الدهشة والاستغراب مشاعر بدأت تتبدد على أرصفة العشق فالسائرين إلى الحسين شاهدوا كل أنواع الجنون, فعابس الذي جن بسيفه لم يمت ومن وحي جنونه ولد جنون الكرم, وجنون القلم, والفرشاة ومازال لعشاق الحسين في الجنون فنون....
أم حيدر امرأة من أهالي بغداد – حي الشعب دأبت منذ سبع سنوات على الاستعداد لموسم أحزان آل محمد عليهم صلوات الله أجمعين بإخراج عمل مسرحي بدمى ثابتة يختصر حكاية ما زال نبضها يتحرك في قلوب العاشقين, فهي تحتاج كل سنة لثلاثة شهور تقريبا لإتمامه لينطلقوا به في يوم تبديل راية الإمام الحسين عليه السلام ويستمر عرضه ليوم عاشوراء ثم ينصب في موكبهم الكائن في طريق العزاء بين بغداد وكربلاء. يرتقي هذا العمل للتكامل ويجسد أعظم أسطورة عرفها التاريخ بالاعتماد على دمى مصنوعة من مادة البلاستيك وأقمشة ملونة وبعض المواد الأخرى بجهود فردية لكن بفكر نوعي والأهم إنه عمل أمتزج بدموع المواساة والألم.
فرات الظمأ
العمل يبدأ من نهر الفرات, هناك حيث صدى الظمأ وبقايا صرخات ما زالت عالقة في مسامع الأنين (العطش.. العطش) فقد استعانت أم حيدر في تنفيذ فكرة نهر الفرات بمواد بسيطة جدا ألا أنها توغلت في عمق التاريخ بهذه الفكرة وعلى نحو غريب ترى فرات الرمز قد جف ماؤه وكأن الزمان عصي على النسيان وبمحاذاته ترى رمزية نهر العلقمي وقطعا تجد هناك كفين مقطوعتين على مسافة من جسد بلا كفوف.
جيش الضلالة وجيش النور
تقول أم حيدر عن هذا العمل " لا أتمالك دموعي حينما أبدأ بترتيب الشخوص والمواقع والأحداث ومع أني أتعامل مع دمى لكني أستشعر فداحة الظلم الذي وقع على الإمام الشهيد وعياله والأنصار ولا سيما حينما نفذت المرحلة الثانية واحتجت لكم هائل من الدمى لأبين حجم جيش الضلالة قبالة عدد جيش الحق؛ داهمني وجع بل جزع وتساءلت في نفسي كيف كان حال آل بيت الرسول في تلك الظهيرة وهم يواجهون جيوش من الغدر والنفاق والكفر؟ " وفي هذه المرحلة من العمل لم تنس أم حيدر بأن توضح أهم التفاصيل وأعمقها ألما وقطعا أعظم ما يمكن أن تشاهده في هذه المرحلة هو رمزية رض صدر سبط الرسول المصطفى بسنابك الخيل.
شهداء صرعى على رمال كربلاء
تتابع منفذة العمل حديثها عن هذه المرحلة "بأنها لا تفرق كثيرا بمقدار جرعة الألم والحسرة عن باقي المراحل كون حجم الفاجعة كبير لدرجة أنه لا توجد ذاكرة تقتنع بنسيانها" وأكثر ما يجذب عند مشاهدة هذه المرحلة التي تصور الشهداء وهم صرعى على الرمال هو الشعور بأن الروح تعود إلى ما يقارب 1377 سنة خلت وكأن رائحة الحرب والموت مازالت تزكم أنف التاريخ لهول ما جرى في هذه الواقعة, وربما ثمة أمر أعظم يجذب الرائي وهو وجود رمز في منتصف زحام الرزية يحاكي حضور الزهراء عليها السلام وهنا تهطل الدموع على جدب الروح لتواسي سيدة نساء العالمين بعظيم المصيبة.
رحلة السبي والرؤوس
في هذا الفصل المسرحي يقل عدد الشخوص التي تجسد العمل بشكل ملحوظ وتبرز مساحات واسعة من الصحارى المقفرة فيمكننا ملاحظة مجموعة من السبايا المخدرات تطوق معاصمهن سلاسل من حديد كما تبرز شخصية الإمام السجاد عليه السلام فقد بينت أم حيدر انحناء ظهره, وفي مقدمة هذا الركب ثمة أقمار تتوج أسنة الرماح يحدوها زنيم ولكن أم حيدر أشارت لأمر يدمي القلوب لم يبدوا واضحا لأول وهلة وهو إن كل الرؤوس كانت موجهة إلى الأمام إلا رأس الحسين عليه السلام يرنو إلى الخلف يتفقد حال السبايا وطفلته التي سقطت من فرط الغياب والعطش وهو يرتل آيات الله من وحي شفتيه الذابلتين.
قصر الشقي ولسان حال الحق
حدود هذا المجسم يقتصر على مساحة قصر اللعين يزيد ويبرز في هذا القصر تفاصيل كثيرة حد أنها تربك قلوب الموالين فمع رسم القصر بتقنية مقاربة للواقع وتوظيف القطع الرمزية للإشارة إلى بذخ ملوك الظلال على الدنيا الزائلة؛ تجد ثلاث مشاهد شاخصة في العمل وهي منبر السجاد عليه السلام, وموقف سيدة الصبر والكبرياء زينب عليها السلام وهي تلجم أفواه الكفر بخطبتها الهادرة, أما الثالث فهو مشهد تكاد تفجع من هوله السماوات وهو طست كان يحتضن رأس الإمام الحسين عليه السلام قبل أن تحتضنه طفلة غفت والتحفت بالموت بعد أن عجز قلبها على متابعة نبضه لحظة مشاهدتها لرأس أبيها دون جسد.
زيارة الأربعين مسيرة نحو الخلود
حاولت أم حيدر هنا أن تبرز جميع تفاصيل زيارة الأربعين, فهذه المرحلة هي محاكاة لوقتنا الحالي ومراسيم زيارة الأربعين فيه. لتتابع توضيحها قائلة" حاولت أن لا أنسى أي أمر رأيته أو سمعت عنه في طريق الزائرين مع أن هذا الطريق باذخ الصور والمعاني وربما أعجز عن تجسيد جزء بسيط لدرب العاشقين مع أني وضعت رموز لشخوص عرب وأجانب فضلا عن رموز المسيحين والديانات الأخرى التي تتوحد عقيدتها في كربلاء العطاء, وبينت موائد الطعام والشراب والكرم الذي أدهش العالم, لأنهي هذا العمل قبيل المرحلة الأخيرة بدخول رمزيات الزائرين إلى ما بين الحرمين لإداء مراسيم زيارة أئمة الهدى".
السعي بين الحسين والعباس عليهما السلام
تجسيد بين الحرمين وضريحي الإمام الحسين والعباس عليهما السلام في هذه المرحلة الأخيرة من بانوراما الطف رسم ملامح النجاة لجموع الوافدين فقد أكسبت أم حيدر المشهد إشارة رمزية غاية في الروعة وهي أن الزائرين يدخلون بثوب الحداد فيطوفون كعبة كربلاء ويسعون ما بين قمر العشيرة وشمس الحسين ليخرجوا بعد ذلك بثياب بيضاء تسر الناظرين وهي لمحة تبين شفاعة الحسين عليه السلام يوم لا تنفع إلا شفاعته.
الفصل بعد الأخير
ختمت أم حيدر حديثها عن هذا العمل الذي أقل ما يمكن وصفه بأنه (إنجاز) يستحق انحناءة تبجيل لهذه السيدة الكريمة وقالت " كل سنة منذ بدأنا بهذه البانوراما ونحن نطور فيها شيء للعام القادم ولا أظن أنني سأكمل فقضية الحسين عليه السلام زاخرة بالمشاهد, أتمنى أن يكون هذا الجهد اليسير في عين الإمام صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف كوني لا أملك ما أعزيه به سوى خدمتي ودموعي".
ربما لا يسعنا أن ننهي الحديث عن الامام الحسين عليه السلام وبدل أن نقول وللحديث بقية نقول (الحسين بقاء لا نهاية له).
إيمان كاظم الحجيمي
تصويرــ عمار الخالدي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة