بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[1]، توهم البعض حرمة الاستخارة بالسبحة وغيرها بناء على كونها مصداقاً (للإزلام)، المنهي عنه في الآية، و الأزلام هي الأقداح التي كانت يستقسم بها، و ربما كانت تطلق على السهام التي كانت يتفاءل بها عند ابتداء الأمور و العزيمة عليها كالخروج إلى سفر و نحوه لكن اللفظ قد وقع في أول السورة للمعنى الأول لوقوعه بين محرمات الأكل فيتأيد بذلك كون المراد به هاهنا هو ذلك.

إن قلت: الميسر بعمومه يشمل الأزلام بالمعنى الآخر الذي هو الاستقسام بالأقداح، و لا وجه لإيراد الخاص بعد العام من غير نكتة ظاهرة فالمتعين حمل اللفظ على سهام التفؤل و الخيرة التي كان العمل بها معروفا عندهم في الجاهلية قال الشاعر: فلئن جذيمة قتلت ساداتها. فنساؤها يضربن بالأزلام.

و هو كما روي أنهم كانوا يتخذون أخشابا ثلاثة رقيقة كالسهام أحدها مكتوب عليه "افعل" و الثاني مكتوب عليه لا تفعل و الثالث غفل لا كتابة عليه فيجعلها الضارب في خريطة معه و هي متشابه فإذا أراد الشروع في أمر يهمه كالسفر و غير ذلك أخرج واحدا منها فإن كان الذي عليه مكتوب "افعل" عزم عليه، و إن خرج الذي مكتوب عليه "لا تفعل" تركه، و إن خرج الثالث أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأولين، و سمي استقساما لأن فيه طلب ما قسم له من رزق أو خير آخر من الخيرات.
فالآية تدل على حرمته لأن فيه تعرضا لدعوى علم الغيب، و كذا كل ما يشاكله من الأعمال كأخذها الخيرة بالسبحة و نحوها.
قلت: قد عرفت أن الآية في أول السورة: "و أن تستقسموا بالأزلام" ظاهرة في الاستقسام بالأقداح الذي هو نحو من القمار لوقوعه في ضمن محرمات الأكل، و يتأيد به أن ذلك هو المراد بالأزلام في هذه الآية.
و لو سلم عدم تأيد هذه بتلك عاد إلى لفظ مشترك لا قرينة عليه من الكلام تبين المراد فيتوقف على ما يشرحه من السنة، و قد وردت عدة أخبار من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في جواز الأخذ بالخيرة من السبحة و غيرها عند الحيرة.
و حقيقته أن الإنسان إذا أراد أن يقدم على أمر كان له أن يعرف وجه المصلحة فيه بما أغرز الله فيه من موهبة الفكر أو بالاستشارة ممن له صلاحية المعرفة بالصواب و الخطإ، و إن لم يهده ذلك إلى معرفة وجه الصواب، و تردد متحيرا كان له أن يعين ما ينبغي أن يختاره بنوع من التوجه إلى ربه.
و ليس في اختيار ما يختاره الإنسان بهذا النوع من الاستخارة دعوى علم الغيب و لا تعرض لما يختص بالله سبحانه من شئون الألوهية، و لا شرك بسبب تشريك غير الله تعالى إياه في تدبير الأمور و لا أي محذور ديني آخر إذ لا شأن لهذا العمل إلا تعين الفعل أو الترك من غير إيجاب و لا تحريم و لا أي حكم تكليفي آخر، و لا كشف عما وراء حجب الغيب من خير أو شر إلا أن خير المستخير في أن يعمل أو يترك فيخرج عن الحيرة و التذبذب.
و أما ما يستقبل الفعل أو الترك من الحوادث فربما كان فيه خير و ربما كان فيه شر على حد ما لو فعله أو تركه عن فكر أو استشارة، فهو كالتفكر و الاستشارة طريق لقطع الحيرة و التردد في مقام العمل، و يترتب على الفعل الموافق له ما كان يترتب عليه لو فعله عن فكر أو مشورة.



[1] المائدة: 90.