بسم الله الرحمن الرحيم
بينّا ضمن جواب بعض الشبهات السابقة ان لمصطلح الاجتهاد معاني متعددة في تاريخ الفقه الإسلامي، فقد رادف الشافعي بينه وبين القياس، حيث يقول: قال: فما القياس؟ أهو الاجتهاد؟ أم هما مفترقان؟ قلت: هما اسمان لمعنى واحد.
قال: فما جَماعُهُمَا؟
قلت: كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم، وعلى سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه إذا كان بعينه حكم: اتِّباعه، وإذا لم يكن فيه بعينه، طُلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد، والاجتهاد قياس([1]).
بينما عرّفه عبد الوهاب خلّاف: بذل الجهد للتوصل الى الحكم، في واقعة لا نص فيها، بالتفكير واستخدام الوسائل التي هدى الشرع إليها للاستنباط بها فيما لا نص فيه([2]).
وبعبارة اخرى الاجتهاد هو التفكير الشخصي، فالفقيه حيث لا يجد النص يرجع الى تفكيره الخاص ويستلهمه ويبني على ما رجح في فكره الشخصي من تشريع.
والاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلاً من أدلة الفقيه ومصدراً من مصادره، فكما ان الفقيه قد يستند الى الكتاب او السنة ويستدل بهما معاً كذلك يستند في حالات عدم توفر النص الى الاجتهاد الشخصي ويستدل به.
وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السني، وعلى رأسها مدرسة ابي حنيفة؛ ولقي في نفس الوقت معارضة شديدة من أئمة أهل البيت والفقهاء الذين ينتسبون الى مدرستهم([3]).
وقد لخص أبو بكر الرازي المداليل التي وصل اليها هذا المصطلح لدى الفقهاء والأصوليين السنة وحصرها في ثلاثة معاني:
أحدها: القياس الشرعي: لأن العلة لما لم تكن موجبة للحكم، لجواز وجودها خالية عنه، لم يوجب ذلك العلم بالمطلوب، فلذلك كام طريقه الاجتهاد.
والثاني: ما يغلب في الظن من غير علة، كالاجتهاد في الوقت، والقبلة، والتقويم.
والثالث: الاستدلال بالأصول([4]).
وفي سبيل توضيح ما سبق يجب ان نذكر التطور الذي مرت به كلمة (الاجتهاد)، لكي نتبين كيف ان النزاع الذي وقع جواز عملية الاستنباط والضجة التي اثيرت ضدها لم يكن الا نتيجة فهم غير دقيق للاصطلاح العلمي، وغفلة عن التطورات التي مرت بها كلمة (الاجتهاد) في تاريخ العلم، معتمدين بذلك على كتابات علم من أعلام الأصوليين المتأخرين وهو السيد محمد باقر الصدر في رصده لتطور مفهوم ومعنى كلمة الاجتهاد في تاريخ الفقه الإمامي، حيث قال (ره):
الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد وهو (بذل الوسع للقيام بعمل ما)، وقد استعملت هذه الكلمة ـ لأول مرة ـ على الصعيد الفقهي للتعبير بها عن قاعدة من القواعد التي قررتها بعض مدارس الفقه السني وسارت على أساسها وهي القاعدة القائلة: Sإن الفقيه إذا أراد ان يستنبط حكماً شرعياً ولم يجد نصاً يدل عليه في الكتاب او السنة رجع الى الاجتهاد بدلاً من النصR.
والاجتهاد هنا يعني التفكير الشخصي، فالفقيه حيث لا يجد الى النص يرجع تفكيره الخاص ويستلهمه ويبني على ما ريجح في فكره الشخصي من تشريع، وقد يعبر عنه بالرأي ايضاً.
والاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلاً من أدلة الفقيه ومصدراً من مصادره، فكما ان الفقيه قد يستند الى الكتاب او السنة ويستدل بهما معاً كذلك يستند في حالات عدم توفر النص الى الاجتهاد الشخصي ويستدل به.
وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السني، وعلى رأسها مدرسة ابي حنيفة؛ ولقي في نفس الوقت معارضة شديدة من أئمة أهل البيت (%) والفقهاء الذين ينتسبون الى مدرستهم.
وتتبع كلمة الاجتهاد يدل على ان الكلمة حملت هذا المعنى وكانت تستخدم للتعبير عنه منذ عصر الأئمة الى القرن السابع فالروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت (%) تذم الاجتهاد وتريد به ذلك المبدأ الفقهي الذي يتخذ من التفكير الشخصي مصدراً من مصادر الحكم، وقد دخلت الحملة ضد هذا المبدأ الفقهي دور التصنيف في عصر الأئمة أيضاً والرواة الذين حملوا آثارهم، وكانت الحملة تستعمل كلمة الاجتهاد غالباً للتعبير عن ذلك المبدأ وفقاً للمصطلح الذي جاء في الروايات، فقد صنف عبد الله بن عبد الرحمن الزبيري كتاباً اسماه Sالاستفادة في الطعون على الأوائل والرد على أصحاب الاجتهاد والقياسR([5]). وصنف هلال بن ابراهيم بن ابي الفتح المدني كتاباً في الموضوع باسم كتاب Sالرد على من رد آثار الرسول واعتمد على نتائج العقولR([6])، وصنف في عصر الغيبة الصغرى أو قريباً منه اسماعيل بن علي بن اسحاق بن أبي سهل النوبختي كتاباً في الرد على عيسى بن أبان في الاجتهاد... ([7]).
كما نص على ذلك كله النجاشي صاحب الرجال في ترجمة كل واحد من هؤلاء.
وفي أعقاب الغيبة الصغرى نجد الصدوق في أواسط القرن الرابع يواصل تلك الحملة، ونذكر له على سبيل المثال تعقيبه على قصة موسى والخضر، إذ كتب يقول: ان موسى على كمال عقله وفضله ومحله من الله تعالى لم يدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر حتى اشتبه عليه وجه الأمر به، فإذا لم يجز لأنبياء الله ورسله القياس والاستدلال والاستخراج كان من دونهم من الأمم أولى بأن لا يجوز لهم ذلك...فإذا لم يصلح موسى للاختيار ـ مع فضله ومحله ـ فكيف تصلح الأمة لاختيار الإمام، وكيف يصلحون لاستنباط الأحكام الشرعية واستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتةR.
وفي أواخر القرن الرابع يجيءُ الشيخ المفيد فيسر على نفس الخط ويهجم على الاجتهاد، وهو يعبر بهذه الكلمة عن ذلك المبدأ الفقهي الآنف الذكر ويكتب كتاباً في ذلك باسم Sالنقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأيR([8]).
ونجد المصطلح نفسه عند السيد المرتضى في أوائل القرن الخامس، إذ كتب في الذريعة يذم الاجتهاد ويقول: Sإن الاجتهاد باطل، وإن الإمامية لا يجوز عندهم العمل بالظن ولا الرأي ولا الاجتهادR([9])، وكتب في كتابه الفقهي SالانتصارR معرضاً بابن الجنيد قائلاً: Sإنما عول ابن الجنيد في هذه المسألة على ضرب من الرأي والاجتهاد وخطأه ظاهرR([10])، وقال في مسألة مسح الرجلين في فصل الطهارة من كتاب الانتصار: Sإنا لا نرى الاجتهاد ولا نقول بهR.
واستمر هذا الاصطلاح في كلمة الاجتهاد بعد ذلك ايضاً، فالشيخ الطوسي الذي توفي في أواسط القرن الخامس يكتب في كتاب العدة قائلاً: Sأما القياس والاجتهاد فعندنا انهما ليسا بدليلين، بل محظور في الشريعة استعمالهماR([11]).
وفي أواخر القرن السادس يستعرض ابن ادريس في مسألة تعارض البينتين من كتابه السرائر عدداً من المرجحات لأحدى البينتين على الأخرى ثم يعقب ذلك قائلاً: Sولا ترجيح بغير ذلك عند اصحابنا، والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندناR([12]).
وهكذا تدل هذه النصوص بتعاقبها التاريخي المتتابع على ان كلمة الاجتهاد كانت تعبيراً عن ذلك المبدأ الفقهي المتقدم الى أوائل القرن السابع، وعلى هذا الأساس اكتسبت الكلمة لوناً مقيتاً وطابعاً من الكراهية والاشمئزاز في الذهنية الفقهية الإمامية نتيجة لمعارضة ذلك المبدأ والأيمان ببطلانه.
ولكن كلمة الاجتهاد تطورت بعد ذلك في مصطلح فقهائنا ولا يوجد لدينا الآن نص شيعي يعكس هذا التطور أقدم تاريخاً من كتاب المعارج للمحقق الحلي المتوفي سنة (676هـ)، إذ كتب المحقق تحت عنوان حقيقة الاجتهاد يقول: Sوهو في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلة الشرع اجتهاداً، لأنها تبتني على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر، سواء كان ذلك الدليل قياساً أو غيره، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد.
فان قيل: يلزم على هذا ان يكون الإمامية من أهل الاجتهاد؟
قلنا: الأمر كذلك لكن فيه إيهام من حيث ان القياس من جملة الاجتهاد، فاذا استثني القياس كنا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياسR([13]).
ويلاحظ على هذا النص بوضوح ان كلمة الاجتهاد كانت لا تزال في الذهنية الاساسية مثقلة بتبعة المصطلح الأول، ولهذا يلمح النص الى ان هناك من يتحرج من هذا الوصف ويثقل عليه ان يسمي فقهاء الإمامية مجتهدين.
ولكن المحقق الحلي لم يتحرج عن اسم الاجتهاد بعد أن طوره أو تطور في عرف الفقهاء تطويراً يتفق مع مناهج الاستنباط في الفقه الإمامي، إذ بينما كان الاجتهاد مصدراً للفقيه يصدر عنه ودليلاً يستدل به كما يصدر عن آية أو رواية، أصبح في المصطلح الجديد يعبر عن الجهد الذي يبذله الفقيه في استخراج الحكم الشرعي من أدلته ومصادره، فلم يعد مصدراً من مصادر الاستنباط، بل هو عملية استنباط الحكم من مصادره التي يمارسها الفقيه.
والفرق بين المعنيين جوهري للغاية، إذ كان على الفقيه ـ على أساس المصطلح الأول للاجتهاد ـ ان يستنبط من تفكيره الشخصي وذوقه الخاص في حالة عدم توفر النص، فاذا قيل له: ما هو دليلك ومصدر حكمك هذا؟ استدل بالاجتهاد وقال: الدليل هو اجتهادي وتفكيري الخاص. وأما المصطلح الجديد فهو لا يسمح للفقيه أن يبرر أي حكم من الأحكام بالاجتهاد، لأن الاجتهاد بالمعنى الثاني ليس مصدراً للحكم بل هو عملية استنباط الأحكام من مصادرها، فاذا قال الفقيه: هذا اجتهادي، كان معناه أن هذا ما استنبطه من المصادر والأدلة، فمن حقنا أن نسأله ونطلب منه ان يدلنا على تلك المصادر والأدلة الي استنبط الحكم منها.
وقد مر هذا المعنى الجديد لكلمة الاجتهاد بتطور ايضاً، فقد حدده المحقق الحلي في نطاق عمليات الاستنباط التي لا تستند الى ظواهر النصوص فكل عملية استنباط لا تستند الى ظواهر النصوص تسمى اجتهاداً دون ما يستند الى تلك الظواهر. ولعل الدافع الى هذا التحديد أن استنباط الحكم من ظاهر النص ليس فيه كثير جهد أو عناء علمي ليسمى اجتهاداًً.
ثم اتسع نطاق الاجتهاد بعد ذلك فاصبح يشمل عملية استنباط الحكم من ظاهر النص ايضاً، لأن الأصوليين بعد هذا لاحظوا بحق ان عملية استنباط الحكم من ظاهر النص تستبطن كثيراً من الجهد العلمي في سبيل معرفة الظهور وتحديده واثبات حجية الظهور العرفي.
ولم يقف توسع الاجتهاد كمصطلح عند هذا الحد، بل شمل في تطور حديث عملية الاستنباط بكل ألوانها، فدخلت في الاستنباط كل عملية يمارسها الفقيه لتحديد الموقف العملي تجاه الشريعة عن طريق إقامة الدليل على الحكم الشرعي او تعيين الموقف العملي مباشرة.
وهكذا أصبح الاجتهاد يرادف عملية الاستنباط، وهذه التطورات التي مرت بها كلمة (الاجتهاد) كمصطلح ترتبط بتطورات نفس الفكر العلمي الى حدٍ ما([14]).
وعلى هذا الضوء يمكننا ان نفسر موقف جماعة من المحدثين ممن عارضوا (الاجتهاد)، فإن هؤلاء استفزتهم كلمة (الاجتهاد)، لما تحمل من تراث المصطلح الأول الذي شن أهل البيت (%)، حملة شديدة عليه وهو يختلف عن الاجتهاد بالمعنى الثاني، وما دمنا قد ميزنا بين معنيي الاجتهاد فنستطيع ان نعيد الى المسألة بداهتها ونتبين بوضوح جواز الاجتهاد بالمعنى المرادف لعملية الاستنباط([15]).
([1]) الشافعي (محمد بن ادريس): الرسالة: 205-206، تحقيق: د. محمد سيد كيلاني، ط. الأولى- القاهرة، مطبعة البابي.
([2]) خلَّاف (عبد الوهاب): مصادر التشريع فيما لا نص فيه: ص7.
([3]) حلقات الأصول: الحلقة الأولى.
([4]) الشوكاني (محمد بن علي): ارشاد الفحول: ج2، ص206.
([5]) النجاشي (ابو العباس احمد بن علي): رجال النجاشي: ص152، (ترجمة عبد الله بن احمد بن عبد الرحمن)، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم ـ الطبعة الرابعة.
([6]) المصدر نفسه: (ترجمة هلال بن ابراهيم).
([7]) المصدر نفسه: (ترجمة أبي سهل النوبختي).
([8]) المصدر نفسه: ص287.
([9]) السيد المرتضى (علي بن الحسين الموسوي): الذريعة الى أصول الشريعة: ج2، ص308.
([10]) السيد المرتضى: الناصريات: ص238، ط. منشورات الشريف الرضي ـ قم.
([11]) الطوسي (أبو جعفر محمد بن الحسن): العدة في أصول الفقه، تحقيق: محمد رضا الانصاري، ط. مطبعة ستاره ـ قم.
([12]) أبن إدريس (ابو جعفر محمد بن منصور): السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي: ج2، ص170، ط. مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الثالثة.
([13]) المحقق الحلي (نجم الدين ابو القاسم): معارج الأصول: ص179، تحقيق: السيد محمد حسين الرضوي، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ـ قم.
([14]) الصدر (السيد محمد باقر): المعالم الجديدة: ص28.
([15]) السيد المرتضى: الناصريات: ص238، ط. منشورات الشريف الرضي ـ قم.
بينّا ضمن جواب بعض الشبهات السابقة ان لمصطلح الاجتهاد معاني متعددة في تاريخ الفقه الإسلامي، فقد رادف الشافعي بينه وبين القياس، حيث يقول: قال: فما القياس؟ أهو الاجتهاد؟ أم هما مفترقان؟ قلت: هما اسمان لمعنى واحد.
قال: فما جَماعُهُمَا؟
قلت: كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم، وعلى سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه إذا كان بعينه حكم: اتِّباعه، وإذا لم يكن فيه بعينه، طُلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد، والاجتهاد قياس([1]).
بينما عرّفه عبد الوهاب خلّاف: بذل الجهد للتوصل الى الحكم، في واقعة لا نص فيها، بالتفكير واستخدام الوسائل التي هدى الشرع إليها للاستنباط بها فيما لا نص فيه([2]).
وبعبارة اخرى الاجتهاد هو التفكير الشخصي، فالفقيه حيث لا يجد النص يرجع الى تفكيره الخاص ويستلهمه ويبني على ما رجح في فكره الشخصي من تشريع.
والاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلاً من أدلة الفقيه ومصدراً من مصادره، فكما ان الفقيه قد يستند الى الكتاب او السنة ويستدل بهما معاً كذلك يستند في حالات عدم توفر النص الى الاجتهاد الشخصي ويستدل به.
وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السني، وعلى رأسها مدرسة ابي حنيفة؛ ولقي في نفس الوقت معارضة شديدة من أئمة أهل البيت والفقهاء الذين ينتسبون الى مدرستهم([3]).
وقد لخص أبو بكر الرازي المداليل التي وصل اليها هذا المصطلح لدى الفقهاء والأصوليين السنة وحصرها في ثلاثة معاني:
أحدها: القياس الشرعي: لأن العلة لما لم تكن موجبة للحكم، لجواز وجودها خالية عنه، لم يوجب ذلك العلم بالمطلوب، فلذلك كام طريقه الاجتهاد.
والثاني: ما يغلب في الظن من غير علة، كالاجتهاد في الوقت، والقبلة، والتقويم.
والثالث: الاستدلال بالأصول([4]).
وفي سبيل توضيح ما سبق يجب ان نذكر التطور الذي مرت به كلمة (الاجتهاد)، لكي نتبين كيف ان النزاع الذي وقع جواز عملية الاستنباط والضجة التي اثيرت ضدها لم يكن الا نتيجة فهم غير دقيق للاصطلاح العلمي، وغفلة عن التطورات التي مرت بها كلمة (الاجتهاد) في تاريخ العلم، معتمدين بذلك على كتابات علم من أعلام الأصوليين المتأخرين وهو السيد محمد باقر الصدر في رصده لتطور مفهوم ومعنى كلمة الاجتهاد في تاريخ الفقه الإمامي، حيث قال (ره):
الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد وهو (بذل الوسع للقيام بعمل ما)، وقد استعملت هذه الكلمة ـ لأول مرة ـ على الصعيد الفقهي للتعبير بها عن قاعدة من القواعد التي قررتها بعض مدارس الفقه السني وسارت على أساسها وهي القاعدة القائلة: Sإن الفقيه إذا أراد ان يستنبط حكماً شرعياً ولم يجد نصاً يدل عليه في الكتاب او السنة رجع الى الاجتهاد بدلاً من النصR.
والاجتهاد هنا يعني التفكير الشخصي، فالفقيه حيث لا يجد الى النص يرجع تفكيره الخاص ويستلهمه ويبني على ما ريجح في فكره الشخصي من تشريع، وقد يعبر عنه بالرأي ايضاً.
والاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلاً من أدلة الفقيه ومصدراً من مصادره، فكما ان الفقيه قد يستند الى الكتاب او السنة ويستدل بهما معاً كذلك يستند في حالات عدم توفر النص الى الاجتهاد الشخصي ويستدل به.
وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السني، وعلى رأسها مدرسة ابي حنيفة؛ ولقي في نفس الوقت معارضة شديدة من أئمة أهل البيت (%) والفقهاء الذين ينتسبون الى مدرستهم.
وتتبع كلمة الاجتهاد يدل على ان الكلمة حملت هذا المعنى وكانت تستخدم للتعبير عنه منذ عصر الأئمة الى القرن السابع فالروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت (%) تذم الاجتهاد وتريد به ذلك المبدأ الفقهي الذي يتخذ من التفكير الشخصي مصدراً من مصادر الحكم، وقد دخلت الحملة ضد هذا المبدأ الفقهي دور التصنيف في عصر الأئمة أيضاً والرواة الذين حملوا آثارهم، وكانت الحملة تستعمل كلمة الاجتهاد غالباً للتعبير عن ذلك المبدأ وفقاً للمصطلح الذي جاء في الروايات، فقد صنف عبد الله بن عبد الرحمن الزبيري كتاباً اسماه Sالاستفادة في الطعون على الأوائل والرد على أصحاب الاجتهاد والقياسR([5]). وصنف هلال بن ابراهيم بن ابي الفتح المدني كتاباً في الموضوع باسم كتاب Sالرد على من رد آثار الرسول واعتمد على نتائج العقولR([6])، وصنف في عصر الغيبة الصغرى أو قريباً منه اسماعيل بن علي بن اسحاق بن أبي سهل النوبختي كتاباً في الرد على عيسى بن أبان في الاجتهاد... ([7]).
كما نص على ذلك كله النجاشي صاحب الرجال في ترجمة كل واحد من هؤلاء.
وفي أعقاب الغيبة الصغرى نجد الصدوق في أواسط القرن الرابع يواصل تلك الحملة، ونذكر له على سبيل المثال تعقيبه على قصة موسى والخضر، إذ كتب يقول: ان موسى على كمال عقله وفضله ومحله من الله تعالى لم يدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر حتى اشتبه عليه وجه الأمر به، فإذا لم يجز لأنبياء الله ورسله القياس والاستدلال والاستخراج كان من دونهم من الأمم أولى بأن لا يجوز لهم ذلك...فإذا لم يصلح موسى للاختيار ـ مع فضله ومحله ـ فكيف تصلح الأمة لاختيار الإمام، وكيف يصلحون لاستنباط الأحكام الشرعية واستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتةR.
وفي أواخر القرن الرابع يجيءُ الشيخ المفيد فيسر على نفس الخط ويهجم على الاجتهاد، وهو يعبر بهذه الكلمة عن ذلك المبدأ الفقهي الآنف الذكر ويكتب كتاباً في ذلك باسم Sالنقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأيR([8]).
ونجد المصطلح نفسه عند السيد المرتضى في أوائل القرن الخامس، إذ كتب في الذريعة يذم الاجتهاد ويقول: Sإن الاجتهاد باطل، وإن الإمامية لا يجوز عندهم العمل بالظن ولا الرأي ولا الاجتهادR([9])، وكتب في كتابه الفقهي SالانتصارR معرضاً بابن الجنيد قائلاً: Sإنما عول ابن الجنيد في هذه المسألة على ضرب من الرأي والاجتهاد وخطأه ظاهرR([10])، وقال في مسألة مسح الرجلين في فصل الطهارة من كتاب الانتصار: Sإنا لا نرى الاجتهاد ولا نقول بهR.
واستمر هذا الاصطلاح في كلمة الاجتهاد بعد ذلك ايضاً، فالشيخ الطوسي الذي توفي في أواسط القرن الخامس يكتب في كتاب العدة قائلاً: Sأما القياس والاجتهاد فعندنا انهما ليسا بدليلين، بل محظور في الشريعة استعمالهماR([11]).
وفي أواخر القرن السادس يستعرض ابن ادريس في مسألة تعارض البينتين من كتابه السرائر عدداً من المرجحات لأحدى البينتين على الأخرى ثم يعقب ذلك قائلاً: Sولا ترجيح بغير ذلك عند اصحابنا، والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندناR([12]).
وهكذا تدل هذه النصوص بتعاقبها التاريخي المتتابع على ان كلمة الاجتهاد كانت تعبيراً عن ذلك المبدأ الفقهي المتقدم الى أوائل القرن السابع، وعلى هذا الأساس اكتسبت الكلمة لوناً مقيتاً وطابعاً من الكراهية والاشمئزاز في الذهنية الفقهية الإمامية نتيجة لمعارضة ذلك المبدأ والأيمان ببطلانه.
ولكن كلمة الاجتهاد تطورت بعد ذلك في مصطلح فقهائنا ولا يوجد لدينا الآن نص شيعي يعكس هذا التطور أقدم تاريخاً من كتاب المعارج للمحقق الحلي المتوفي سنة (676هـ)، إذ كتب المحقق تحت عنوان حقيقة الاجتهاد يقول: Sوهو في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلة الشرع اجتهاداً، لأنها تبتني على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر، سواء كان ذلك الدليل قياساً أو غيره، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد.
فان قيل: يلزم على هذا ان يكون الإمامية من أهل الاجتهاد؟
قلنا: الأمر كذلك لكن فيه إيهام من حيث ان القياس من جملة الاجتهاد، فاذا استثني القياس كنا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياسR([13]).
ويلاحظ على هذا النص بوضوح ان كلمة الاجتهاد كانت لا تزال في الذهنية الاساسية مثقلة بتبعة المصطلح الأول، ولهذا يلمح النص الى ان هناك من يتحرج من هذا الوصف ويثقل عليه ان يسمي فقهاء الإمامية مجتهدين.
ولكن المحقق الحلي لم يتحرج عن اسم الاجتهاد بعد أن طوره أو تطور في عرف الفقهاء تطويراً يتفق مع مناهج الاستنباط في الفقه الإمامي، إذ بينما كان الاجتهاد مصدراً للفقيه يصدر عنه ودليلاً يستدل به كما يصدر عن آية أو رواية، أصبح في المصطلح الجديد يعبر عن الجهد الذي يبذله الفقيه في استخراج الحكم الشرعي من أدلته ومصادره، فلم يعد مصدراً من مصادر الاستنباط، بل هو عملية استنباط الحكم من مصادره التي يمارسها الفقيه.
والفرق بين المعنيين جوهري للغاية، إذ كان على الفقيه ـ على أساس المصطلح الأول للاجتهاد ـ ان يستنبط من تفكيره الشخصي وذوقه الخاص في حالة عدم توفر النص، فاذا قيل له: ما هو دليلك ومصدر حكمك هذا؟ استدل بالاجتهاد وقال: الدليل هو اجتهادي وتفكيري الخاص. وأما المصطلح الجديد فهو لا يسمح للفقيه أن يبرر أي حكم من الأحكام بالاجتهاد، لأن الاجتهاد بالمعنى الثاني ليس مصدراً للحكم بل هو عملية استنباط الأحكام من مصادرها، فاذا قال الفقيه: هذا اجتهادي، كان معناه أن هذا ما استنبطه من المصادر والأدلة، فمن حقنا أن نسأله ونطلب منه ان يدلنا على تلك المصادر والأدلة الي استنبط الحكم منها.
وقد مر هذا المعنى الجديد لكلمة الاجتهاد بتطور ايضاً، فقد حدده المحقق الحلي في نطاق عمليات الاستنباط التي لا تستند الى ظواهر النصوص فكل عملية استنباط لا تستند الى ظواهر النصوص تسمى اجتهاداً دون ما يستند الى تلك الظواهر. ولعل الدافع الى هذا التحديد أن استنباط الحكم من ظاهر النص ليس فيه كثير جهد أو عناء علمي ليسمى اجتهاداًً.
ثم اتسع نطاق الاجتهاد بعد ذلك فاصبح يشمل عملية استنباط الحكم من ظاهر النص ايضاً، لأن الأصوليين بعد هذا لاحظوا بحق ان عملية استنباط الحكم من ظاهر النص تستبطن كثيراً من الجهد العلمي في سبيل معرفة الظهور وتحديده واثبات حجية الظهور العرفي.
ولم يقف توسع الاجتهاد كمصطلح عند هذا الحد، بل شمل في تطور حديث عملية الاستنباط بكل ألوانها، فدخلت في الاستنباط كل عملية يمارسها الفقيه لتحديد الموقف العملي تجاه الشريعة عن طريق إقامة الدليل على الحكم الشرعي او تعيين الموقف العملي مباشرة.
وهكذا أصبح الاجتهاد يرادف عملية الاستنباط، وهذه التطورات التي مرت بها كلمة (الاجتهاد) كمصطلح ترتبط بتطورات نفس الفكر العلمي الى حدٍ ما([14]).
وعلى هذا الضوء يمكننا ان نفسر موقف جماعة من المحدثين ممن عارضوا (الاجتهاد)، فإن هؤلاء استفزتهم كلمة (الاجتهاد)، لما تحمل من تراث المصطلح الأول الذي شن أهل البيت (%)، حملة شديدة عليه وهو يختلف عن الاجتهاد بالمعنى الثاني، وما دمنا قد ميزنا بين معنيي الاجتهاد فنستطيع ان نعيد الى المسألة بداهتها ونتبين بوضوح جواز الاجتهاد بالمعنى المرادف لعملية الاستنباط([15]).
([1]) الشافعي (محمد بن ادريس): الرسالة: 205-206، تحقيق: د. محمد سيد كيلاني، ط. الأولى- القاهرة، مطبعة البابي.
([2]) خلَّاف (عبد الوهاب): مصادر التشريع فيما لا نص فيه: ص7.
([3]) حلقات الأصول: الحلقة الأولى.
([4]) الشوكاني (محمد بن علي): ارشاد الفحول: ج2، ص206.
([5]) النجاشي (ابو العباس احمد بن علي): رجال النجاشي: ص152، (ترجمة عبد الله بن احمد بن عبد الرحمن)، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم ـ الطبعة الرابعة.
([6]) المصدر نفسه: (ترجمة هلال بن ابراهيم).
([7]) المصدر نفسه: (ترجمة أبي سهل النوبختي).
([8]) المصدر نفسه: ص287.
([9]) السيد المرتضى (علي بن الحسين الموسوي): الذريعة الى أصول الشريعة: ج2، ص308.
([10]) السيد المرتضى: الناصريات: ص238، ط. منشورات الشريف الرضي ـ قم.
([11]) الطوسي (أبو جعفر محمد بن الحسن): العدة في أصول الفقه، تحقيق: محمد رضا الانصاري، ط. مطبعة ستاره ـ قم.
([12]) أبن إدريس (ابو جعفر محمد بن منصور): السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي: ج2، ص170، ط. مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الثالثة.
([13]) المحقق الحلي (نجم الدين ابو القاسم): معارج الأصول: ص179، تحقيق: السيد محمد حسين الرضوي، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ـ قم.
([14]) الصدر (السيد محمد باقر): المعالم الجديدة: ص28.
([15]) السيد المرتضى: الناصريات: ص238، ط. منشورات الشريف الرضي ـ قم.