عندما استلمت بطاقتي المدرسية عند تخرجي من المرحلة الاعدادية الى الجامعية وجدت أن تقييم المرشد لي في الحقل الذي يقول ( هل يثق بنفسه .. ؟ ) هو ( أحيانا ) .. وتضجورت حينها وحسبته تقييماً سلبياً وظلت هذه القضية تؤلمني لفتره ولكن ما هوّن الخطب هو أن هذا التقييم قد وضع لأغلب زملائي ان لم يكن جميعهم ..

ولكن بعد ذلك تغيّر الأمر بالنسبة لي تماماً بعد أن عرفت أن الثقة بالنفس الدائمة والكبيرة تعتبر مرضاً نفسياً بل ترقى الى مرض اجتماعي فتاك ، فنحن لا نعتمد على أنفسنا في أكثر تفاصيل حياتنا ، فمراجعتنا للطبيب والمهندس والمدرس .. الخ هو لثقتنا بهم في قضاء بعض امورنا واعتراف منّا صريح بأننا لا نستطيع اداء ما يجيدونه هم ، فالمجتمع من هذه الزاوية هو عبارة عن وسط تفاعلي ومتشابك من الثقات المتبادلة .. فرجوع الجاهل الى العالم يمكننا فهمها من هذه الناحية ايضاً لو تأملت ..

فالثقة الزائدة بالنفس من قبل القائد والرئيس تجعل منه دكتاتورا ، وهذا هو منطق فرعون ( قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) ولكن لم يهدهم الا الى النار وبئس المصير ( فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ۖ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ، يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) ، على عكس ما فعلت ملكة سبأ عندما استشارت قومها حين جاءها رسول سليمان النبي ع مخاطبة قومها ( قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أمري مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ ) .. وكذلك للثقة الزائدة مردود سلبي في جميع المجالات ، سياسية كانت ام علمية ام اجتماعية .. الخ

وفي مقابل ذلك لا بد أن يمتلك الشخص نسبة معينة ومعقولة من الثقة بالنفس لأن عدم الثقة وانفصام الشخصية والشخصية المترددة والوسواسية .. عند الإقبال على الأعمال والمهامّ تعتبر ايضا امراضاً نفسية واجتماعية خطيرة ، ولهذا يعمد القرآن الكريم الى زرع الثقة بالنفس عند المسلم ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) ، (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) وغيرها عشرات الآيات التي تزرع الثقة بالنفس ..
فلا افراط ولا تفريط في هذا الأمر وهي بالتالي أمراً اكتسابياً وتربوياً يبدأ به المربي مع من هو مسؤول عن تربيتهم ويقوم به القائد مع معيته والشخص مع نفسه .. وهكذا

واتذكر استاذنا في الكلية كان يقول أننا كنا نتعلم في كليات الهندسة في الخارج فنون القتال لكي لا يكون المهندس في موقع العمل ضعيفاً امام تمرّد العامل او تنّمره على مسؤوله ..