بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
ورَدَ عن مولانا الإمام الحسن العسكريّ(ع) أنَّهُ قال: [علاماتُ المؤمنِ خَمْس: صلاةُ إحدى وخمسين وزيارةُ الأربعين والجَهْرُ ببسْمِ اللهِ الرَّحمانِ الرَّحيم والتَّختُّمُ باليمين وتعفيرُ الجبين].
الثَّابتُ عندَ الإمامية بأنَّ المُرادَ مِنَ الفِقرةِ المذكورةِ في الحديث “زيارةُ الأربعين” هو زيارةُ الإمامِ الحسين(ع) في العشرينَ من صَفَر، إلّا أنَّ بعضَ الّذينَ لا يُعجِبُهُم زيارةُ الإمامِ الحسين(ع) يومَ العِشرين من صفَر قالوا: إنَّ المُرادَ مِنَ الفقرة هو زيارةُ أربعينَ مؤمناً، فجعلوا زيارةَ أربعينَ مؤمناً مُستَحبّاً دونَ زيارةِ الإمامِ الحسين(ع) بل إنَّ زيارةَ أربعينَ مؤمناً أهمُّ من زيارةِ الإمامِ الحسين(ع).
وقبلَ الإستدلالِ على مُرادِنا، ينبغي أن نبحثَ في نقطتين:
الأولى: بيانُ دعوى هؤلاءِ المُشَكِّكينَ ونَقضِها.
الثّانية: الغايةُ مِن زيارةِ الإمامِ الحسين(ع) يومَ الأربعين أي في العشرين من صَفَر.
النّقطة الأولى: نقضُ دعوى الخصْم.
خلالَ تَتبُّعي لكلامِ أصحابِ الدَّعوى المذكورة، لم أعثُر على دليلٍ واحدٍ قد يكونُ مُستَنداً لهُم لإثباتِ دعواهُم، بل غايةُ ما عَثرْتُ عليهِ أنَّهُم فسَّروا زيارةَ الأربعينَ بـ “أربعينَ مؤمناً” (*) وذلكَ لأنَّ الإمامَ العسكريّ (ع) لم يتَعرَّض للآثارِ الأُخرويَّةِ المُتَرَتِّبةِ على الزِّيارَةِ الأربعينيَّة، مع أنَّ أهلَ البيتِ (ع) عندَ الحثِّ على زيارةِ الإمامِ المظلومِ وغيرهِ مِن أئمَّةِ الهُدى يذكرونَ ما يتَرتَّبُ عليها مِنَ الثَّواب.
هذا غايةُ ما وجَدناهُ مِن دعاوى هؤلاء.
الإيرادُ على الدَّعوى المذكورة:
أولاً:
إنَّ الإمامَ العسكريَّ (ع) في هذا الحديث إنَّما هو بصَدَدِ بيانِ علائِمِ المُؤمِنِ الّتي يمتازُ بها عن غيرِهِ، وجعلَ منها زيارةُ الأربعينَ الحسينيَّةِ على صاحبها آلافُ التَّحيَّةِ والسَّلامِ، ولم يكُنِ الإمامُ العسكريّ (ع) بصددِ بيانِ ما يترتَّبُ على الزّيارةِ منَ الآثارِ الأُخرويَّةِ (**). بلِ الحديثُ في مقامِ بيانِ الآثارِ الدُّنيويَّةِ الظَّاهرةِ على المُؤمِنِ أو هوَ في مقامِ بيانِ الصِّفاتِ الّتي يتَّصِفُ بها المُؤمنُ، وإن كانَ يظهرُ عندي أنَّ الأئمَّةَ (ع) قد بيَّنوا ووَضَّحوا الآثارَ الأُخرويَّةَ لزيارةِ الإمامِ الحسين(ع) مُطلقاً سواءٌ أكانت في زيارةِ الأربعين أم في غيرِها، فلا داعي للإمامِ العسكريّ(ع) أن يُكرِّرَها في هذا الحديث، فإنَّ آباءَهُ الكِرام بيَّنوها في أحاديثِهُمُ الشَّريفة، فبيانهُ لها قد يدخلُ في تحصيلِ الحاصِل، لأنَّ الشِّيعةَ كانوا ولا يزالونَ يعرفون فوائدَ زيارةِ الإمامِ الحسين (ع) الأُخرويَّةِ بشكْلٍ واضح.
ثانياً:
إنَّ استنتاجَ هؤلاءِ على دعواهُم يأباهُ الذّوْقُ السَّليم،معَ خلُوِّهِ منَ القرينةِ الدَّالَّةِ عليه،ولو كانَ الغَرَضُ هوَ الإرشادُ إلى زيارةِ أربعينَ مؤمناً لقالَ الإمامُ(ع):”وزيارةُ أربعينَ مؤمناً”
فمَع عدمِ تقدُّمِ الإشارةِ إلى أربعينَ مؤمناً،وعدمُ وجودِ قرينةٍ تُساعِدُ عليهِ،لا يصُحُّ حينئذٍ صرْفُ “الأربعين” إلى أربعينَ مؤمناً.
ثالثاً:
إنَّ زيارةَ أربعينَ مؤمناً ممّا حثَّ عليهِ الإسلامُ بل أكثرَ من أربعين على فتراتٍ مُتقطِّعةٍ، فهيَ من علائمِ الإيمانِ عندَ الخاصَّةِ والعامَّة، ولم يُخَصَّ بها المؤمنونَ المُوالونَ ليمتازوا عن غيرِهِم، نَعَمْ زيارةُ الإمامِ الحسين (ع) يومَ الأربعينَ مِن صَفَرٍ ممّا يدعو إليها الإيمانُ الخالِصُ لأهلِ البيتِ (ع)، ويُؤكِّدُها الشَّوقُ لزيارةِ الإمامِ الحسين (ع)، ومَعلومٌ أنَّ الّذينَ يحضَرونَ في الحائِرِ الأطهَرِ بعدَ مُرورِ أربعينَ يوماً مِن مَقتَلِ سيِّدِ شبابِ أهلِ الجنَّةِ هم خصوصُ المُشايعينَ لهُ السَّائرينَ على أثَرهِ ومنهجِه.
ويشْهَدُ لهُ اتِّفاقُ سائِرِ علماءِ الإماميَّةِ (مذ استشهدَ الإمامُ الحسين (ع) إلى يومنا هذا) وعدمُ تباعدِهِم عن فهْمِ زيارةِ الإمامِ الحسين (ع) في العشرين من صفر من هذا الحديثِ المبارَكِ، حيث فهموا منه زيارة الامام عليه السلام وليس زيارة اربعين مؤمناً من هؤلاء المحققين :
الشَّيخ أبو جعفر الطّوسيّ في التَّهذيب ج6 ص47، فإنَّهُ ـ رحِمَهُ الله ـ بعدَ أن روى الأحاديثَ في فضلِ زيارتِهِ المُطلقة، ذكَرَ بعدَها الزِّياراتِ المُقيَّدةِ بأوقاتٍ خاصَّةٍ ومنها يومُ عاشوراء، وبعدهُ روى هذا الحديث (علاماتُ المؤمِن خمْس). وفي مصباح المتهجد ذكرـ رحمه الله تعالى ـ شهرَ صفر وما فيهِ مِنَ الحوادِثِ ثمَّ قال: وفي يومِ العشرينِ منهُ رجوعُ حُرَمِ أبي عبدِ اللهِ (ع) من الشَّامِ إلى المدينة، وورودُ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ الأنصاريّ (رضي الله تعالى عنه) إلى كربلاءَ لزيارةِ الإمامِ أبي عبدِ اللهِ(ع)، فكانَ أوَّلَ مَن زارَهُ منَ النَّاسِ وهي زيارةُ الأربعين.
أقول: إنَّ جابر زارَ الإمامَ يومَ الاربعين، والإمامُ السَّجّادُ (ع) وعقيلةُ الهاشميّينَ والسّبايا زاروا الإمامَ المظلومَ يومَ الأربعين، فزيارةُ الإمامِ السَّجّادِ (ع) يومَ الأربعينِ دليلٌ على الإستحبابِ، لأنّ الإمامَ معصوم عن الخطأ فكل تصرفاته وما يصدر عنه حكمة وصواب، ففِعْلُهُ وقولُهُ وتقريرُهُ حُجَّةٌ، ولو لم يكُن يومُ الأربعينِ مُستَحَبّاً لما فَعَلَهُ الإمامُ السَّجَّادُ وعقائِلُ الوحيِ والطَّهارةِ صلوات الله عليهم أجمعين ؟!.
وقال العلاّمة الحلّي في المنتهى كتاب الزيارات بعد الحجّ: يستحب زيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) في العشرين من صفر.. ثمّ قال: روى الشيخ عن الإمام أبي محمَّد العسكري (عليه السَّلام) أنّه قال: علامات المؤمن خمس..
وقال السيد ابن طاووس في الإقبال عند ذكر زيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) في العشرين من صفر قال: روينا بالإسناد إلى جدّي أبي جعفر الطّوسي فيما رواه بالإسناد إلى مولانا الحسن بن عليّ العسكري (عليه السَّلام) قال: علامات المؤمن خَمس…
ونقل العلاّمة المجلسي في مزار البحار هذا الحديث عن ذكر فضل زيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) يوم الأربعين، ووافقهم صاحب الحدائق في باب الزّيارات بعد الحجّ فقال: وزيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) في العشرين من صفر من علامات المؤمن.
وحكى الشيخ القمي في المفاتيح هذه الرواية عن التهذيب ومصباح المتهجد في الدّليل على رجحان الزيارة في الأربعين من دون تعقيب باحتمال إرادة أربعين مؤمناً.
والشيخ المفيد قال باستحباب الزيارة في العشرين من صفر في كتابه مسار الشيعة، والعلاّمة الحلّي في التذكرة والتحرير، وملا محسن الفيض في تقويم المحسنين.
رابعاً:
يَثبت استحباب زيارة العشرين من صفر بالاطلاقات الدالة على استحباب زيارته مطلقاً، وفي كلّ شهر، فقد روى الشيخ الطوسي ـ بعد حديث الإمام العسكري (عليه السَّلام)ـ حديثاً عن داود بن فرقد قال: قلت للإمام أبي عبد الله (عليه السَّلام): ما لِمَن زار الإمام الحسين (عليه السَّلام) في كلّ شهر من الثواب؟ قال: له من الثواب ثواب مائة ألف شهيد مثل شهداء بدر(1).
وصفر داخل ضمن قوله (عليه السَّلام): في كلّ شهر، فتُستحبّ زيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) في العشرين من صفر على وجه التحديد بقرينة حديث الإمام العسكري (عليه السَّلام): “زيارة الأربعين”؛ أي في اليوم المعهود وهو العشرون من صفر.
النقطة الثانية: الغاية من زيارة أربعين الإمام الحسين يوم العشرين من صفر؛ أي زيارة الأربعين.
يمكننا أنْ نصنّف الغاية من زيارته الأربعينيّة كلّ عام إلى ثلاثة مستويات:
المستوى الأوّل: تخليد ذكراه (عليه السَّلام) وتجديد الحزن عليه.
بيان ذلك: إنّ النواميس المطردة مواظبة على الاعتقاد بالفقيد بعد أربعين يوماً مضين من وفاته بإسداء البِرِّ إليه وتأبينه وعدّ مزاياه في حفلاتٍ تُعقَد وذكريات تُدَوَّنُ تخليداً لذِكْرِه، في حين أنّ الخواطر تكاد تنساه، والأفئدة أوشكت أنْ تُهْمِلَهُ، فبذلك تُعاد إلى ذكراه البائدة صورةٌ خالدةٌ بشِعْرٍ أو بخطابٍ بليغٍ تتضمّنه الكتب حتى يعود من أجزاء التاريخ، فيصير الفقيدُ حيّاً كلّما تُلِيَتْ هاتيكَ النُّتَف من الشعر، أو وقف الباحث على ما أُلقيت فيه من كلماتٍ تأبينيّةٍ بين طيّات الكتب فيقتصّ أثره في فضائله وفواضله، وهذه السنّة الحسنة تزداد أهميّةً كلّما ازداد الفقيدُ عَظَمَةً، وكَثُرَتْ فضائله، وهي في رجالات الإصلاح والمقتدى بهم من أكابر الدين أهمّ وآكد؛ لأنّ نَشْرَ مزاياهم وتعاليمهم يحدو ويحثّ إلى اتّباعهم واحتذاء مثالهم في الإصلاح وتهذيب النفوس.
و يشهد له ما ورد عن أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وآله : إنّ الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحاً.
وعن زرارة عن مولانا الإمام الصّادق (عليه السَّلام): إنّ السّماء بكت على الحسين (عليه السَّلام) أربعين صباحاً بالدّم، والأرض بكت عليه أربعين صباحاً بالسّواد، والشّمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، والملائكة بكت عليه أربعين صباحاً، وما اختضبت امرأةٌ منّا ولا ادّهَنَتْ ولا اكتَحَلَتْ ولا رجلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد وما زلنا في عَبْرَة من بعده.
يؤكد هذه الطريقة المألوفة والعادة المستمرّة بين النّاس من الحداد على الميّت أربعين يوماً، فإذا كان يوم الأربعين أُقيم على قبره الاحتفال بتأبينه، يحضره أقاربُه وخاصتُهُ وأصدقاؤُه، وهذه العادة لم يختص بها المسلمون، فإنّ النصارى يقيمون حفلة تأ بينيّة يوم الأربعين من وفاة فقيدهم يجتمعون في الكنيسة ويعيدون الصّلاة عليه المسماة عندهم بصلاة الجنازة، ويفعلون ذلك في نصف السّنة وعند تمامها، واليهود يعيدون الحداد على فقيدهم بعد مرور ثلاثين يوماً وبمرور تسعة أشهر وعند تمام السنة، كلّ ذلك إعادةً لذكراه وتنويهاً به وبآثاره وأعماله إنْ كان من العظماء ذوي الآثار والمآثر…
وإحياء النصارى واليهود ذكرى الأربعين لموتاهم لا يستلزم إنكارها، إذ ليس من الضروري أنْ تكون كلُّ الأفكار الموجودة في تاريخ النصارى واليهود سيئةً، قد تكون بعض الأفكار عندهم لها أساس ديني يتوافق مع شريعتنا فلا يجوز حينئذٍ ردّه لكونه يتوافق مع النصارى واليهود، فإذا قام الدّليل الشرعي عندنا على صحّة فعلٍ أو عملٍ معيَّنٍ حتى لو توافق مع المخالفين لنا فلا يجوز ردّه لأنّ ردّه يقتضي ردَّ الدّليل الشرعي الذي قام على صحّة الفعل المعيَّن.
وعلى كلّ حال؛ فلا يجد المنقِّب في الفئة الموصوفة بالإصلاح والصّلاح رجلاً اكتنفته المآثر بكلّ معانيها، وكانت حياتُه وحديثُ نهضته وكارثةُ قتله، دعوةً إلهيّةً وطقوساً إصلاحيّةً، وأنظمةً اجتماعيّةً وتعاليمَ أخلاقيّة، ودروساً دينيّة إلاّ سيّدَ الشّهداء أبا عبد الله الحسين عليه آلآف التحيّة والسّلام، شهيد الله تعالى… فهو أولى من كلّ أحد بأنْ تُقامَ له الذكريات، وتشدَّ الرحالُ للمثول حول مرقده الأقدس في يوم الأربعين من قتله حصولاً على تلكم الغايات الكريمة.
وما يفعله الناس من الحفلات الأربعينية الأولى على موتاهم فلا يكررونها كلّ سنة كما يكرّرونها لأجل الإمام الحسين (عليه السَّلام)، من جهة كون مزايا أولئك الرِّجال محدودة منقطعة الآخر، بخلاف سيّد الشّهداء (عليه السَّلام) فإنّ مزاياه لا تُحَدُّ، وفواضله لا تُعَدُّ، ودرس أحواله جديدٌ كلّما ذُكِر، واختصاصُ أثره يحتاجه كلُّ جيلٍ، فإقامة المآتم عند قبره في الأربعين من كلّ سنة إحياءٌ لنهضته المقدَّسة، وتعريفاً بالقساوةِ التي ارتكبها الأمويون ولفيفُهم، ومهما أمعن الخطيبُ أو الشّاعرُ في قضيته، تُفتح له ابوابٌ من الفضيلة كانت موصدة عليه قبل ذلك، ولهذا اطردت عادة الشيعة على تجديد العهد بتلكم الأحوال يومَ الأربعين من كلّ سنة، ولعلّ رواية مولانا أبي جعفر (عليه السَّلام): “إنّ السّماء بكت على الإمام الحسين (عليه السَّلام) أربعين صباحاً تطلع حمراء وتغرب حمراء”(2)؛ تلميحٌ إلى هذه العادة المألوفة بين النّاس، وحديث الإمام الحسن العسكري (عليه السَّلام): “علامات المؤمن خَمس..” يرشدنا إلى تلك العادة المطردة المألوفة للناس، فإنّ تأبين سيّد الشّهداء (عليه السَّلام)، وعقد الاحتفالات لذِكْرِهِ في هذا اليوم إنما يكون ممن يَمِتُّ به بالولاء والمشايعة، ولا ريب في أنّ الذين يتصلون به وينتسبون إليه بالمشايعة هم المؤمنون المعترفون بإمامته (عليه السَّلام)، إذاً فمن علامة إيمانهم وولائهم لسيّد شباب أهل الجَنَّة المنحور على مجزرة الشّهادة الإلهيّة المثول في يوم الأربعين من شهادته عند قبره الأطهر لإقامة المأتم وتجديد العهد بما جرى عليه وعلى أهل بيته وصحبه من الفوادح العظيمة(3).
إشكال وحلّ:
إنْ قيل لنا: لِمَ خصصتم الإمامَ الحسين بالأربعينيّة دون بقيّة أهل البيت (عليهم السَّلام) أليسوا كالإمام الحسين سُفُنَ نجاة وأبوابَ هدىً، فلِمَ إذاً هذا التمييز؟
والجواب:
لا شكّ أنّ الأئمّة (عليهم السَّلام) من آل الرّسول (عليه السَّلام) كلّهم أبواب النجاة وسفن الرّحمة وبولائهم يُعرَف المؤمن من غيره، وقد خرجوا من الدنيا مقتولين في سبيل الدّعوة الإلهيّة، موطِّنين أنفسهم على القتل امتثالاً لأمر بارئهم جلّ شأنه الموحى به إلى جدّهم الرّسول كما أشار إلى ذلك الإمام الحسن المجتبى (عليه السَّلام) بقوله: “إنّ هذا الأمر يملكه منا اثنا عشر إماماً، ما منهم إلاّ مقتول أو مسموم”، فالواجب إقامة المأتم في يوم الأربعين من شهادة كلّ واحد منهم إلاّ انّ مأساة فاجعة الطف فاقت كلَّ فاجعة، وقتله بتلك الكيفيّة لا نظير لها في التاريخ… لذا تفرَّدَ الإمام الحسين (عليه السَّلام) بالإحياء الأربعيني دون بقيّة أهل البيت (عليهم السَّلام)…
مضافاً إلى أنّ قضيّة سيّد الشّهداء هي التي ميّزت بين دعوة الحقّ والباطل، ولذا قيل: الإسلام بدؤه محمَّدي وبقاؤه حسينيّ، فما قاساه سيّدُ الشّهداء لتوطيد أسسِ لإسلام واكتساح أشواكِ الباطل عن صراط الشّريعة وتنبيه الأجيال على جرائم أهل الضّلال هو عين ما نهض به نبيُّ الإسلام لنشر الدّعوة الإلهيّة. فمن أجل هذا كلّه لم يجد ائمةُ الدين من آل الرّسول مندوحة إلاّ لفت الأنظار إلى هذه النهضة الكريمة لأنها اشتملت على فجائع تُفَطِّرُ الصخرَ الأصمَّ، وعلموا أنّ المواظبة على إظهار مظلوميّة الإمام الحسين تستفزُّ العواطفَ وتوجب استرقاق الأفئدة، فالسّامع لتلكم الفظائع يعلم أنّ الإمام الحسين إمامُ عدلٍ لم يرضخ للدنايا، وأنّ إمامته موروثة له من جدِّه وأبيه بأمرٍ من الله تعالى، ومَن ناوأه خارجٌ عن العدل، وإذا عرف السّامع أنّ الحقّ في جانب الإمام الحسين (عليه السَّلام) وأبنائه المعصومين كان معتنقاً طريقتهم وسالكاً سبيلهم.
ومن هنا لم يرد التحريض من الأئمّة على إقامة المأتم في يوم الأربعين من شهادة كلّ واحدٍ منهم حتى نبيّ الإسلام لكون تذكار كارثته عاملاً قوياً في إبقاء الرابطة الدينية، وأنّ لفت الأنظار نحوها حاجةٌ مُلِحّةٌ في إحياء أمر المعصومين (عليهم السَّلام) المحبوب لديهم التحدث به: ” أحيوا أمرنا، وتذاكروا في أمرنا ” لأنّ مصيبته أعظم المصائب بل تصغر كل مصيبةٍ أمام مصيبته حسبما جاء في الخبر الصحيح أّنّ الملاك جبرائيل قال للنبي الاكرم : ولدك هذا يصاب بمصيبةٍ تصغر عندها المصائب .
المستوى الثاني: تجديد العهد بالولاء للإمام الحسين (عليه السَّلام) ولآبائه وأبنائه الطّاهرين (عليهم السَّلام)..
ويختلف هذا المستوى عن سابقه، إذ إنّ المستوى الأول هو تجديد الحزن عليه (صلوات الله عليه) أمّا هنا فهو تجديد الولاء له (عليه السَّلام)، وهذا ما أفادته النصوص الصحيحة الصّادرة عن أهل بيت العصمة والطّهارة (عليهم السَّلام)، فقد جاء عنهم في باب الحجّ والزيارة أنّ المراد من قوله تعالى: [ثمّ ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم] قال عبد الله بن سنان: قلت للإمام الصّادق (عليه السَّلام): جُعِلْتُ فداكَ ما معنى قول الله عزّ وجلّ: [ثمّ ليقضوا تفثهم]؟ قال: أخذ الشارب وقصّ الأظافير وما أشبه ذلك، قال: قلت: جعلتُ فداكَ فإنّ ذريحاً المحاربي حدثني عنك أنّكَ قلتَ: ليقضوا تفثهم لقاء الإمام، وليوفوا نذورهم: تلك المناسك؟ قال: صدق ذريح وصدقتَ: إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً ومَن يحتمل ما يحتمل يا ذريح؟(4)
كما ورد استحباب البدء بهم في المدينة والختم بهم أيام الحج، فقد جاء عن زرارة عن مولانا أبي جعفر (عليه السَّلام) قال: إنما أُمر الناسُ أنْ يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثمّ يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرَهم(5).
يظهر من هذا الخبر الشريف أنّ الغاية من الزيارة بالدرجة الأولى هو تجديد العهد بالولاية وعرض النصرة عليهم صلوات الله عليهم.
كما يشير إلى ذلك ما ورد في الزيارات المتعددة نظير قولهم (عليهم السَّلام) لشيعتهم أنْ يقولوا في الزيارة هكذا: ” فقلبي لكم مسلِّم، وأمري لكم متّبع، ونصرتي لكم مُعَدَّة، وأنا عبد الله ومولاك ـ أي ناصرك ـ وفي طاعتك.. ألتمسُ بذلك كمالَ المنْزِلة عند الله “(6). وورد في مقطع آخر من نفس الزيارة قوله (عليه السَّلام): “ا للهمّ إنّكَ مَنَنْتَ عَلَيَّ بزيارة مولاي وولايته ومعرفته، فاجعلني ممن تنصُرُه وتنتصر به، ومُنَّ عَلَيَّ بنصري لدينكَ في الدّنيا والآخرة “(7).
وجاء في مقطعٍ ثالثٍ في زيارة أمير المؤمنين (عليه السَّلام): “جئتُكَ عارفاً بحقّكَ مستبصراً بشأنكَ، موالياً لأوليائكَ، معادياً لأعدائكَ ومَن ظلمكَ، ألقى على ذلك ربي إنْ شاء الله تعالى..”(8).
وفي زيارة عاشوراء: “يا أبا عبد الله إني سلمٌ لمن سالمكم وحربٌ لمَن حاربكم إلى يوم القيامة، ووليٌّ لمن والاكم وعدوٌّ لمن عاداكم…”.
وجاء في دعا ء العهد لمولانا الإمام المهديّ (عليه السَّلام) قوله الشريف: “اللهم إني أجدِّد له في صبيحة يومي هذا وما عشتُ من أيامي عهداً وعقداً وبيعةً له في عنقي لا أحول عنها ـ أي لا أنصرف عنها ـ ولا أزولُ أبداً، اللهمّ اجعلني من أنصاره وأعوانه والذابين عنه والمسارعين إليه في قضاء حوائجه والممتثلين لأوامره والمحامين عنه والسّابقين إلى إرادته والمستشهدين بين يديه”.
المستوى الثالث: الاستشفاع بهم (عليهم السَّلام) والطلب منهم أنْ يجعلوه من الثابتين على ولايتهم للأخذ بثأرهم والانتقام من أعدائهم، والوقوف على قبورهم المقدَّسة يُشْحِذُ من هِمّةِ الزّائرِ للأخذ بالثار بسبب تمثيل ظلاماتهم في نفسه… من هنا أكّد دعاء العهد وزيارة عاشوراء هذا المعنى بقوله (عليه السَّلام): “اللهمّ إنْ حال بيني وبينه الموتُ الذي جعلته على عبادكَ حتماً مقضياً فأخرِجْنِي من قبري مؤتزراً كفني شاهراً سيفي مجرِّد اً قناتي ـ أي كاشفاً رمحي ـ ملبِّياً دعوة الداعي في الحاضر والبادي”. “بأبي أنتَ وأمي فقد عَظُمَ مصابي بكَ، فأسألُ اللهَ الذي أكرمَ مقامكَ وأكرمني بكَ أنْ يرزقني طلب ثارك مع إمامٍ منصورٍ من أهل بيت محمَّد…”.
إلى أنْ قال (عليه السَّلام): “وأسأله أنْ يبلِّغَني المقامَ المحمودَ لكم عند الله، وأنْ يرزقَني طلبَ ثاري مع إمام هدىً ظاهرٍ ناطقٍ بالحقِّ منكم…”.
هذه أهمّ الأهداف من زيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام)، وثمّة فوائد أخرى مترتبة على زيارته مبثوثة في الأخبار، أهمّ هذه الفوائد والآثار قد تكون مطلوبة عند الزائر، وقد لاتكون فيعطيه اللهُ عزّ وجلّ بعضَ الآثار والفوائد المترتّبة على زيارته، ومنها:
1. أنّ زيارته (عليه السَّلام) تزيد في العمر. [كامل الزيارات: ص284ح1].فقد ورد عن محمَّد بن مسلم عن مولانا الإمام أبي جعفر عليه السلام قال:
مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين عليه السلام فإنّ إتيانه يزيد في الرزق ويمد في العمر ويدفع مدافع السوء ،وإتيانه مفترض على كل مؤمن يقر للحسين بالإمامة من الله .
2. يحيا زائرُهُ حياةً سعيدةً. [كامل الزيارات: ص286ح6].فعن أبان عنعبد الملك الخثعمي عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال:يا عبد الملك لاتدع زيارة الحسين بن علي عليهما السلام ومر أصحابك بذلك،يمد الله في عمرك ويزيد الله في رزقك ،ويحييك الله سعيداً ولا تموت إلاّ سعيداً ويكتبك سعيداً .
3. يحطّ الذنوب. [كامل الزيارات: ص286ح1.فقد جاء عن الإمام الصادق عليه السلام قال : إنّزائر الحسين جعل ذنوبه جسراً على باب داره ثم عبرها ،كما يخلف أحدكم الجسر ورائه إذا عبر .
4. تنفّس الكربَ وتقضي الحوائج. [كامل الزيارات: ص312].فقد جاء عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام قال لفضيل بن يسار :إنّ إلىجانبكم لقبراً ما أتاه مكروب إلاّ نفّس الله كربته وقضى حاجته .
الإستدلال على المراد:
والمقصود بـ “زيارة الاربعين” الواردة في كلام الإمام العسكري (عليه السَّلام) هو زيارة مولانا الإمام الحسين (عليه السَّلام) ونستدلّ على ذلك بالوجوه الآتية:
(الوجه الأوّل): سيرة المتدينين الشيعة ، العلماء منهم والعوام، على مواظبتهم لزيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) في العشرين من صفر، وهذه السيرة متصلة بالمعصومين (عليهم السَّلام) الذين حثّوا على الزيارة المطلَقة للإمام الحسين (عليه السَّلام)، بل كانوا يولون بعضَ مواليهم للدعاء تحت قبّة الإمام الحسين (عليه السَّلام).
بل علمنا سابقاً أنّ الإمام السجّاد (عليه السَّلام) زار أباه يوم العشرين من صفر، مما يدلّ على استحباب هذا العمل.
ولا يخفى أنّ سيرة المتشرعة حجة يُستكشَف منها مشروعيّة الفعل الدال على الوجوب والاستحباب… وحيث إنّ المؤمنين لا سيّما المتشرِّعة منهم يواظبون على زيارة الأربعين الحسينيّة دلّ ذلك على استحبابها ورجحان مشروعيتها.
(الوجه الثاني): إجماع فقهاء الإماميّة على استحباب زيارته يوم العشرين من صفر، ونقلنا قسماً من كلمات بعض فقهاء الإماميّة على ذلك، ولم يعترض أحدٌ على الإستحباب أصلاً سوى بعض مَنْ لا تحصيل لديه في المسألة، وهذا الفرد أو ذاك لا يضرّ خروجه من الإجماع المنعقد في المسألة.
(الوجه الثالث): إنّ دخول الألف واللام العهديةّ على كلمة “أربعين” إشارة للتنبيه على أنّ زيارة الأربعين من سنخ الأمثلة التي نصّ عليها الحديث بأنّها من علائم الإيمان والموالاة للأئمّة الإثني عشر(9).
واللام العهديّة تدخل على المسنَد إليه للإشارة إلى فرد معهودٍ خارجاً بين المتخاطبين(10)، وهذا نظير قوله تعالى: [كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعونُ الرّسولَ] فالرّسول محلَّى باللام العهديّة التي دخلت على الإسم المسنَد إليه، فالرّسول في الآية كان معهوداً في زمن فرعون وهو موسى النبيّ ، وفرعون الزنديق عصى موسى الرّسولَ المعهود يومذاك.
وهنا هكذا: فإنّ “الأربعين” اسمٌ أُسنِدَ إليه الألف واللام العهدية حيث إنّ زيارةَ الإمام يوم الأربعين من يوم شهادته أمرٌ معهودٌ بين الشيعة، لذا لم تقتضِ الضّرورةُ ذِكْرَ قيدٍ لفظيٍّ أو قرينةٍ لفظيّةٍ تحدِّدُ أو تقيِّدُ اللفظَ المذكور باليوم المعهود وهو العشرون من صفر، فثمة قرينة حالية أوجبت فهم العلماء الأعلام من هذا الجملة خصوص زيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام)، والقرينة الحالية هي السيرة القائمة على زيارة الإمام (عليه السَّلام) في العشرين من صفر.
فالحاصل: حيث لا توجد قرينة تدلّ على أنّ الأربعين هو أربعون مؤمناً، وحيث إنّ اللام تُفيد العهدَ، وحيث إنّ السيرة العمليّة للفقهاء والأعلام والمتدينين يحيون يوم العشرين من صفر وهذه السيرة مرتبطة ومتصلة بعمل الإمام زين العابدين (عليه السَّلام) وعقائل الوحي وبعض صحابة النبيّ كجابر، يتضح حينئذٍ استحباب ومشروعيّة زيارة الأربعين الحسينيّة، ولا يُقصَد من حديث الإمام العسكري (عليه السَّلام) ما توهّمه بعضُهم.
وبهذا التقريب يتضح أنّ المراد بزيارة الأربعين في الحديث هو زيارة الإمام الحسين المظلوم (عليه السَّلام)، والزائر له في كلّ الأزمنة والأوقات تحت رعاية الله تعالى ولطفه ورحمته، والزائر يكون مشمولاً لدعاء الإمام الصّادق (عليه السَّلام) فقوله: “اللهمّ يا مَن خصَّنا بالكرامة ووَعَدَنا بالشفاعة، وخصّنا بالوصيّة وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي، وجعل أفئدةً من الناس تهوي إلينا، إغفر لي ولأخواني وزوّار قبر أبي عبد الله الحسين، الذين أنفقوا أموالَهم وأشخصوا أبدانَهم رغبةً في بِرِّنا ورجاءً لما عندكَ في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيِّكَ وإجابةً منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدوّنا، أرادوا بذلك رضوانك، فكافِهِم عنا بالرِّضوان واكلأهم بالليل والنّهار، وأخلِفْ على أهاليهم وأولادهم الذين خلَّفوا بأحسنِ الخَلَفِ، واصحبْهُم واكفِهِمْ شرَّ كلِّ جبّارٍ عنيدٍ، وكُلِّ ضعيفٍ من خلقك وشديدٍ، وشرَّ شياطين الإنس والجنّ، وأعطِهِمْ أفضلَ ما أملوا منكَ في غُربَتِهِم عن أوطانهم وما أثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم، اللهمّ إنّ أعداءَنا عابوا عليهم بخروجهم فلم ينهَهُم ذلك عن الشّخوص إلينا خلافاً منهم على مَن خالفنا، فارْحَمْ تلكَ الوجوه التي غيَّرَتْها الشّمسُ، وارْحَمْ تلكَ الخدودَ التي تتقلّبُ على حفرةِ أبي عبد الله الحسين (عليه السَّلام) وارْحَمْ تلكَ الأعينَ التي جَرَتْ دموعُها رحمةً لنا، وارْحَمْ تلك القلوبَ التي جزعَتْ واحترقت لنا، وارْحَمْ تلكَ الصّرخةَ التي كانت لنا، اللهمّ إني أستودِعُكَ تلك الأبدان وتلك الأنفسَ حتى تُوافيهم من الحوض يومَ العطش”(11).
والحمد لله ربّ العالمين ولعن الله أعدائهم من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين.
المصادر
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
ورَدَ عن مولانا الإمام الحسن العسكريّ(ع) أنَّهُ قال: [علاماتُ المؤمنِ خَمْس: صلاةُ إحدى وخمسين وزيارةُ الأربعين والجَهْرُ ببسْمِ اللهِ الرَّحمانِ الرَّحيم والتَّختُّمُ باليمين وتعفيرُ الجبين].
الثَّابتُ عندَ الإمامية بأنَّ المُرادَ مِنَ الفِقرةِ المذكورةِ في الحديث “زيارةُ الأربعين” هو زيارةُ الإمامِ الحسين(ع) في العشرينَ من صَفَر، إلّا أنَّ بعضَ الّذينَ لا يُعجِبُهُم زيارةُ الإمامِ الحسين(ع) يومَ العِشرين من صفَر قالوا: إنَّ المُرادَ مِنَ الفقرة هو زيارةُ أربعينَ مؤمناً، فجعلوا زيارةَ أربعينَ مؤمناً مُستَحبّاً دونَ زيارةِ الإمامِ الحسين(ع) بل إنَّ زيارةَ أربعينَ مؤمناً أهمُّ من زيارةِ الإمامِ الحسين(ع).
وقبلَ الإستدلالِ على مُرادِنا، ينبغي أن نبحثَ في نقطتين:
الأولى: بيانُ دعوى هؤلاءِ المُشَكِّكينَ ونَقضِها.
الثّانية: الغايةُ مِن زيارةِ الإمامِ الحسين(ع) يومَ الأربعين أي في العشرين من صَفَر.
النّقطة الأولى: نقضُ دعوى الخصْم.
خلالَ تَتبُّعي لكلامِ أصحابِ الدَّعوى المذكورة، لم أعثُر على دليلٍ واحدٍ قد يكونُ مُستَنداً لهُم لإثباتِ دعواهُم، بل غايةُ ما عَثرْتُ عليهِ أنَّهُم فسَّروا زيارةَ الأربعينَ بـ “أربعينَ مؤمناً” (*) وذلكَ لأنَّ الإمامَ العسكريّ (ع) لم يتَعرَّض للآثارِ الأُخرويَّةِ المُتَرَتِّبةِ على الزِّيارَةِ الأربعينيَّة، مع أنَّ أهلَ البيتِ (ع) عندَ الحثِّ على زيارةِ الإمامِ المظلومِ وغيرهِ مِن أئمَّةِ الهُدى يذكرونَ ما يتَرتَّبُ عليها مِنَ الثَّواب.
هذا غايةُ ما وجَدناهُ مِن دعاوى هؤلاء.
الإيرادُ على الدَّعوى المذكورة:
أولاً:
إنَّ الإمامَ العسكريَّ (ع) في هذا الحديث إنَّما هو بصَدَدِ بيانِ علائِمِ المُؤمِنِ الّتي يمتازُ بها عن غيرِهِ، وجعلَ منها زيارةُ الأربعينَ الحسينيَّةِ على صاحبها آلافُ التَّحيَّةِ والسَّلامِ، ولم يكُنِ الإمامُ العسكريّ (ع) بصددِ بيانِ ما يترتَّبُ على الزّيارةِ منَ الآثارِ الأُخرويَّةِ (**). بلِ الحديثُ في مقامِ بيانِ الآثارِ الدُّنيويَّةِ الظَّاهرةِ على المُؤمِنِ أو هوَ في مقامِ بيانِ الصِّفاتِ الّتي يتَّصِفُ بها المُؤمنُ، وإن كانَ يظهرُ عندي أنَّ الأئمَّةَ (ع) قد بيَّنوا ووَضَّحوا الآثارَ الأُخرويَّةَ لزيارةِ الإمامِ الحسين(ع) مُطلقاً سواءٌ أكانت في زيارةِ الأربعين أم في غيرِها، فلا داعي للإمامِ العسكريّ(ع) أن يُكرِّرَها في هذا الحديث، فإنَّ آباءَهُ الكِرام بيَّنوها في أحاديثِهُمُ الشَّريفة، فبيانهُ لها قد يدخلُ في تحصيلِ الحاصِل، لأنَّ الشِّيعةَ كانوا ولا يزالونَ يعرفون فوائدَ زيارةِ الإمامِ الحسين (ع) الأُخرويَّةِ بشكْلٍ واضح.
ثانياً:
إنَّ استنتاجَ هؤلاءِ على دعواهُم يأباهُ الذّوْقُ السَّليم،معَ خلُوِّهِ منَ القرينةِ الدَّالَّةِ عليه،ولو كانَ الغَرَضُ هوَ الإرشادُ إلى زيارةِ أربعينَ مؤمناً لقالَ الإمامُ(ع):”وزيارةُ أربعينَ مؤمناً”
فمَع عدمِ تقدُّمِ الإشارةِ إلى أربعينَ مؤمناً،وعدمُ وجودِ قرينةٍ تُساعِدُ عليهِ،لا يصُحُّ حينئذٍ صرْفُ “الأربعين” إلى أربعينَ مؤمناً.
ثالثاً:
إنَّ زيارةَ أربعينَ مؤمناً ممّا حثَّ عليهِ الإسلامُ بل أكثرَ من أربعين على فتراتٍ مُتقطِّعةٍ، فهيَ من علائمِ الإيمانِ عندَ الخاصَّةِ والعامَّة، ولم يُخَصَّ بها المؤمنونَ المُوالونَ ليمتازوا عن غيرِهِم، نَعَمْ زيارةُ الإمامِ الحسين (ع) يومَ الأربعينَ مِن صَفَرٍ ممّا يدعو إليها الإيمانُ الخالِصُ لأهلِ البيتِ (ع)، ويُؤكِّدُها الشَّوقُ لزيارةِ الإمامِ الحسين (ع)، ومَعلومٌ أنَّ الّذينَ يحضَرونَ في الحائِرِ الأطهَرِ بعدَ مُرورِ أربعينَ يوماً مِن مَقتَلِ سيِّدِ شبابِ أهلِ الجنَّةِ هم خصوصُ المُشايعينَ لهُ السَّائرينَ على أثَرهِ ومنهجِه.
ويشْهَدُ لهُ اتِّفاقُ سائِرِ علماءِ الإماميَّةِ (مذ استشهدَ الإمامُ الحسين (ع) إلى يومنا هذا) وعدمُ تباعدِهِم عن فهْمِ زيارةِ الإمامِ الحسين (ع) في العشرين من صفر من هذا الحديثِ المبارَكِ، حيث فهموا منه زيارة الامام عليه السلام وليس زيارة اربعين مؤمناً من هؤلاء المحققين :
الشَّيخ أبو جعفر الطّوسيّ في التَّهذيب ج6 ص47، فإنَّهُ ـ رحِمَهُ الله ـ بعدَ أن روى الأحاديثَ في فضلِ زيارتِهِ المُطلقة، ذكَرَ بعدَها الزِّياراتِ المُقيَّدةِ بأوقاتٍ خاصَّةٍ ومنها يومُ عاشوراء، وبعدهُ روى هذا الحديث (علاماتُ المؤمِن خمْس). وفي مصباح المتهجد ذكرـ رحمه الله تعالى ـ شهرَ صفر وما فيهِ مِنَ الحوادِثِ ثمَّ قال: وفي يومِ العشرينِ منهُ رجوعُ حُرَمِ أبي عبدِ اللهِ (ع) من الشَّامِ إلى المدينة، وورودُ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ الأنصاريّ (رضي الله تعالى عنه) إلى كربلاءَ لزيارةِ الإمامِ أبي عبدِ اللهِ(ع)، فكانَ أوَّلَ مَن زارَهُ منَ النَّاسِ وهي زيارةُ الأربعين.
أقول: إنَّ جابر زارَ الإمامَ يومَ الاربعين، والإمامُ السَّجّادُ (ع) وعقيلةُ الهاشميّينَ والسّبايا زاروا الإمامَ المظلومَ يومَ الأربعين، فزيارةُ الإمامِ السَّجّادِ (ع) يومَ الأربعينِ دليلٌ على الإستحبابِ، لأنّ الإمامَ معصوم عن الخطأ فكل تصرفاته وما يصدر عنه حكمة وصواب، ففِعْلُهُ وقولُهُ وتقريرُهُ حُجَّةٌ، ولو لم يكُن يومُ الأربعينِ مُستَحَبّاً لما فَعَلَهُ الإمامُ السَّجَّادُ وعقائِلُ الوحيِ والطَّهارةِ صلوات الله عليهم أجمعين ؟!.
وقال العلاّمة الحلّي في المنتهى كتاب الزيارات بعد الحجّ: يستحب زيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) في العشرين من صفر.. ثمّ قال: روى الشيخ عن الإمام أبي محمَّد العسكري (عليه السَّلام) أنّه قال: علامات المؤمن خمس..
وقال السيد ابن طاووس في الإقبال عند ذكر زيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) في العشرين من صفر قال: روينا بالإسناد إلى جدّي أبي جعفر الطّوسي فيما رواه بالإسناد إلى مولانا الحسن بن عليّ العسكري (عليه السَّلام) قال: علامات المؤمن خَمس…
ونقل العلاّمة المجلسي في مزار البحار هذا الحديث عن ذكر فضل زيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) يوم الأربعين، ووافقهم صاحب الحدائق في باب الزّيارات بعد الحجّ فقال: وزيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) في العشرين من صفر من علامات المؤمن.
وحكى الشيخ القمي في المفاتيح هذه الرواية عن التهذيب ومصباح المتهجد في الدّليل على رجحان الزيارة في الأربعين من دون تعقيب باحتمال إرادة أربعين مؤمناً.
والشيخ المفيد قال باستحباب الزيارة في العشرين من صفر في كتابه مسار الشيعة، والعلاّمة الحلّي في التذكرة والتحرير، وملا محسن الفيض في تقويم المحسنين.
رابعاً:
يَثبت استحباب زيارة العشرين من صفر بالاطلاقات الدالة على استحباب زيارته مطلقاً، وفي كلّ شهر، فقد روى الشيخ الطوسي ـ بعد حديث الإمام العسكري (عليه السَّلام)ـ حديثاً عن داود بن فرقد قال: قلت للإمام أبي عبد الله (عليه السَّلام): ما لِمَن زار الإمام الحسين (عليه السَّلام) في كلّ شهر من الثواب؟ قال: له من الثواب ثواب مائة ألف شهيد مثل شهداء بدر(1).
وصفر داخل ضمن قوله (عليه السَّلام): في كلّ شهر، فتُستحبّ زيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) في العشرين من صفر على وجه التحديد بقرينة حديث الإمام العسكري (عليه السَّلام): “زيارة الأربعين”؛ أي في اليوم المعهود وهو العشرون من صفر.
النقطة الثانية: الغاية من زيارة أربعين الإمام الحسين يوم العشرين من صفر؛ أي زيارة الأربعين.
يمكننا أنْ نصنّف الغاية من زيارته الأربعينيّة كلّ عام إلى ثلاثة مستويات:
المستوى الأوّل: تخليد ذكراه (عليه السَّلام) وتجديد الحزن عليه.
بيان ذلك: إنّ النواميس المطردة مواظبة على الاعتقاد بالفقيد بعد أربعين يوماً مضين من وفاته بإسداء البِرِّ إليه وتأبينه وعدّ مزاياه في حفلاتٍ تُعقَد وذكريات تُدَوَّنُ تخليداً لذِكْرِه، في حين أنّ الخواطر تكاد تنساه، والأفئدة أوشكت أنْ تُهْمِلَهُ، فبذلك تُعاد إلى ذكراه البائدة صورةٌ خالدةٌ بشِعْرٍ أو بخطابٍ بليغٍ تتضمّنه الكتب حتى يعود من أجزاء التاريخ، فيصير الفقيدُ حيّاً كلّما تُلِيَتْ هاتيكَ النُّتَف من الشعر، أو وقف الباحث على ما أُلقيت فيه من كلماتٍ تأبينيّةٍ بين طيّات الكتب فيقتصّ أثره في فضائله وفواضله، وهذه السنّة الحسنة تزداد أهميّةً كلّما ازداد الفقيدُ عَظَمَةً، وكَثُرَتْ فضائله، وهي في رجالات الإصلاح والمقتدى بهم من أكابر الدين أهمّ وآكد؛ لأنّ نَشْرَ مزاياهم وتعاليمهم يحدو ويحثّ إلى اتّباعهم واحتذاء مثالهم في الإصلاح وتهذيب النفوس.
و يشهد له ما ورد عن أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وآله : إنّ الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحاً.
وعن زرارة عن مولانا الإمام الصّادق (عليه السَّلام): إنّ السّماء بكت على الحسين (عليه السَّلام) أربعين صباحاً بالدّم، والأرض بكت عليه أربعين صباحاً بالسّواد، والشّمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، والملائكة بكت عليه أربعين صباحاً، وما اختضبت امرأةٌ منّا ولا ادّهَنَتْ ولا اكتَحَلَتْ ولا رجلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد وما زلنا في عَبْرَة من بعده.
يؤكد هذه الطريقة المألوفة والعادة المستمرّة بين النّاس من الحداد على الميّت أربعين يوماً، فإذا كان يوم الأربعين أُقيم على قبره الاحتفال بتأبينه، يحضره أقاربُه وخاصتُهُ وأصدقاؤُه، وهذه العادة لم يختص بها المسلمون، فإنّ النصارى يقيمون حفلة تأ بينيّة يوم الأربعين من وفاة فقيدهم يجتمعون في الكنيسة ويعيدون الصّلاة عليه المسماة عندهم بصلاة الجنازة، ويفعلون ذلك في نصف السّنة وعند تمامها، واليهود يعيدون الحداد على فقيدهم بعد مرور ثلاثين يوماً وبمرور تسعة أشهر وعند تمام السنة، كلّ ذلك إعادةً لذكراه وتنويهاً به وبآثاره وأعماله إنْ كان من العظماء ذوي الآثار والمآثر…
وإحياء النصارى واليهود ذكرى الأربعين لموتاهم لا يستلزم إنكارها، إذ ليس من الضروري أنْ تكون كلُّ الأفكار الموجودة في تاريخ النصارى واليهود سيئةً، قد تكون بعض الأفكار عندهم لها أساس ديني يتوافق مع شريعتنا فلا يجوز حينئذٍ ردّه لكونه يتوافق مع النصارى واليهود، فإذا قام الدّليل الشرعي عندنا على صحّة فعلٍ أو عملٍ معيَّنٍ حتى لو توافق مع المخالفين لنا فلا يجوز ردّه لأنّ ردّه يقتضي ردَّ الدّليل الشرعي الذي قام على صحّة الفعل المعيَّن.
وعلى كلّ حال؛ فلا يجد المنقِّب في الفئة الموصوفة بالإصلاح والصّلاح رجلاً اكتنفته المآثر بكلّ معانيها، وكانت حياتُه وحديثُ نهضته وكارثةُ قتله، دعوةً إلهيّةً وطقوساً إصلاحيّةً، وأنظمةً اجتماعيّةً وتعاليمَ أخلاقيّة، ودروساً دينيّة إلاّ سيّدَ الشّهداء أبا عبد الله الحسين عليه آلآف التحيّة والسّلام، شهيد الله تعالى… فهو أولى من كلّ أحد بأنْ تُقامَ له الذكريات، وتشدَّ الرحالُ للمثول حول مرقده الأقدس في يوم الأربعين من قتله حصولاً على تلكم الغايات الكريمة.
وما يفعله الناس من الحفلات الأربعينية الأولى على موتاهم فلا يكررونها كلّ سنة كما يكرّرونها لأجل الإمام الحسين (عليه السَّلام)، من جهة كون مزايا أولئك الرِّجال محدودة منقطعة الآخر، بخلاف سيّد الشّهداء (عليه السَّلام) فإنّ مزاياه لا تُحَدُّ، وفواضله لا تُعَدُّ، ودرس أحواله جديدٌ كلّما ذُكِر، واختصاصُ أثره يحتاجه كلُّ جيلٍ، فإقامة المآتم عند قبره في الأربعين من كلّ سنة إحياءٌ لنهضته المقدَّسة، وتعريفاً بالقساوةِ التي ارتكبها الأمويون ولفيفُهم، ومهما أمعن الخطيبُ أو الشّاعرُ في قضيته، تُفتح له ابوابٌ من الفضيلة كانت موصدة عليه قبل ذلك، ولهذا اطردت عادة الشيعة على تجديد العهد بتلكم الأحوال يومَ الأربعين من كلّ سنة، ولعلّ رواية مولانا أبي جعفر (عليه السَّلام): “إنّ السّماء بكت على الإمام الحسين (عليه السَّلام) أربعين صباحاً تطلع حمراء وتغرب حمراء”(2)؛ تلميحٌ إلى هذه العادة المألوفة بين النّاس، وحديث الإمام الحسن العسكري (عليه السَّلام): “علامات المؤمن خَمس..” يرشدنا إلى تلك العادة المطردة المألوفة للناس، فإنّ تأبين سيّد الشّهداء (عليه السَّلام)، وعقد الاحتفالات لذِكْرِهِ في هذا اليوم إنما يكون ممن يَمِتُّ به بالولاء والمشايعة، ولا ريب في أنّ الذين يتصلون به وينتسبون إليه بالمشايعة هم المؤمنون المعترفون بإمامته (عليه السَّلام)، إذاً فمن علامة إيمانهم وولائهم لسيّد شباب أهل الجَنَّة المنحور على مجزرة الشّهادة الإلهيّة المثول في يوم الأربعين من شهادته عند قبره الأطهر لإقامة المأتم وتجديد العهد بما جرى عليه وعلى أهل بيته وصحبه من الفوادح العظيمة(3).
إشكال وحلّ:
إنْ قيل لنا: لِمَ خصصتم الإمامَ الحسين بالأربعينيّة دون بقيّة أهل البيت (عليهم السَّلام) أليسوا كالإمام الحسين سُفُنَ نجاة وأبوابَ هدىً، فلِمَ إذاً هذا التمييز؟
والجواب:
لا شكّ أنّ الأئمّة (عليهم السَّلام) من آل الرّسول (عليه السَّلام) كلّهم أبواب النجاة وسفن الرّحمة وبولائهم يُعرَف المؤمن من غيره، وقد خرجوا من الدنيا مقتولين في سبيل الدّعوة الإلهيّة، موطِّنين أنفسهم على القتل امتثالاً لأمر بارئهم جلّ شأنه الموحى به إلى جدّهم الرّسول كما أشار إلى ذلك الإمام الحسن المجتبى (عليه السَّلام) بقوله: “إنّ هذا الأمر يملكه منا اثنا عشر إماماً، ما منهم إلاّ مقتول أو مسموم”، فالواجب إقامة المأتم في يوم الأربعين من شهادة كلّ واحد منهم إلاّ انّ مأساة فاجعة الطف فاقت كلَّ فاجعة، وقتله بتلك الكيفيّة لا نظير لها في التاريخ… لذا تفرَّدَ الإمام الحسين (عليه السَّلام) بالإحياء الأربعيني دون بقيّة أهل البيت (عليهم السَّلام)…
مضافاً إلى أنّ قضيّة سيّد الشّهداء هي التي ميّزت بين دعوة الحقّ والباطل، ولذا قيل: الإسلام بدؤه محمَّدي وبقاؤه حسينيّ، فما قاساه سيّدُ الشّهداء لتوطيد أسسِ لإسلام واكتساح أشواكِ الباطل عن صراط الشّريعة وتنبيه الأجيال على جرائم أهل الضّلال هو عين ما نهض به نبيُّ الإسلام لنشر الدّعوة الإلهيّة. فمن أجل هذا كلّه لم يجد ائمةُ الدين من آل الرّسول مندوحة إلاّ لفت الأنظار إلى هذه النهضة الكريمة لأنها اشتملت على فجائع تُفَطِّرُ الصخرَ الأصمَّ، وعلموا أنّ المواظبة على إظهار مظلوميّة الإمام الحسين تستفزُّ العواطفَ وتوجب استرقاق الأفئدة، فالسّامع لتلكم الفظائع يعلم أنّ الإمام الحسين إمامُ عدلٍ لم يرضخ للدنايا، وأنّ إمامته موروثة له من جدِّه وأبيه بأمرٍ من الله تعالى، ومَن ناوأه خارجٌ عن العدل، وإذا عرف السّامع أنّ الحقّ في جانب الإمام الحسين (عليه السَّلام) وأبنائه المعصومين كان معتنقاً طريقتهم وسالكاً سبيلهم.
ومن هنا لم يرد التحريض من الأئمّة على إقامة المأتم في يوم الأربعين من شهادة كلّ واحدٍ منهم حتى نبيّ الإسلام لكون تذكار كارثته عاملاً قوياً في إبقاء الرابطة الدينية، وأنّ لفت الأنظار نحوها حاجةٌ مُلِحّةٌ في إحياء أمر المعصومين (عليهم السَّلام) المحبوب لديهم التحدث به: ” أحيوا أمرنا، وتذاكروا في أمرنا ” لأنّ مصيبته أعظم المصائب بل تصغر كل مصيبةٍ أمام مصيبته حسبما جاء في الخبر الصحيح أّنّ الملاك جبرائيل قال للنبي الاكرم : ولدك هذا يصاب بمصيبةٍ تصغر عندها المصائب .
المستوى الثاني: تجديد العهد بالولاء للإمام الحسين (عليه السَّلام) ولآبائه وأبنائه الطّاهرين (عليهم السَّلام)..
ويختلف هذا المستوى عن سابقه، إذ إنّ المستوى الأول هو تجديد الحزن عليه (صلوات الله عليه) أمّا هنا فهو تجديد الولاء له (عليه السَّلام)، وهذا ما أفادته النصوص الصحيحة الصّادرة عن أهل بيت العصمة والطّهارة (عليهم السَّلام)، فقد جاء عنهم في باب الحجّ والزيارة أنّ المراد من قوله تعالى: [ثمّ ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم] قال عبد الله بن سنان: قلت للإمام الصّادق (عليه السَّلام): جُعِلْتُ فداكَ ما معنى قول الله عزّ وجلّ: [ثمّ ليقضوا تفثهم]؟ قال: أخذ الشارب وقصّ الأظافير وما أشبه ذلك، قال: قلت: جعلتُ فداكَ فإنّ ذريحاً المحاربي حدثني عنك أنّكَ قلتَ: ليقضوا تفثهم لقاء الإمام، وليوفوا نذورهم: تلك المناسك؟ قال: صدق ذريح وصدقتَ: إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً ومَن يحتمل ما يحتمل يا ذريح؟(4)
كما ورد استحباب البدء بهم في المدينة والختم بهم أيام الحج، فقد جاء عن زرارة عن مولانا أبي جعفر (عليه السَّلام) قال: إنما أُمر الناسُ أنْ يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثمّ يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرَهم(5).
يظهر من هذا الخبر الشريف أنّ الغاية من الزيارة بالدرجة الأولى هو تجديد العهد بالولاية وعرض النصرة عليهم صلوات الله عليهم.
كما يشير إلى ذلك ما ورد في الزيارات المتعددة نظير قولهم (عليهم السَّلام) لشيعتهم أنْ يقولوا في الزيارة هكذا: ” فقلبي لكم مسلِّم، وأمري لكم متّبع، ونصرتي لكم مُعَدَّة، وأنا عبد الله ومولاك ـ أي ناصرك ـ وفي طاعتك.. ألتمسُ بذلك كمالَ المنْزِلة عند الله “(6). وورد في مقطع آخر من نفس الزيارة قوله (عليه السَّلام): “ا للهمّ إنّكَ مَنَنْتَ عَلَيَّ بزيارة مولاي وولايته ومعرفته، فاجعلني ممن تنصُرُه وتنتصر به، ومُنَّ عَلَيَّ بنصري لدينكَ في الدّنيا والآخرة “(7).
وجاء في مقطعٍ ثالثٍ في زيارة أمير المؤمنين (عليه السَّلام): “جئتُكَ عارفاً بحقّكَ مستبصراً بشأنكَ، موالياً لأوليائكَ، معادياً لأعدائكَ ومَن ظلمكَ، ألقى على ذلك ربي إنْ شاء الله تعالى..”(8).
وفي زيارة عاشوراء: “يا أبا عبد الله إني سلمٌ لمن سالمكم وحربٌ لمَن حاربكم إلى يوم القيامة، ووليٌّ لمن والاكم وعدوٌّ لمن عاداكم…”.
وجاء في دعا ء العهد لمولانا الإمام المهديّ (عليه السَّلام) قوله الشريف: “اللهم إني أجدِّد له في صبيحة يومي هذا وما عشتُ من أيامي عهداً وعقداً وبيعةً له في عنقي لا أحول عنها ـ أي لا أنصرف عنها ـ ولا أزولُ أبداً، اللهمّ اجعلني من أنصاره وأعوانه والذابين عنه والمسارعين إليه في قضاء حوائجه والممتثلين لأوامره والمحامين عنه والسّابقين إلى إرادته والمستشهدين بين يديه”.
المستوى الثالث: الاستشفاع بهم (عليهم السَّلام) والطلب منهم أنْ يجعلوه من الثابتين على ولايتهم للأخذ بثأرهم والانتقام من أعدائهم، والوقوف على قبورهم المقدَّسة يُشْحِذُ من هِمّةِ الزّائرِ للأخذ بالثار بسبب تمثيل ظلاماتهم في نفسه… من هنا أكّد دعاء العهد وزيارة عاشوراء هذا المعنى بقوله (عليه السَّلام): “اللهمّ إنْ حال بيني وبينه الموتُ الذي جعلته على عبادكَ حتماً مقضياً فأخرِجْنِي من قبري مؤتزراً كفني شاهراً سيفي مجرِّد اً قناتي ـ أي كاشفاً رمحي ـ ملبِّياً دعوة الداعي في الحاضر والبادي”. “بأبي أنتَ وأمي فقد عَظُمَ مصابي بكَ، فأسألُ اللهَ الذي أكرمَ مقامكَ وأكرمني بكَ أنْ يرزقني طلب ثارك مع إمامٍ منصورٍ من أهل بيت محمَّد…”.
إلى أنْ قال (عليه السَّلام): “وأسأله أنْ يبلِّغَني المقامَ المحمودَ لكم عند الله، وأنْ يرزقَني طلبَ ثاري مع إمام هدىً ظاهرٍ ناطقٍ بالحقِّ منكم…”.
هذه أهمّ الأهداف من زيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام)، وثمّة فوائد أخرى مترتبة على زيارته مبثوثة في الأخبار، أهمّ هذه الفوائد والآثار قد تكون مطلوبة عند الزائر، وقد لاتكون فيعطيه اللهُ عزّ وجلّ بعضَ الآثار والفوائد المترتّبة على زيارته، ومنها:
1. أنّ زيارته (عليه السَّلام) تزيد في العمر. [كامل الزيارات: ص284ح1].فقد ورد عن محمَّد بن مسلم عن مولانا الإمام أبي جعفر عليه السلام قال:
مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين عليه السلام فإنّ إتيانه يزيد في الرزق ويمد في العمر ويدفع مدافع السوء ،وإتيانه مفترض على كل مؤمن يقر للحسين بالإمامة من الله .
2. يحيا زائرُهُ حياةً سعيدةً. [كامل الزيارات: ص286ح6].فعن أبان عنعبد الملك الخثعمي عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال:يا عبد الملك لاتدع زيارة الحسين بن علي عليهما السلام ومر أصحابك بذلك،يمد الله في عمرك ويزيد الله في رزقك ،ويحييك الله سعيداً ولا تموت إلاّ سعيداً ويكتبك سعيداً .
3. يحطّ الذنوب. [كامل الزيارات: ص286ح1.فقد جاء عن الإمام الصادق عليه السلام قال : إنّزائر الحسين جعل ذنوبه جسراً على باب داره ثم عبرها ،كما يخلف أحدكم الجسر ورائه إذا عبر .
4. تنفّس الكربَ وتقضي الحوائج. [كامل الزيارات: ص312].فقد جاء عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام قال لفضيل بن يسار :إنّ إلىجانبكم لقبراً ما أتاه مكروب إلاّ نفّس الله كربته وقضى حاجته .
الإستدلال على المراد:
والمقصود بـ “زيارة الاربعين” الواردة في كلام الإمام العسكري (عليه السَّلام) هو زيارة مولانا الإمام الحسين (عليه السَّلام) ونستدلّ على ذلك بالوجوه الآتية:
(الوجه الأوّل): سيرة المتدينين الشيعة ، العلماء منهم والعوام، على مواظبتهم لزيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام) في العشرين من صفر، وهذه السيرة متصلة بالمعصومين (عليهم السَّلام) الذين حثّوا على الزيارة المطلَقة للإمام الحسين (عليه السَّلام)، بل كانوا يولون بعضَ مواليهم للدعاء تحت قبّة الإمام الحسين (عليه السَّلام).
بل علمنا سابقاً أنّ الإمام السجّاد (عليه السَّلام) زار أباه يوم العشرين من صفر، مما يدلّ على استحباب هذا العمل.
ولا يخفى أنّ سيرة المتشرعة حجة يُستكشَف منها مشروعيّة الفعل الدال على الوجوب والاستحباب… وحيث إنّ المؤمنين لا سيّما المتشرِّعة منهم يواظبون على زيارة الأربعين الحسينيّة دلّ ذلك على استحبابها ورجحان مشروعيتها.
(الوجه الثاني): إجماع فقهاء الإماميّة على استحباب زيارته يوم العشرين من صفر، ونقلنا قسماً من كلمات بعض فقهاء الإماميّة على ذلك، ولم يعترض أحدٌ على الإستحباب أصلاً سوى بعض مَنْ لا تحصيل لديه في المسألة، وهذا الفرد أو ذاك لا يضرّ خروجه من الإجماع المنعقد في المسألة.
(الوجه الثالث): إنّ دخول الألف واللام العهديةّ على كلمة “أربعين” إشارة للتنبيه على أنّ زيارة الأربعين من سنخ الأمثلة التي نصّ عليها الحديث بأنّها من علائم الإيمان والموالاة للأئمّة الإثني عشر(9).
واللام العهديّة تدخل على المسنَد إليه للإشارة إلى فرد معهودٍ خارجاً بين المتخاطبين(10)، وهذا نظير قوله تعالى: [كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعونُ الرّسولَ] فالرّسول محلَّى باللام العهديّة التي دخلت على الإسم المسنَد إليه، فالرّسول في الآية كان معهوداً في زمن فرعون وهو موسى النبيّ ، وفرعون الزنديق عصى موسى الرّسولَ المعهود يومذاك.
وهنا هكذا: فإنّ “الأربعين” اسمٌ أُسنِدَ إليه الألف واللام العهدية حيث إنّ زيارةَ الإمام يوم الأربعين من يوم شهادته أمرٌ معهودٌ بين الشيعة، لذا لم تقتضِ الضّرورةُ ذِكْرَ قيدٍ لفظيٍّ أو قرينةٍ لفظيّةٍ تحدِّدُ أو تقيِّدُ اللفظَ المذكور باليوم المعهود وهو العشرون من صفر، فثمة قرينة حالية أوجبت فهم العلماء الأعلام من هذا الجملة خصوص زيارة الإمام الحسين (عليه السَّلام)، والقرينة الحالية هي السيرة القائمة على زيارة الإمام (عليه السَّلام) في العشرين من صفر.
فالحاصل: حيث لا توجد قرينة تدلّ على أنّ الأربعين هو أربعون مؤمناً، وحيث إنّ اللام تُفيد العهدَ، وحيث إنّ السيرة العمليّة للفقهاء والأعلام والمتدينين يحيون يوم العشرين من صفر وهذه السيرة مرتبطة ومتصلة بعمل الإمام زين العابدين (عليه السَّلام) وعقائل الوحي وبعض صحابة النبيّ كجابر، يتضح حينئذٍ استحباب ومشروعيّة زيارة الأربعين الحسينيّة، ولا يُقصَد من حديث الإمام العسكري (عليه السَّلام) ما توهّمه بعضُهم.
وبهذا التقريب يتضح أنّ المراد بزيارة الأربعين في الحديث هو زيارة الإمام الحسين المظلوم (عليه السَّلام)، والزائر له في كلّ الأزمنة والأوقات تحت رعاية الله تعالى ولطفه ورحمته، والزائر يكون مشمولاً لدعاء الإمام الصّادق (عليه السَّلام) فقوله: “اللهمّ يا مَن خصَّنا بالكرامة ووَعَدَنا بالشفاعة، وخصّنا بالوصيّة وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي، وجعل أفئدةً من الناس تهوي إلينا، إغفر لي ولأخواني وزوّار قبر أبي عبد الله الحسين، الذين أنفقوا أموالَهم وأشخصوا أبدانَهم رغبةً في بِرِّنا ورجاءً لما عندكَ في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيِّكَ وإجابةً منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدوّنا، أرادوا بذلك رضوانك، فكافِهِم عنا بالرِّضوان واكلأهم بالليل والنّهار، وأخلِفْ على أهاليهم وأولادهم الذين خلَّفوا بأحسنِ الخَلَفِ، واصحبْهُم واكفِهِمْ شرَّ كلِّ جبّارٍ عنيدٍ، وكُلِّ ضعيفٍ من خلقك وشديدٍ، وشرَّ شياطين الإنس والجنّ، وأعطِهِمْ أفضلَ ما أملوا منكَ في غُربَتِهِم عن أوطانهم وما أثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم، اللهمّ إنّ أعداءَنا عابوا عليهم بخروجهم فلم ينهَهُم ذلك عن الشّخوص إلينا خلافاً منهم على مَن خالفنا، فارْحَمْ تلكَ الوجوه التي غيَّرَتْها الشّمسُ، وارْحَمْ تلكَ الخدودَ التي تتقلّبُ على حفرةِ أبي عبد الله الحسين (عليه السَّلام) وارْحَمْ تلكَ الأعينَ التي جَرَتْ دموعُها رحمةً لنا، وارْحَمْ تلك القلوبَ التي جزعَتْ واحترقت لنا، وارْحَمْ تلكَ الصّرخةَ التي كانت لنا، اللهمّ إني أستودِعُكَ تلك الأبدان وتلك الأنفسَ حتى تُوافيهم من الحوض يومَ العطش”(11).
والحمد لله ربّ العالمين ولعن الله أعدائهم من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين.
المصادر
===========================================
(1) التهذيب:6/47ح123.
(2) كامل الزّيارات: باب28.
(3) المقتل للمقرم: ص473.
(4) من لا يحضره الفقيه:2/290ح1432، وص291ح1437.
(5) من لا يحضره الفقيه:2/334 ح1553.
(6) كامل الزيارات: ص102.
(7) كامل الزيارات: ص102.
(8) كامل الزيارات: ص103.
(9) المقتل: ص474.
(10) جواهر البلاغة: ص132 المبحث الثامن في تعريف المسنَد إليه بأل.
(11) كامل الزيارات: ص228.
(1) التهذيب:6/47ح123.
(2) كامل الزّيارات: باب28.
(3) المقتل للمقرم: ص473.
(4) من لا يحضره الفقيه:2/290ح1432، وص291ح1437.
(5) من لا يحضره الفقيه:2/334 ح1553.
(6) كامل الزيارات: ص102.
(7) كامل الزيارات: ص102.
(8) كامل الزيارات: ص103.
(9) المقتل: ص474.
(10) جواهر البلاغة: ص132 المبحث الثامن في تعريف المسنَد إليه بأل.
(11) كامل الزيارات: ص228.