لم تمض خمس سنوات على استشهاد زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) حتى لاحت تباشير الصوت المدوي الذي أطلقه بوجه الأمويين بثورة أخرى كانت امتدادا لها وجذوة من أوارها، لقد قتل زيد وقطع رأسه وصلب ولكن ثورته بقي صداها يدوّي في النفوس والقلوب يلهمها معاني الحرية والكرامة والإباء ويؤلبها على الظالمين والمستكبرين.
لم يستطع الأمويون إسكات الصوت الهادر للخط الثوري العلوي بقتلهم زيداً، فقد انبجست منه عين لتروي نهجه وتحيي منهجه، واتّقدت من ثورته شعلة متوهِّجة بدمه, تلك هي ثورة ابنه الشهيد يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) سليل الإباء وحفيد سيد الشهداء وأبي الأحرار الإمام الحسين.
لقد سجل هذا الثائر العلوي أروع صفحات المجد وكتب اسمه من نور في سجل الخالدين، وسيبقى ذكره على امتداد رقعة التاريخ، يمدّ الأجيال والأحقاب بأسمى معاني الإباء والكرامة والحرية...،
شهيد الجوزجان المدينة التي تشرّفت به, وارتفع ذكرها بجسده الطاهر, ستبقى خالدة باسمه، مقترنة ببطولاته وشجاعته حتى صارت سيرته تأريخها المقدّس بأريج النبوة, وثورته يومها المطرّز بالمجد, واستشهاده رمزها المكلّل بدماء الشهادة, حتى اطلقت اسمه على كل مولود ولد فيها ...
يحيى .... فرع الدوحة المحمدية، المتسلسل من النبعة العلوية الصافية، شبل من أشبال الزهراء، وريث صفات العقيدة الخالصة والإباء والإقدام عن آبائه معدن البطولة والفداء، قارع الباطل والكفر بنفسٍ أبية, وأحيا الحق بدمه, وقدم نفسه فداءً لعقيدته.
نَفَس الثورة المعطاء
روى ابن عنبة في عمدة الطالب (ص257): (لما صرع زيد بن علي بشّره ابنه يحيى بالجنة ومرافقة النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام), فقال له زيد: أجل يا بني ولكن ماذا تريد أن تصنع بعدي ؟ فقال يحيى: أقاتلهم والله ولو لم أجد إلا نفسي. فقال زيد: افعل يا بني إنك على الحق وإنهم على الباطل وإن قتلاك في الجنة وقتلاهم في النار.
ورثى يحيى أباه بقوله:
خليليَّ عنِّي بالمدينةِ بلِّغا *** بني هاشمٍ أهل النهى والتجاربِ
فحتى متى لا تطلبون بثأرِكم *** أمية إن الدهرَ جمُّ العجائبِ
لقد أرعب هذا الشبل العلوي الجبروت الأموي, وأرهق طغيان ولاته حيث وجدوا فيه الجبل الأشم الذي لا تزعزعه الرياح ولا تثنيه الأعاصير, هذا الشاب الذي لم يتخط العقد الثاني من عمره زعزع كيان الدولة الأموية, وأقلق بلاطهم وأقض مضاجعهم.
يحيى بن زيد
يحيى بن زيد بن علي بن الحسين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كنيته (أبو طالب), اشتهر بـ (شهيد الجوزجان), ولد عام (107هـ), واستشهد سنة (125هـ), وكان له من العمر (18) سنة, أما أمه فهي السيدة الطاهرة: ريطة بنت عبدالله بن محمد بن الحنفية التي كانت سيدة جليلة من سيدات بني هاشم ومن راويات الحديث روت عن أبيها وزوجها وقد وصفها النسابة ابن الصوفي في (المجدي في أنساب الطالبيين ص429): (إنها من ذوات الشأن من نساء بني هاشم).
يحيى السائر على نهج أهل البيت
كان يحيى معترفاً بإمامة الإمام الصادق والأئمة الإثني عشر (عليهم السلام) كأبيه الشهيد زيد وكان يقول بقوله: أربعة مضوا وثمانية قادمون, ويدلنا قوله (رضوان الله عليه) لمن سأله عن موقفه وموقف أبيه منهم على إيمانه العميق بهم وولائه لهم وإقراره بإمامتهم (صلوات الله عليهم) حين سُئل: يا ابن رسول الله أهم أعلم أم أنتم ؟
فقال: كلّنا له علم غير أنّهم يعلمون كلّ ما نعلم ولا نعلم كلّ ما يعلمون.
كما قال بذلك علماء الإمامية ومنهم: الشيخ المامقاني الذي قال في تنقيح المقال (ج3، ص:316): (أنه ــ أي يحيى ــ كان إمامي المذهب). وقال العلامة الشيخ عبد الحسين الأميني في كتابه: (نظرة في كتاب السنة والشيعة) (ج1 ص21): (إنه كان يؤمن بإمامة الإمام الصادق (عليه السلام), وحين وصل نبأ شهادة يحيى إلى الإمام الصادق بكى وترحم عليه), كما وثقه الطوسي وعدّه الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام).
ويذكر العلامة المجلسي في بحار الأنوار (ج46ص200) رواية عن المتوكل بن هارون تؤكد بشكل قاطع التزام يحيى واعترافه وطاعته لأئمته المعصومين (عليهم السلام) وإنه خرج على الأمويين للدعوة إلى الرضا من آل محمد وكان ــ كأبيه ــ يقصد الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) تقول الرواية عن المتوكل: (لقيت يحيى بن زيد بعد قتل أبيه وهو متوجّه إلى خراسان، فما رأيت مثله رجلاً في عقله وفضله فسألته عن أبيه، فقال: إنه قتل وصلب بالكناسة، ثم بكى وبكيت حتى غشي عليه، فلما سكن قلت له: يا ابن رسول الله وما الذي أخرجه إلى قتال هذا الطاغي وقد علم من أهل الكوفة ما علم ؟ فقال: نعم لقد سألته عن ذلك، فقال: سمعت أبي (عليه السلام) يحدث عن أبيه الحسين بن علي (عليه السلام) قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا حسين يخرج من صلبك رجل يقال له زيد يقتل شهيداً، فإذا كان يوم القيامة يتخطى هو وأصحابه رقاب الناس، ويدخل الجنة، فأحببت أن أكون كما وصفني رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم قال ــ أي يحيى ــ: رحم الله أبي زيداً، كان والله أحد المتعبدين، قائم ليله صائم نهاره، يجاهد في سبيل الله عز وجل حق جهاده. فقلت: يا ابن رسول الله هكذا يكون الإمام بهذه الصفة ؟ فقال: يا عبد الله إن أبي لم يكن بإمام، ولكن من سادات الكرام وزهادهم، وكان من المجاهدين في سبيل الله، قلت: يا ابن رسول الله أما إن أباك قد ادعى الإمامة، وخرج مجاهداً في سبيل الله، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله فيمن ادعى الإمامة كاذباً فقال: مه يا عبد الله إن أبي عليه السلام كان أعقل من أن يدعي ما ليس له بحق وإنما قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمد، عنى بذلك عمي جعفرا قلت: فهو اليوم صاحب الامر ؟ قال: نعم هو أفقه بني هاشم.....)
شبكة النبا المعلوماتية