إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَـلَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيب فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الْئَـنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيما´
شرائط قبول التوبة:
في الآية السابقة بيّن الله تعالى بصراحة مسألة سقوط العقوبة عن مرتكبي الفاحشة ومعصية الزّنا إِذا تابوا وأصلحوا، ثمّ عقب ذلك بقوله: (إِنّ الله كان تواباً رحيماً) مشيراً بذلك إِلى قبول التوبة من جانب الله أيضاً.وفي هذه الآية يشير سبحانه إِلى شرائط قبول التوبة إذ يقول: (إنّما التوبة على الله للذين يعملون السّوء بجهالة).وهنا يجب أن نرى ماذا تعني "الجهالة" هل هي الجهل وعدم المعرفة بالمعصية، أم هي عدم المعرفة بالآثار السيئة والعواقب المؤلمة للذنوب والمعاصي؟إِنّ كلمة الجهل وما يشتق منها وإِن كانت لها معان مختلفة، ولكن يستفاد من القرائن أنّ المراد منها في الآية المبحوثة هنا هو طغيان الغرائز، وسيطرة الأهواء الجامحة وغلبتها على صوت العقل والإِيمان،
وفي هذه الصورة وإِن لم يفقد المرء العلم بالمعصية، إِلاّ أنّه حينما يقع تحت تأثير الغرائز الجامحة، ينتفي دور العلم يويفقد مفعوله وأثره، وفقدان العلم لأثره مساو للجهل عم.وأمّا إِذا لم يكن الذنب عن جهل وغفلة، بل كان عن إِنكار لحكم الله سبحانه وعناد وعداء، فإِن إرتكاب مثل هذا الذنب ينبىء عن الكفر، ولهذا لا تقبل التوبة منه، إِلاّ أن يتخلّى عن عناده وعدائه وإِنكاره وتمرده.وفي الحقيقة إِنّ هذه الآية تبيّن نفس الحقيقة التي يذكرها الإِمام السجاد(عليه السلام)في دعاء أبي حمزة ببيان أوضح إِذ يقول: "إِلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخف، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت وسولت لي نفسي وغلبني هواي".ثمّ إنّ الله سبحانه يشير إِلى شرط آخر من شروط قبول التوبة إِذ يقول: (ثمّ يتوبون من قريب).
هذا وقد وقع كلام بين المفسّرين في المراد من "قريب" فقد ذهب كثيرون إِلى أنّ معناه التوبة قبل أن تظهر آثار الموت وطلائعه، ويستشهدون لهذا الرأي بقوله تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إِذا حضر أحدهم الموت)الذي جاء في مطلع الآية اللاحقة، ويشير إِلى أن التوبة لا تقبل إِذ ظهرت علامات الموت.ولعل استعمال لفظة "قريب" إِنّما هو لأجل أن نهاية الحياة الدنيوية مهما بعدت فهي قريبة.ولكن بعض المفسرين ذهب إِلى تفسير لفظة "من قريب" بالزمان القريب من وقت حصول المعصية، فيكون المعنى أن يتوبوا فوراً، ويندموا على ما فعلوهبسرعة، ويتوبوا إِلى الله، لأنّ التوبة الكاملة هي التي تغسل آثار الجريمة وتزيل رواسبها من الجسم والروح بشكل مطلق حتى لا يبقى أي أثر منه في القلب، ولا يمكن هذا إِلاّ إِذا تاب الإِنسان وندم قبل أن تتجذر المعصية في كيانها، وتتعمق آثارها في وجوده فتكون له طبيعة ثانية، إِذ في غير هذه الصورة ستبقى آثار المعصية في زوايا الروح الإِنسانية، وتعشعش في خلايا قلبه، فالتوبة الكاملة - إِذن -
هي التي تتحقق عقيب وقوع الذنب في أقرب وقت، ولفظة "قريب" أنسب مع هذا المعنى من حيث اللغة والفهم العرفي.صحيح أنّ التوبة التي تقع بعد زمن طويل من إرتكاب المعصية تقبل أيضاً، إِلاّ أنّها ليست التوبة الكاملة، ولعل التعبير بجملة "على الله" (أي على الله قبولها) كذلك إِشارة إِلى هذا المعنى، لأن مثل هذا التعبير لم يرد في غير هذا المورد من القرآن الكريم، ومفهومه هو أن قبول التوبة القريبة من زمن المعصية حق من حقوق العباد، في حين ان قبول التوبة البعيدة عن زمن المعصية تفضل من الله وليس حقاً.ثمّ أنّه سبحانه - بعد ذكر شرائط التوبة -
يقول: (فأُولئك يتوب عليهم وكان الله عليماً حكيماً) مشيراً بذلك إِلى نتيجة التوبة التي توفرت فيها الشروط المذكورة.ثمّ يقول تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إِذا حضر أحدهم الموت قال إِنّي تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كافر...) وهو إِشارة إِلى من لا تقبل توبته.وعلّة عدم قبول هذا النوع من التوبة واضحة، لأن الإِنسان عند الإِحتضار في رحاب الموت تنكشف له الأستار، فيرى ما لم يكن يراه من قبل، فهو يرى بعد انكشاف الغطاء عن عينيه بعض الحقائق المتعلقة بالعالم الآخر، ويشاهد بعينيه نتائج أعماله التي إِرتكبها في هذه الدنيا، وتتخذ القضايا التي كان يسمع بها صفة محسوسة، وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يندم كل مجرم على جرمه وأفعاله السيئة، ويفرّ منها فرار الذي يرى إقتراب ألسنة اللهب من جسمه.ومن المسلم أن التكليف الإِلهي والإِختيار الرباني للبشر لايقوم على أساس هذا النوع من المشاهدات والمكاشفات، بل يقوم على أساس الإِيمان بالغيب، والمشاهدة بعيني العقل والقلب.ولهذا نقرأ في الكتاب العزيز أنّ أبواب التوبة كانت تغلق في وجه بعض الأقوام العاصية عند ظهور طلائع العذاب الدنيوي والنقمة العاجلة، وللمثال نقرأ قول الله سبحانه عن فرعون إِذ يقول: (حتى إِذا أدركه الغرق قال آمنت أنّه لا إِله إِلاّ الذي آمنت به بنو إِسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين)(2).
تفسير الامثل ج3
شرائط قبول التوبة:
في الآية السابقة بيّن الله تعالى بصراحة مسألة سقوط العقوبة عن مرتكبي الفاحشة ومعصية الزّنا إِذا تابوا وأصلحوا، ثمّ عقب ذلك بقوله: (إِنّ الله كان تواباً رحيماً) مشيراً بذلك إِلى قبول التوبة من جانب الله أيضاً.وفي هذه الآية يشير سبحانه إِلى شرائط قبول التوبة إذ يقول: (إنّما التوبة على الله للذين يعملون السّوء بجهالة).وهنا يجب أن نرى ماذا تعني "الجهالة" هل هي الجهل وعدم المعرفة بالمعصية، أم هي عدم المعرفة بالآثار السيئة والعواقب المؤلمة للذنوب والمعاصي؟إِنّ كلمة الجهل وما يشتق منها وإِن كانت لها معان مختلفة، ولكن يستفاد من القرائن أنّ المراد منها في الآية المبحوثة هنا هو طغيان الغرائز، وسيطرة الأهواء الجامحة وغلبتها على صوت العقل والإِيمان،
وفي هذه الصورة وإِن لم يفقد المرء العلم بالمعصية، إِلاّ أنّه حينما يقع تحت تأثير الغرائز الجامحة، ينتفي دور العلم يويفقد مفعوله وأثره، وفقدان العلم لأثره مساو للجهل عم.وأمّا إِذا لم يكن الذنب عن جهل وغفلة، بل كان عن إِنكار لحكم الله سبحانه وعناد وعداء، فإِن إرتكاب مثل هذا الذنب ينبىء عن الكفر، ولهذا لا تقبل التوبة منه، إِلاّ أن يتخلّى عن عناده وعدائه وإِنكاره وتمرده.وفي الحقيقة إِنّ هذه الآية تبيّن نفس الحقيقة التي يذكرها الإِمام السجاد(عليه السلام)في دعاء أبي حمزة ببيان أوضح إِذ يقول: "إِلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخف، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت وسولت لي نفسي وغلبني هواي".ثمّ إنّ الله سبحانه يشير إِلى شرط آخر من شروط قبول التوبة إِذ يقول: (ثمّ يتوبون من قريب).
هذا وقد وقع كلام بين المفسّرين في المراد من "قريب" فقد ذهب كثيرون إِلى أنّ معناه التوبة قبل أن تظهر آثار الموت وطلائعه، ويستشهدون لهذا الرأي بقوله تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إِذا حضر أحدهم الموت)الذي جاء في مطلع الآية اللاحقة، ويشير إِلى أن التوبة لا تقبل إِذ ظهرت علامات الموت.ولعل استعمال لفظة "قريب" إِنّما هو لأجل أن نهاية الحياة الدنيوية مهما بعدت فهي قريبة.ولكن بعض المفسرين ذهب إِلى تفسير لفظة "من قريب" بالزمان القريب من وقت حصول المعصية، فيكون المعنى أن يتوبوا فوراً، ويندموا على ما فعلوهبسرعة، ويتوبوا إِلى الله، لأنّ التوبة الكاملة هي التي تغسل آثار الجريمة وتزيل رواسبها من الجسم والروح بشكل مطلق حتى لا يبقى أي أثر منه في القلب، ولا يمكن هذا إِلاّ إِذا تاب الإِنسان وندم قبل أن تتجذر المعصية في كيانها، وتتعمق آثارها في وجوده فتكون له طبيعة ثانية، إِذ في غير هذه الصورة ستبقى آثار المعصية في زوايا الروح الإِنسانية، وتعشعش في خلايا قلبه، فالتوبة الكاملة - إِذن -
هي التي تتحقق عقيب وقوع الذنب في أقرب وقت، ولفظة "قريب" أنسب مع هذا المعنى من حيث اللغة والفهم العرفي.صحيح أنّ التوبة التي تقع بعد زمن طويل من إرتكاب المعصية تقبل أيضاً، إِلاّ أنّها ليست التوبة الكاملة، ولعل التعبير بجملة "على الله" (أي على الله قبولها) كذلك إِشارة إِلى هذا المعنى، لأن مثل هذا التعبير لم يرد في غير هذا المورد من القرآن الكريم، ومفهومه هو أن قبول التوبة القريبة من زمن المعصية حق من حقوق العباد، في حين ان قبول التوبة البعيدة عن زمن المعصية تفضل من الله وليس حقاً.ثمّ أنّه سبحانه - بعد ذكر شرائط التوبة -
يقول: (فأُولئك يتوب عليهم وكان الله عليماً حكيماً) مشيراً بذلك إِلى نتيجة التوبة التي توفرت فيها الشروط المذكورة.ثمّ يقول تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إِذا حضر أحدهم الموت قال إِنّي تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كافر...) وهو إِشارة إِلى من لا تقبل توبته.وعلّة عدم قبول هذا النوع من التوبة واضحة، لأن الإِنسان عند الإِحتضار في رحاب الموت تنكشف له الأستار، فيرى ما لم يكن يراه من قبل، فهو يرى بعد انكشاف الغطاء عن عينيه بعض الحقائق المتعلقة بالعالم الآخر، ويشاهد بعينيه نتائج أعماله التي إِرتكبها في هذه الدنيا، وتتخذ القضايا التي كان يسمع بها صفة محسوسة، وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يندم كل مجرم على جرمه وأفعاله السيئة، ويفرّ منها فرار الذي يرى إقتراب ألسنة اللهب من جسمه.ومن المسلم أن التكليف الإِلهي والإِختيار الرباني للبشر لايقوم على أساس هذا النوع من المشاهدات والمكاشفات، بل يقوم على أساس الإِيمان بالغيب، والمشاهدة بعيني العقل والقلب.ولهذا نقرأ في الكتاب العزيز أنّ أبواب التوبة كانت تغلق في وجه بعض الأقوام العاصية عند ظهور طلائع العذاب الدنيوي والنقمة العاجلة، وللمثال نقرأ قول الله سبحانه عن فرعون إِذ يقول: (حتى إِذا أدركه الغرق قال آمنت أنّه لا إِله إِلاّ الذي آمنت به بنو إِسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين)(2).
تفسير الامثل ج3