلى كثير من شيوخه التي تدل على كون المقدمة متواترة عند باقي شيوخه ، وهذا قاطع في كون المقدمة متواترة عند بعضهم ، وتواتر المقدمة لا ينافي عدم نقل بعضهم ، فلعل ترك بعضهم للمنافاة لما أصروا عليه لبعض الدواعي ، وبعضهم لشبهة عدم التواتر من عدم نقل البعض الأول ، أو عدم ذكر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الشورى .
ووجه دلالته مع المقدمة على الإمامة : أن المولى وإن استعمل في اللغة بمعنى العبد والمالك والمحب والمعتق والمعتق والقريب كابن العم ونحوه ، والجار والحليف والنزيل والشريك والناصر والمنعم والمنعم عليه والتابع والصهر والصاحب والأولى بالأمر ، لكن مراده (صلى الله عليه وآله ) من المولى هو الأولى بأمور الأمة ، لأن غيره من المعاني لا يحتمل في شأنه (صلى الله عليه وآله) بعضه مطلقا ، وبعضه بقرينة السياق والمقدمة ، فيدل الخبر على كون
أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أولى بالأمة ، كما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أولى بهم ، وأولوية غير النبي هي الإمامة .
واعلم أن الرواية مع ظهورها فيما ذكرته لها مؤيدات :
منها : أن في جمع الرحال وصعوده ( صلى الله عليه وآله ) عليها ليري الحاضرون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأمير المؤمنين ( عليه السلام ) حين بيانه ( صلى الله عليه وآله ) مرتبة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ويسمعوا كلامه ، دلالة على عظم الأمر الذي دعاه إلى ما فعل ، وهذا العظم لا يليق بغير الخلافة مما ذكره بعض المنكرين .
ومنها : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] ووجه التأييد : أن الآية تدل على غاية المبالغة في تبليغ الأمر ، واستئناس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الامتناع التام عن هذا الأمر ، بحيث خاف ( صلى الله عليه وآله ) أن يترتب على تعجيل التبليغ ما ربما يدفعه التأخير .
واحتمال كون نزول الآية لمطلق التبليغ واشتماله على الخوف لكثرة الكفار وقلة المعاون تدفعه مدنية الآية ، فيدل سياق الآية على أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمر بتبليغ شئ كان كثير من الناس في غاية النفرة والإباء ، وهذا الأمر لم يكن الصلاة والزكاة والجهاد في سبيل الله ، وترك المنهيات المشهورة ، لأن أشد الأمور المحتملة غير الإمامة هو الجهاد ، ولم يكن لغير المنافقين الظاهرين إباء منه ، والمنافقون أيضا لم يكونوا متنفرين عن الجهاد مطلقا ، بل كان بعضهم يتخلفون بإظهار بعض الأعذار الكاذبة ، وبعضهم يحضرون ولكن يجتنبون عن المخاوف ويوطنون أنفسهم على الهرب عند الخوف .
وأما النفرة عن الجهاد بحيث يناسب الخوف في إظهاره فلا ، فهذا الأمر (8) هو نصب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) علما للناس ، لمنافاته ما يرجو بعضهم لأنفسهم وبعضهم لمن يرجو منه ما يرجو .
فإن قلت : ظاهر أن خلص المؤمنين لا يكرهون ما أمر الله ورسوله به ، وعند غيرهم لا شئ أحب من الحياة ، فإذا رضوا بالجهاد الذي مشتمل على قتل الأقارب والعشائر والأولاد والأنفس، فكيف لا يرضون بتعيين الخليفة ؟
قلت : هذا الاستبعاد ليس في محله ، لأنه شاع مقاتلة صاحب مذهب مثله بمعاونة من يخالفه في المذهب ، لما يرجوه من المال والجاه ، ويعلم أنه ربما قتل في تلك المحاربة قبل أن يحصل مطلوبه ، بل ربما رغبوا ملكهم بقتال المؤمنين لرجائهم بالظفر عليهم حصول الجاه لهم ، مع أن الثلاثة المختلسين للخلافة لم يكن من عادتهم المجادلة والقتال والمعارضة مع الأقران والأبطال، ولم يكونوا ناكفين عن فضيحة الهرب ، بل كان الهرب مفزعهم عند شدائد الخوف والتحام الحرب ، فعدم كراهة أمثالهم في المجادلة والمحاربة ، وغاية الإباء والاستنكاف عن بيان حق الولاية ليس بعيدا بوجه .
آية الاكمال : ومنها : ما رواه ابن الأثير في جامع الأصول ، في الكتاب الأول من حرف التاء في تفسير القرآن ، من صحيح البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ، عن طارق بن شهاب ، قال: قالت اليهود لعمر : إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا ، فقال عمر : إني لأعلم حيث أنزلت ، وأين أنزلت ، وأين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين أنزلت يوم عرفة ، وأنا والله بعرفة ، قال : وأشك كان يوم الجمعة أم لا {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].
وفي رواية قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب ، فقال : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم نزلت تقرؤونها لو علينا نزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ، قال : فأي آية ؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة: 3] فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه ، والمكان الذي نزلت فيه ، نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعرفات في يوم الجمعة . أخرجه الجماعة إلا الموطأ وأبو داود .
ومن صحيح الترمذي ، عن ابن عباس أنه قرأ " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " وعنده يهودي ، فقال : لو أنزلت هذه الآية علينا لاتخذناها عيدا ، فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين في يوم جمعة ويوم عرفة . أخرجه الترمذي (9).
وجه التأييد (10) : أن الظاهر أن تمام الدين ببيان الخليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لحفظ الشريعة وبيان ما يحتاج الناس إليه ، ولعل الله تعالى أخبر رسوله (صلى الله عليه وآله) بالحافظ للشريعة والخليفة بعده ، وأخبر بكمال دينه به بقوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وأمر بتبليغه بلا تعجيل في التبليغ ، فأخر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رعاية للوقت المناسب ، لكون الأمر موسعا ، أو انتظارا لبيان وقت التبليغ ، لكون هذا التبليغ غير موافق لطباع الناس ، فينبغي انتظار الوقت المناسب ، فشدد الله تعالى في التبليغ ووعده بالعصمة من الناس بيانا لحضور الوقت ، وإعلاما للمستبصر عن كيفية الأمر .
ويؤيد ما ذكرته كون نزول هذه الآية في حجة الوداع ، وكون هذه الآية وآية التبليغ وآية الولاية في سورة واحدة هي سورة المائدة ، وما نقل من طريق الشيعة في باب المسح على الرجلين عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن المائدة نزلت قبل وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بشهرين أو ثلاثة (11) .
اعترض صاحب المغني بما نقل عن شيخه بما حاصله : أن معنى الخبر الإبانة عن الفضل القطعي بحسب الأزمان ، فأوجب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) موالاته على القطع من غير اختصاص بالحاضرين ، وهذه منزلة أشرف من منزلة الإمامة تختص به ، ودلوا على أن المراد بمولى ما ذكروه بقوله تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد: 11] وأن المراد بذلك موالاة الدين والنصرة ، وبقوله تعالى {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4] وبينوا أن الموالاة وإن كانت مشتركة ، فقد غلب عرف الشرع في استعمالها في هذا الوجه ، قال الله تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } [التوبة: 71] ويدل على هذا " اللهم وال من والاه " وقول عمر " أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة " يدل على أن هذا هو المراد انتهى كلامه بعضه بالمعنى وبعضه باللفظ (12) .
وحاصله : أن الموالاة وإن كان كانت بحسب اللغة النصرة ، لكن ربما كان استعمالها في هذا المقام في كمالها الذي هو موافقة الظاهر للباطن ، ولهذا لا يختص الدعاء بالموالاة بالحاضرين في المكان والموجودين في الزمان .
وفيه أنه ظهر من كلامه عدم حكمه بعدم تواتر المقدمة ، وظاهر أن قوله (صلى الله عليه وآله) " ألست أولى بكم من أنفسكم " لا يناسب غير الأولوية في أمور الأمة ووجوب الطاعة ، فذو المقدمة مثلها . وأيضا قول عمر " أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة " موافق للأولوية التي ذكرتها لا لما ذكره .
وأيضا يجب حمل اللفظ على معنى يفهمه الناس ، وظاهر أن الأولوية المذكورة في المقدمة مما يفهم العامة والخاصة ، منها معنى الأولوية في أمرهم ووجوب إطاعتهم ، ولا يفهم منها أحد ممن يخلو نفسه عن الأغراض ما ذكره ، فكيف يحمل الكلام الذي صدر عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمجمع عام مع اهتمامه التام في الاسماع لإفهامهم على معنى لا يفهمه أحد منهم أو أكثرهم وأيضا أصبحت في قول عمر يدل على أن حصول هذه الحالة كان في هذا اليوم ، ولو كان المراد كما ذكره كان الحصول سابقا والاظهار في هذا اليوم .
وأيضا استدلاله ( عليه السلام ) بهذا الخبر في الشورى يدل على دلالته على الإمامة ، سواء كانت باعتبار المزية التي تظهر منه على ما نقلنا من شيخ صاحب المغني ، أو للدلالة على أولويته بالأمر ، وإلا لم يكن الحق دائرا معه ( عليه السلام ) ، وهو خلاف الرواية المنقولة بطرق الخاصة والعامة المسلمة بين الفرق .
لا يقال : استدلاله بهذا الخبر في الشورى لا يدل على ادعائه الإمامة بهذا الخبر في هذه المرتبة لا قبل الأول .
لأنا نقول : استدلاله بهذا الخبر يدل على استحقاقه الإمامة أول الأمر ، لدلالة الخبر على أنه ( عليه السلام ) مولى لمن كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مولاه ، وكونه ( صلى الله عليه وآله ) مولى عام فكذا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وعدم القائل بإمامته ( عليه السلام ) بعد عمر .
وتوهم السؤال هاهنا بدلالة الخبر على إمامته ( عليه السلام ) في زمانه ( صلى الله عليه وآله ) على تقدير حقية ما ذكر ، مثل السؤال المذكور في آية الولاية .
والجواب مثل الجواب المذكور هناك مع زيادة ، هي أن السامعين لمثل هذه المقالة من الأنبياء والأئمة والسلاطين والمشايخ يفهمون منه الاستخلاف الذي هو النيابة بعد الوفاة لا الشراكة حين الحياة .
قال صاحب المغني بعد منع كون المراد من المقدمة وجوب الطاعة والانقياد ، وتجويز كون المراد بها الاشفاق والرحمة وحسن النظر ، ما حاصله : أنه على تقدير تسليم أن المراد بالمقدمة ما ذكروه ، فلا نسلم وجوب رعاية موافقة معنى المقدمة في الجملة التالية ، بل تقديم المقدمة للتأكيد عليهم ، مثل قوله ( صلى الله عليه وآله ) ، إنما أنا لكم مثل الوالد ، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط ، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بغائط وبول (13) .
فكأنه ( صلى الله عليه وآله ) قال : ألست أولى بكم في بيان الشرائع والأحكام ، فإذا كنت كذلك في بيان الدين ، فمن يلزمه موالاتي ونصرتي وإطاعتي ظاهرا وباطنا ، فليوال عليا على هذا الحد ، ولو صرح بما ذكرته كان خارجا عن العبث .
وقال السيد في جوابه ما حاصله : قد يكون اللفظ محتملا لأمر منفرد أو لا يحتمله منضما ، كما أنه إذا قال صاحب عبيد : عبدي حر ، فلفظه مجمل محتمل لكل واحد من عبيده ، وبأيهم فسره فهو مقبول ، وإذا عين أحد عبيده بصفات وقال بعدها : عبدي حر ، فالمراد هو العبد المعين ، ولو فسره بغيره فهو خطأ واضح .
وما شبهه بقوله ( صلى الله عليه وآله ) " إنما أنا لكم مثل الوالد " الخ خارج عن المشابهة ، لأن تعيين المقدمة لمعنى التالي لها إنما هو في موضع يحتمل المؤخر معنى المقدم ، والمثال ليس كذلك ، وجواز أحدهما وعدم جواز الآخر واضح ، وكذلك مخالفة حكم التصريح والاجمال ، وجواز التصريح بهذا وعدم جواز الاجمال مع إرادة هذا المعنى (14) .
وأقول : موالاته ونصرته ( عليه السلام ) ظاهرا وباطنا مثل موالاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ونصرته مأخوذ على الأمة ، بناء على هذا الاحتمال فكيف حال أهل الشورى ؟ أليس ذكر مناقبه ( عليه السلام ) التي منها حديث الغدير في يوم الشورى في مقام استدلاله ( عليه السلام ) على استحقاق الأمر دعوى منه بالاستحقاق ؟ أو لم يكن هذا استنصارا منه ( عليه السلام ) بهم وبغيرهم ممن قال بوجوب إطاعة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ألم يكونوا مندرجين في دعاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على من خذله ( عليه السلام ) ؟ أليس ما فعلوه تركا لقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ورعاية ما قاله ابن الخطاب ضمنا - كما يظهر في مبحث الشورى ... - وابن عوف صريحا ؟
تأمل فيما يقول المنكر للولاية لابقاء الاعتقاد الذي وجد آباءه وكبراءه عليه ، فافرض احضارك للحساب ، وهيأ الجواب ليوم المآب ، واتبع الصادق المصدق الذي لم يتكلم عن الهوى ، ولا ترض بمساواتك لمن رد قول الصادق المصدق بقوله {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [الزخرف: 23] .
نقل صاحب المغني عن شيخه أبي الهذيل ما حاصله : أن بعض أهل العلم نقموا على علي (عليه السلام ) بعض أموره ، فظهر على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فأخبر منزلته (عليه السلام ) دفعا للفتنة ، وقال بعضهم : إن سبب ذلك أنه وقع كلام بين أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وبين أسامة بن زيد ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أتقول هذا لمولاك ، فقال : لست بمولاي بل مولاي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : من كنت مولاه فعلي مولاه ، يريد بيان منزلته ( عليه السلام ) ، وقال بعضهم مثل ذلك بينه وبين زيد بن حارثة ، وأنكروا كون خبر الغدير بعد موت زيد .
أقول : وإن لم يرض القاضي بما قاله شيخه ، وقال : المعتمد في معنى الخبر ما قدمناه ، لأن كل ذلك لو صح وكان الخبر خارجا ، فلم يمنع من التعلق بظاهره وما يقتضيه لفظه ، فيجب أن يكون الكلام في ذلك دون بيان السبب الذي وجوده كعدمه في أن وجود الاستدلال بالخبر لا يتغير ، لكن لما جوز بعض المتأخرين هذه الاحتمالات ، وكانت شبهة لبعض الناظرين ، نقلته مع بعض ما يتعلق به .
وحاصل بعض ما ذكره السيد في جوابه الحوالة بما ذكره سابقا من اقتضاء الخبر الإمامة ، فما ينافي الاقتضاء فهو باطل . وأما نسبة المنازعة إلى خصوص زيد ، فباطل بوجه آخر ، وهو أنه قتل بموتة ، وحديث الغدير بعد المراجعة من حجة الوداع ، وبينهما زمان طويل (15) .
وأيضا لو كان المقصود من الخبر ما ذكروه ، لما حسن من أمير المؤمنين ( عليه السلام ) احتجاجه به في الشورى ، ولوجب أن يقول القوم في جوابه : سبب هذا الخبر كيت وكيت فلا يدل على فضلك ، فالاحتجاج والسكوت شاهدان على بطلان الاحتمالات المذكورة .
وأيضا على ما ذكروه لم يكن لقول عمر على ما تظاهرت به الروايات " أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة " معنى .
اعلم أن بعض ما ذكر من الاستدلال بخبر الغدير استدلال به مع المقدمة وبعضه عام ، ويمكن الاستدلال به من غير حاجة إلى المقدمة بقوله ( صلى الله عليه وآله ) " اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله " بأن نقل الشيعة متواتر في كونه مدعيا للإمامة في أول الأمر في مواضع يمكن اظهاره ، وكونه متواترا لا ينافي عدم ظهوره للمنكرين لاعتقادهم بضد ذلك ، باعتبار عدم التخلية في المستدلين والتبعية لهم في المقلدين ، والاعتقاد بالضد مانع لظهور الحق وإن كان متواترا ، ولهذا لم يظهر معجزة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لليهود والنصارى وسائر المنكرين .
وكما يدل النقل على دعوى الإمامة ، كذلك سيرته ( عليه السلام ) في الامتناع عن البيعة على قدر الإمكان أولا ، وإظهاره كونه مظلوما في بعض المواضع آخرا ، كما يظهر لك عند بلوغ النوبة إليه إن شاء الله تعالى ، وإذا كان مدعيا للأمر ، ووجب موالاته ونصرته ، ويستحق المعاداة والخذلان من عاداه وخذله ، فالأمر حق له ، فذكر المقدمة ليس لحاجة المطلوب إليها بل للأظهرية ، بل لك استنباط المطلوب من قوله ( صلى الله عليه وآله ) " واخذل من خذله " من غير حاجة إلى الكلام السابق مطلقا .
_____________
(1) الفصول المهمة ص 41 .
(2) الشافي للشريف المرتضى 2 : 261 - 262 .
(3) الشافي 2 : 265 .
(4) الشافي 2 : 267 - 268 .
(5) الشافي 2 : 263 - 265 .
(6) اعلم أن قول القاضي بأن كثيرا من شيوخنا ينكر أن يكون هذه المقدمة ثابتة بالتواتر ، لا يدل على أقلية القائلين بالتواتر من مشايخه عنده ، وإنما يدل عليها لو كانت كثرة المنكرين إضافية عنده ، ولا دلالة في كلامه عليه ، فلا تنافي بين ما ذكره السيد في جواب منع تواتر المقدمة ، من أن كل الشيعة وأكثر رواة العامة نقلوا الخبر بمقدمته ، وما ذكرته في عدم إخلال السند في نقل حكاية السقيفة جار في هذا وأمثاله .
ولو فرض دلالة ما ذكره على أقلية القائلين بالتواتر من مشايخه لعدم عده أكثر ناقلي المقدمة من المشايخ ، وإن كانوا من أهل السنة ، فلا ضرر فيها أصلا ، لأن نقل بعض مشايخه كاف كما ذكرته في الأصل ، وإن كان الناقلون قليلا إضافيا وحقيقيا أيضا ، فإذا كان الناقلون أكثر فالدلالة على الكفاية أظهر وإن لم يعد القاضي واحدا منهم من المشايخ " منه " .
(7) الشافي 2 : 297 عنه .
(8) مع ظهور نزول الآية في أمر الولاية بما ذكرته يدل عليه ما رواه ابن بطريق ( رحمه الله) من تفسير الثعلبي بإسناده عن ابن عباس ، في تفسير قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] الآية نزلت في علي بن أبي طالب ، أمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يبلغ فيه فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بيد علي ( عليه السلام ) فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " منه " .
(9) جامع الأصول 2 : 197 - 199 .
(10) ويدل أيضا على كون نزول آية إكمال الدين في أمر الولاية ما نقل عن أبي هريرة في
حديث طويل إلى أن قال : وهو قوله فأنزل الله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة: 3] ولعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعد بيان مرتبة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في يوم الغدير بين أن آية إكمال الدين نزلت في هذا ، وزعم أبو هريرة نزولها في هذا اليوم ، ويحتمل كون الفاء في " فأنزل الله " لتفاوت الحديث والآية لا للتعقيب ، فلا ينافي كون نزول الآية في يوم عرفة كما دلت الروايات عليه " منه " .
(11) روى الشيخ في التهذيب 1 : 361 بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال: سمعته يقول : جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وفيهم علي ( عليه السلام ) وقال : ما تقولون في المسح على الخفين ؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال : رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يمسح على الخفين ، فقال علي ( عليه السلام ) : قبل المائدة أو بعدها ؟ فقال : لا أدري ، فقال علي ( عليه السلام ) : سبق الكتاب الخفين ، إنما أنزلت المائدة قبل أن يقبض بشهرين أو ثلاثة .
(12) الشافي 2 : 283 عنه .
(13) مسند أحمد بن حنبل 2 : 247 .
(14) الشافي 2 : 304 - 305 .
(15) الشافي 2 : 311 - 313 .