نص الشبهة:
فإن قيل فما معنى قوله تعالى مخبرا عن إبراهيم عليه السلام:﴿ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ والسؤال عليكم في هذه الآية من وجهين: أحدهما أنه حكي عن نبيه النظر في النجوم، وعندكم أن الذي يفعله المنجمون من ذلك ضلال، والآخر قوله (ع) إني سقيم. وذلك كذب.
الجواب:
قيل له في هذه الآية وجوه (منها): أن إبراهيم (ع) كانت به علة تأتيه في أوقات مخصوصة، فلما دعوه إلى الخروج معهم نظر إلى النجوم ليعرف منها قرب نوبة علته فقال: إني سقيم.
وأراد أنه قد حضر وقت العلة وزمان نوبتها وشارف الدخول فيها.
وقد تسمي العرب المشارف للشئ باسم الداخل فيه، ولهذا يقولون فيمن أدنفه المرض وخيف عليه الموت هو ميت.
وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله:﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾1.
فإن قيل: فلو أراد ما ذكرتموه لقال: فنظر نظرة إلى النجوم ولم يقل في النجوم، لأن لفظة في لا تستعمل إلا فيمن ينظر كما ينظر المنجم.
قلنا ليس يمتنع أن يريد بقوله في النجوم، أنه نظر إليها لأن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض، قال الله تعالى:﴿ ... وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ... ﴾2وإنما أراد على جذوعها، وقال الشاعر:
إسهري ما سهرت أم حكيم *** واقعدي مرة لذاك وقومي
وافتحي الباب وانظري في النجوم *** كم علينا من قطع ليل بهيم
وإنما أراد انظري إليها لتعرفي الوقت.
(ومنها): أنه يجوز أن يكون الله تعالى أعلمه بالوحي أنه سيمتحنه بالمرض في وقت مستقبل، وإن لم يكن قد جرت بذلك المرض عادته، وجعل تعالى العلامة على ذلك ظاهرة له من قبل النجوم، إما بطلوع نجم على وجه مخصوص أو أفول نجم على وجه مخصوص أو اقترانه بآخر على وجه مخصوص. فلما نظر إبراهيم في الأمارة التي نصبت له من النجوم قال إني سقيم، تصديقا بما أخبره الله تعالى.
(ومنها): ما قال قوم في ذلك من أن كان آخر أمره الموت فهو سقيم، وهذا حسن، لأن تشبيه الحياة المفضية إلى الموت بالسقم من أحسن التشبيه.
(ومنها): أن يكون قوله إني سقيم القلب والرأي، حزنا من إصرار قومه على عبادة الأصنام. وهي لا تسمع ولا تبصر. ويكون قوله فنظر نظرة في النجوم على هذا المعنى، معناه أنه نظر وفكر في أنها محدثة مدبرة مصرفة مخلوقة. وعجب كيف يذهب على العقلاء ذلك من حالها حتى يعبدوها.
ويجوز أيضا أن يكون قوله تعالى: فنظر نظرة في النجوم، معناه أنه شخص ببصره إلى السماء كما يفعل المفكر المتأمل، فإنه ربما أطرق إلى الأرض وربما نظر إلى السماء استعانة في فكره.
وقد قيل إن النجوم هاهنا هي نجوم النبت، لأنه يقال لكل ما خرج من الأرض وغيرها وطلع، انه نجم ناجم، وقد نجم، ويقال للجميع نجوم، ويقولون نجم قرن الظبي، ونجم ثدي المرأة، وعلى هذا الوجه يكون إنما نظر في حال الفكر والاطراق إلى الأرض، فرأى ما نجم منها، وقيل أيضا إنه أراد بالنجوم ما نجم له من رأيه وظهر له بعد أن لم يكن ظاهرا.
وهذا وإن كان يحتمله الكلام، فالظاهر بخلافه، لأن الإطلاق من قول القائل: نجوم. لا يفهم من ظاهره إلا نجوم السماء دون نجوم الأرض، ونجوم الرأي، وليس كلما قيل فيه إنه نجم، وهو ناجم على الحقيقة، يصلح أن يقال فيه نجوم بالاطلاق والمرجع في هذا إلى تعارف أهل اللسان.
وقد قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني: إن معنى قوله تعالى: فنظر نظرة في النجوم. أراد في القمر والشمس، لما ظن أنهما آلهة في حال مهلة النظر على ما قصه الله تعالى في قصته في سورة الأنعام. ولما استدل بأفولهما وغروبهما على أنهما محدثان غير قديمين، ولا إلهين.
وأراد بقوله إني سقيم. إني لست على يقين من الأمر ولا شفاء من العلم، وقد يسمى الشك بأنه سقيم كما يسمى العلم بأنه شفاء. قال وإنما زال عنه هذا السقم عند زوال الشك وكمال المعرفة. وهذا الوجه يضعف من جهة أن القصة التي حكاها عن إبراهيم فيها هذا الكلام يشهد ظاهره بأنها غير القصة المذكورة في سورة الأنعام، وأن القصة مختلفة لأن الله تعالى قال:﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ 3فبين تعالى كما ترى أنه جاء ربه بقلب سليم، وإنما أراد أنه كان سليما من الشك وخالصا للمعرفة واليقين.
ثم ذكر أنه عاتب قومه على عبادة الأصنام، فقال ماذا تعبدون؟ وسمى عبادتهم بأنها إفك وباطل. ثم قال فما ظنكم برب العالمين ؟ وهذا قول عارف بالله تعالى مثبت له على صفاته غير ناظر ممثل ولا شاك، فكيف يجوز أن يكون قوله من بعد ذلك. فنظر نظرة في النجوم، أنه ظنها أربابا وآلهة وكيف يكون قوله إني سقيم؟ أي لست على يقين ولا شفاء، والمعتمد في تأويل ذلك ما قدمناه 4.
تنزيه الأنبياء عليهم السلام للسيد مرتضى علم الهدى،