السؤال: لِمَ لم يذكر وليّ الأمر في آخر الآية؟((يَا أَيّهَا الَّذينَ آمَنوا أَطيعوا اللّهَ وَأَطيعوا الرَّسولَ وَأولي الأَمر منكم فَإن تَنَازَعتم في شَيء فَردّوه إلَى اللّه وَالرَّسول إن كنتم تؤمنونَ باللّه وَاليَوم الآخر ذَلكَ خَيرٌ وَأَحسَن تَأويلاً... )) (النساء:59)
في الآية الكريمة أمر الزامي بإطاعة أُولي الأمر, وطبعاً المراد بـ(أُولي الأمر) هم: الأئمّة صلوات الله تعالى عليهم, إلاّ أنّه في منتصف الآية (( فإن تَنَازَعتم في شَيء فردّوه إلَى اللّه وَالرَّسول إن كنتم تؤمنونَ باللّه وَاليَوم الآخر ذَلكَ خَيرٌ وَأَحسَن تَأويلاً )), لا نجد إلحاق أُولي الأمر في التنازع. فما تفسير ذلك؟
الجواب:
يقول صاحب (الميزان في ج 4 / ص 387) :
يقول صاحب (تفسير الميزان):
((قوله تعالى: (( ياأَيّهَا الَّذينَ آمَنوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم )), لمّا فرغ من الندب إلى عبادة الله وحده لا شريك له وبثّ الإحسان بين طبقات المؤمنين، وذمّ من يعيب هذا الطريق المحمود، أو صدّ عنه صدوداً، عاد إلى أصل المقصود بلسان آخر يتفرّع عليه فروع أُخر، بها يستحكم أساس المجتمع الإسلامي وهو التحضيض والترغيب في أخذهم بالائتلاف والاتّفاق، ورفع كلّ تنازع واقع بالردّ إلى الله ورسوله.
ولا ينبغي أن يُرتاب في أنّ قوله: (( أَطيعوا اللَّهَ وَأَطيعوا الرَّسولَ )) جملة سيقت تمهيداً وتوطئة للأمر بردّ الأمر إلى الله ورسوله عند ظهور التنازع، وإن كان مضمون الجملة أساس جميع الشرائع والأحكام الإلهية.
فإن ذلك ظاهر تفريع قوله: (( فَإن تَنَازَعتم في شَيء فَردّوه إلَى اللّه وَالرَّسول ))، ثمّ العود بعد العود إلى هذا المعنى بقوله: (( أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزعُمُونَ... )) (النساء:60)، وقوله: (( وَمَا أَرسَلنَا من رَسول إلَّا ليطَاعَ بإذن اللَّه... )) (النساء:64)، وقوله: (( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمِنُونَ حَتَّىظ° يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم )) (النساء:65).
ولا ينبغي أن يُرتاب في أنّ الله سبحانه لا يريد بإطاعته إلاّ إطاعته في ما يوحيه إلينا من طريق رسوله من المعارف والشرائع، وأمّا رسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فله حيثيّتان:
إحداهما: حيثية التشريع بما يوحيه إليه ربّه من غير كتاب، وهو ما يبيّنه للناس من تفاصيل ما يشتمل على إجماله الكتاب وما يتعلّق ويرتبط بها، كما قال تعالى: (( وَأَنزَلنَا إلَيكَ الذّكرَ لتبَيّنَ للنَّاس مَا نزّلَ إلَيهم )) (النحل:44).
والثانية: ما يراه من صواب الرأي، وهو الذي يرتبط بولايته الحكومة والقضاء، قال تعالى: (( لتحكم بَينَ النَّاس بمَا أَرَاكَ اللَّه )) (النساء:105), وهذا هو الرأي الذي كان يحكم به على ظواهر قوانين القضاء بين الناس، وهو الذي كان(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يحكم به في عزائم الأمور، وكان الله سبحانه أمره في اتّخاذ الرأي بالمشاورة فقال: (( وَشَاورهم في الأَمر فإذَا عَزَمتَ فتوَكَّل عَلَى اللَّه )) (آل عمران:159), فأشركهم به في المشاورة ووحّده في العزم.
إذا عرفت هذا علمت أنّ لإطاعة الرسول معنى ولإطاعة الله سبحانه معنى آخر، وإن كان إطاعة الرسول إطاعة لله بالحقيقة؛ لأنّ الله هو المشرّع لوجوب إطاعته، كما قال: (( وَمَا أَرسَلنَا من رَسول إلَّا ليطَاعَ بإذن اللَّه )) (النساء:64), فعلى الناس أن يطيعوا الرسول في ما يبيّنه بالوحي، وفيما يراه من الرأي.
وهذا المعنى - والله أعلم - هو الموجب لتكرار الأمر بالطاعة في قوله: (( أَطيعوا اللَّهَ وَأَطيعوا الرَّسولَ ))، لا ما ذكره المفسّرون: أنّ التكرار للتأكيد؛ فإنّ القصد لو كان متعلّقاً بالتأكيد كان ترك التكرار، كما لو قيل: (وأطيعوا الله والرسول)، أدلّ عليه وأقرب منه؛ فإنّه كان يفيد: أنّ إطاعة الرسول عين إطاعة الله سبحانه وأنّ الإطاعتين واحدة، وما كلّ تكرار يفيد التأكيد.
وأمّا أولوا الأمر فهم - كائنين من كانوا - لا نصيب لهم من الوحي، وإنّما شأنهم الرأي الذي يستصوبونه، فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم وقولهم، ولذلك لمّا ذكر وجوب الردّ والتسليم عند المشاجرة لم يذكرهم، بل خصّ الله والرسول، فقال: (( فَإن تَنَازَعتم في شَيء فَردّوه إلَى اللّه وَالرَّسول إن كنتم تؤمنونَ باللّه وَاليَوم الآخر ))، وذلك أنّ المخاطبين بهذا الردّ هم المؤمنين المخاطبون بقوله في صدر الآية: (( يَا أَيّهَا الَّذينَ آمَنوا ))، والتنازع تنازعهم بلا ريب، ولا يجوز أن يفرض تنازعهم مع أُولي الأمر مع افتراض طاعتهم، بل هذا التنازع هو ما يقع بين المؤمنين أنفسهم، وليس في أمر الرأي، بل من حيث حكم الله في القضية المتنازع فيها، بقرينة الآيات التالية الذامّة لمن يرجع إلى حكم الطاغوت دون حكم الله ورسوله، وهذا الحكم يجب الرجوع فيه إلى أحكام الدين المبيّنة المقرّرة في الكتاب والسُنّة، والكتاب والسُنّة حجّتان قاطعتان في الأمر لمن يسعه فهم الحكم منهما، وقول أُولي الأمر في أنّ الكتاب والسُنّة يحكمان بكذا أيضاً حجّة قاطعة؛ فإنّ الآية تقرّر افتراض الطاعة من غير أيّ قيد أو شرط، والجميع راجع بالأخرة إلى الكتاب والسُنّة.
ومن هنا يظهر أنّ ليس لأُولي الأمر هؤلاء - كائنين من كانوا - أن يضعوا حكماً جديداً، ولا أن ينسخوا حكماً ثابتاً في الكتاب والسُنّة، وإلاّ لم يكن لوجوب إرجاع موارد التنازع إلى الكتاب والسُنّة، والردّ إلى الله والرسول معنى على ما يدلّ عليه قوله: (( وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ وَلَا مُؤمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم وَمَن يَعصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً )) (الأحزاب:36)، فقضاء الله هو: التشريع، وقضاء رسوله: إمّا ذلك، وإمّا الأعم، وإنّما الذي لهم أن يروا رأيهم في موارد نفوذ الولاية، وأن يكشفوا عن حكم الله ورسوله في القضايا والموضوعات العامّة.
وبالجملة لمّا لم يكن لأُولي الأمر هؤلاء خيرة في الشرائع، ولا عندهم إلاّ ما لله ورسوله من الحكم أعني الكتاب والسُنّة، لم يذكرهم الله سبحانه ثانياً عند ذكر الردّ بقوله: (( فَإن تَنَازَعتم في شَيء فَردّوه إلَى اللّه وَالرَّسول ))، فلله تعالى إطاعة واحدة، وللرسول وأُولي الأمر إطاعة واحدة، ولذلك قال: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم )).
ولا ينبغي أن يُرتاب في أنّ هذه الإطاعة المأمور بها في قوله: (( أَطيعوا اللَّهَ وَأَطيعوا الرَّسولَ )) إطاعة مطلقة غير مشروطة بشرط، ولا مقيّدة بقيد، وهو الدليل على أنّ الرسول لا يأمر بشيء ولا ينهى عن شيء يخالف حكم الله في الواقعة، وإلاّ كان فرض طاعته تناقضاً منه تعالى وتقدّس، ولا يتم ذلك إلاّ بعصمة فيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وهذا الكلام بعينه جارٍ في أُولي الأمر، غير أنّ وجود قوّة العصمة في الرسول، لمّا قامت عليه الحجج من جهة العقل والنقل في حدّ نفسه من غير جهة هذه الآية، دون أُولي الأمر ظاهراً، أمكن أن يتوهّم متوهّم أنّ أُولي الأمر هؤلاء لا يجب فيهم العصمة، ولا يتوقّف عليها الآية في استقامة معناها.
بيان ذلك: إنّ الذي تقرّره الآية: حكم مجعول لمصلحة الأُمّة يحفظ به مجتمع المسلمين من تسرّب الخلاف، والتشتت فيهم، وشق عصاهم، فلا يزيد على الولاية المعهودة بين الأمّم والمجتمعات، تعطي للواحد من الإنسان افتراض الطاعة ونفوذ الكلمة، وهم يعلمون أنّه ربّما يعصي، وربّما يغلط في حكمه، لكن إذا علم بمخالفته القانون في حكمه لا يطاع فيه، وينبّه في ما أخطأ، وفيما يحتمل خطأه ينفذ حكمه، وإن كان مخطئاً في الواقع، ولا يبالي بخطأه؛ فإنّ مصلحة حفظ وحدة المجتمع، والتحرّز من تشتّت الكلمة مصلحة يتدارك بها أمثال هذه الأغلاط والاشتباهات.
وهذا حال أُولي الأمر الواقع في الآية في افتراض طاعتهم؛ فرض الله طاعتهم على المؤمنين، فإن أمروا بما يخالف الكتاب والسُنّة، فلا يجوز ذلك منهم، ولا ينفذ حكمهم؛ لقول رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وقد روى هذا المعنى الفريقان، وبه يقيّد إطلاق الآية.
وأمّا الخطأ والغلط، فإن علم به ردّ إلى الحق، وهو حكم الكتاب والسُنّة، وإن احتمل خطأه نفذ فيه حكمه، كما في ما علم عدم خطأه، ولا بأس بوجوب القبول وافتراض الطاعة في ما يخالف الواقع هذا النوع؛ لأنّ مصلحة حفظ الوحدة في الأُمّة وبقاء السؤدد والأبّهة تتدارك بها هذه المخالفة، ويعود إلى مثل ما تقرّر في أُصول الفقه من حجّية الطرق الظاهرية مع بقاء الأحكام الواقعية على حالها، وعند مخالفة مؤدّاها للواقع تتدارك المفسدة اللازمة بمصلحة الطريق.
وبالجملة، طاعة أُولي الأمر مفترضة وإن كانوا غير معصومين يجوز عليهم الفسق والخطأ، فإن فسقوا فلا طاعة لهم، وإن أخطأوا رُدّوا إلى الكتاب والسُنّة إن علم منهم ذلك، ونفذ حكمهم في ما لم يعلم ذلك، ولا بأس بإنفاذ ما يخالف حكم الله في الواقع دون الظاهر؛ رعاية لمصلحة الإسلام والمسلمين، وحفظاً لوحدة الكلمة.
وأنت بالتأمّل في ما قدّمناه في البيان تعرف سقوط هذه الشبهة من أصله، وذلك أنّ هذا التقريب من الممكن أن نساعده في تقييد إطلاق الآية في صورة الفسق بما ذكر من قول النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وما يؤدّي هذا المعنى من الآيات القرآنية، كقوله: (( إِنَّ اللَّهَ لَا يَأمُرُ بِالفَحشَاءِ )) (الأعراف:28)، وما في هذا المعنى من الآيات.
وكذا من الممكن بل الواقع أن يجعل شرعاً نظير هذه الحجّية الظاهرية المذكورة، كفرض طاعة أُمراء السرايا الذين كان ينصّبهم عليهم رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكذا الحكّام الذين كان يولّيهم على البلاد كمكّة واليمن، أو يخلّفهم بالمدينة إذا خرج إلى غزاة، وكحجّية قول المجتهد على مقلّده، وهكذا، لكنّه لا يوجب تقيّد الآية، فكون مسألة من المسائل صحيحة في نفسها أمر، وكونها مدلولاً عليها بظاهر آية قرآنية أمر آخر.
فالآية تدلّ على افتراض طاعة أُولي الأمر هؤلاء، ولم تقيّده بقيد ولا شرط، وليس في الآية القرآنية ما يقيّد الآية في مدلولها حتّى يعود معنى قوله: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم ))، إلى مثل قولنا: وأطيعوا أُولي الأمر منكم في ما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا بخطأهم، فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم، وإن علمتم خطأهم فقوّموهم بالردّ إلى الكتاب والسُنّة، فما هذا معنى قوله: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم )).
مع أنّ الله سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيّد في ما هو دون هذه الطاعة المفترضة، كقوله في الوالدين: (( وَوَصَّينَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيهِ حُسنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشرِكَ بِي مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ فَلَا تُطِعهُمَا... )) (العنكبوت:8)، فما باله لم يظهر شيئاً من هذه القيود في آية تشتمل على أسّ أساس الدين، وإليها تنتهي عامّة أعراق السعادة الإنسانية.
على أنّ الآية جمع فيها بين الرسول وأُولي الأمر، وذكرها لهما معاً طاعة واحدة فقال: (( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم )), ولا يجوز على الرسول أن يأمر بمعصية أو يغلط في حكم، فلو جاز شيء من ذلك على أُولي الأمر لم يسع إلاّ أن يذكر القيد الوارد عليهم، فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير أيّ تقييد، ولازمه اعتبار العصمة في جانب أُولي الأمر، كما اعتبر في جانب رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من غير فرق ))(1).
ثمّ يقول في تقرير اشكال من بعضهم وجوابه: (( إنّ القائلين بالإمام المعصوم يقولون: إنّ فائدة اتّباعه إنقاذ الأُمّة من ظلمة الخلاف، وضرر التنازع والتفرّق، وظاهر الآية يبيّن حكم التنازع مع وجود أُولي الأمر، وطاعة الأُمّة لهم كأن يختلف أولو الأمر في حكم بعض النوازل والوقائع، والخلاف والتنازع مع وجود الإمام المعصوم غير جائز عند القائلين به؛ لأنّه عندهم مثل الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلا يكون لهذه الزيادة فائدة على رأيهم.
وفيه: أنّ جوابه ظاهر ممّا تقدّم أيضاً؛ فإنّ التنازع المذكور في الآية إنّما هو تنازع المؤمنين في أحكام الكتاب والسُنّة دون أحكام الولاية الصادرة عن الإمام في الوقائع والحوادث، وقد تقدّم أن لا حكم إلاّ لله ورسوله، فإن تمكّن المتنازعون من فهم الحكم من الكتاب والسُنّة كان لهم أن يستنبطوه منهما، أو يسألوا الإمام عنه، وهو معصوم في فهمه، وإن لم يتمكّنوا من ذلك كان عليهم أن يسألوا عنه الإمام، وذلك نظير ما كان لمن يعاصر رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كانوا يتفقّهون في ما يتمكنون منه أو يسألون عنه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويسألونه في ما لا يتمكّنون من فهمه بالاستنباط.
فحكم أُولي الأمر في الطاعة حكم الرسول على ما يدلّ عليه الآية، وحكم التنازع هو الذي ذكره في الآية سواء في ذلك حضور الرسول، كما يدلّ عليه الآيات التالية، وغيبته كما يدلّ عليه الأمر في الآية بإطلاقه؛ فالردّ إلى الله والرسول المذكور في الآية مختصّ بصورة تنازع المؤمنين كما يدلّ عليه قوله: (( تَنَازَعتم ))، ولم يقل: فإن تنازع أولو الأمر، ولا قال: فإن تنازعوا، والردّ إلى الله والرسول عند حضور الرسول هو سؤال الرسول عن حكم المسألة أو استنباطه من الكتاب والسُنّة للمتمكّن منه، وعند غيبته أن يسأل الإمام عنه أو الاستنباط، كما تقدّم بيانه، فلا يكون قوله: (( فَإن تَنَازَعتم في شَيء... )) (الخ) زائداً من الكلام مستغنى عنه كما ادّعاه المستشكل.
فقد تبيّن من جميع ما تقدّم: أنّ المراد بأُولي الأمر في الآية رجال من الأُمّة حكم الواحد منهم في العصمة وافتراض الطاعة حكم الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهذا مع ذلك لا ينافي عموم مفهوم لفظ أُولي الأمر بحسب اللغة، وإرادته من اللفظ؛ فإن قصد مفهوم من المفاهيم اللفظ شيء وإرادة المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم شيء آخر، وذلك كما أنّ مفهوم الرسول معنى عامّ كلّي، وهو المراد من اللفظ في الآية لكن المصداق المقصود هو الرسول محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
قوله تعالى: (( فإن تَنَازَعتم في شَيء فردّوه إلَى اللَّه وَالرَّسول )), إلى آخر الآية، تفريع على الحصر المستفاد من المورد؛ فإنّ قوله: (( أَطِيعُوا اللَّهَ... )) حيث أوجب طاعة الله ورسوله، وهذه الطاعة إنّما هي في المواد الدينية التي تتكفّل رفع كلّ اختلاف مفروض، وكلّ حاجة ممكنة لم يبق مورد تمسّ الحاجة الرجوع إلى غير الله ورسوله، وكان معنى الكلام: أطيعوا الله، ولا تطيعوا الطاغوت، وهو ما ذكرناه من الحصر.
وتوجّه الخطاب إلى المؤمنين كاشف عن أنّ المراد بالتنازع هو تنازعهم بينهم، لا تنازع مفروض بينهم وبين أُولي الأمر، ولا تنازع مفروض بين أُولي الأمر؛ فإنّ الأوّل - أعني: التنازع بينهم وبين أُولي الأمر - لا يلائم افتراض طاعة أُولي الأمر عليهم, وكذا الثاني - أعني: بين أُولي الأمر - فإنّ افتراض الطاعة لا يلائم التنازع الذي أحد طرفيه على الباطل، على أنّه لا يناسب كون الخطاب متوجهاً إلى المؤمنين في قوله: (( فإن تَنَازَعتم في شَيء فردّوه )).
ولفظ (الشيء) وإن كان يعمّ كلّ حكم وأمر من الله ورسوله وأُولي الأمر كائناً ما كان، لكنّ قوله بعد ذلك: (( فردّوه إلَى اللَّه وَالرَّسول )) يدلّ على أنّ المفروض هو النزاع في شيء ليس لأُولي الأمر الاستقلال والأستبداد فيه من أوامرهم في دائرة ولايتهم، كأمرهم بنفر أو حرب أو صلح أو غير ذلك؛ إذ لا معنى لإيجاب الردّ إلى الله والرسول في هذه الموارد مع فرض طاعتهم فيها.
فالآية تدلّ على وجوب الردّ في نفس الأحكام الدينية التي ليس لأحد أن يحكم فيها بإنفاذ أو نسخ إلاّ الله ورسوله، والآية كالصريح في أنّه ليس لأحد أن يتصرّف في حكم ديني شرعه الله ورسوله، وأولوا الأمر ومن دونهم في ذلك سواء ))(2).
(1) الميزان في تفسير القرآن 4: 387 - 391.
(2) الميزان في تفسير القرآن 4: 400 - 402.
في الآية الكريمة أمر الزامي بإطاعة أُولي الأمر, وطبعاً المراد بـ(أُولي الأمر) هم: الأئمّة صلوات الله تعالى عليهم, إلاّ أنّه في منتصف الآية (( فإن تَنَازَعتم في شَيء فردّوه إلَى اللّه وَالرَّسول إن كنتم تؤمنونَ باللّه وَاليَوم الآخر ذَلكَ خَيرٌ وَأَحسَن تَأويلاً )), لا نجد إلحاق أُولي الأمر في التنازع. فما تفسير ذلك؟
الجواب:
يقول صاحب (الميزان في ج 4 / ص 387) :
يقول صاحب (تفسير الميزان):
((قوله تعالى: (( ياأَيّهَا الَّذينَ آمَنوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم )), لمّا فرغ من الندب إلى عبادة الله وحده لا شريك له وبثّ الإحسان بين طبقات المؤمنين، وذمّ من يعيب هذا الطريق المحمود، أو صدّ عنه صدوداً، عاد إلى أصل المقصود بلسان آخر يتفرّع عليه فروع أُخر، بها يستحكم أساس المجتمع الإسلامي وهو التحضيض والترغيب في أخذهم بالائتلاف والاتّفاق، ورفع كلّ تنازع واقع بالردّ إلى الله ورسوله.
ولا ينبغي أن يُرتاب في أنّ قوله: (( أَطيعوا اللَّهَ وَأَطيعوا الرَّسولَ )) جملة سيقت تمهيداً وتوطئة للأمر بردّ الأمر إلى الله ورسوله عند ظهور التنازع، وإن كان مضمون الجملة أساس جميع الشرائع والأحكام الإلهية.
فإن ذلك ظاهر تفريع قوله: (( فَإن تَنَازَعتم في شَيء فَردّوه إلَى اللّه وَالرَّسول ))، ثمّ العود بعد العود إلى هذا المعنى بقوله: (( أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزعُمُونَ... )) (النساء:60)، وقوله: (( وَمَا أَرسَلنَا من رَسول إلَّا ليطَاعَ بإذن اللَّه... )) (النساء:64)، وقوله: (( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمِنُونَ حَتَّىظ° يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم )) (النساء:65).
ولا ينبغي أن يُرتاب في أنّ الله سبحانه لا يريد بإطاعته إلاّ إطاعته في ما يوحيه إلينا من طريق رسوله من المعارف والشرائع، وأمّا رسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فله حيثيّتان:
إحداهما: حيثية التشريع بما يوحيه إليه ربّه من غير كتاب، وهو ما يبيّنه للناس من تفاصيل ما يشتمل على إجماله الكتاب وما يتعلّق ويرتبط بها، كما قال تعالى: (( وَأَنزَلنَا إلَيكَ الذّكرَ لتبَيّنَ للنَّاس مَا نزّلَ إلَيهم )) (النحل:44).
والثانية: ما يراه من صواب الرأي، وهو الذي يرتبط بولايته الحكومة والقضاء، قال تعالى: (( لتحكم بَينَ النَّاس بمَا أَرَاكَ اللَّه )) (النساء:105), وهذا هو الرأي الذي كان يحكم به على ظواهر قوانين القضاء بين الناس، وهو الذي كان(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يحكم به في عزائم الأمور، وكان الله سبحانه أمره في اتّخاذ الرأي بالمشاورة فقال: (( وَشَاورهم في الأَمر فإذَا عَزَمتَ فتوَكَّل عَلَى اللَّه )) (آل عمران:159), فأشركهم به في المشاورة ووحّده في العزم.
إذا عرفت هذا علمت أنّ لإطاعة الرسول معنى ولإطاعة الله سبحانه معنى آخر، وإن كان إطاعة الرسول إطاعة لله بالحقيقة؛ لأنّ الله هو المشرّع لوجوب إطاعته، كما قال: (( وَمَا أَرسَلنَا من رَسول إلَّا ليطَاعَ بإذن اللَّه )) (النساء:64), فعلى الناس أن يطيعوا الرسول في ما يبيّنه بالوحي، وفيما يراه من الرأي.
وهذا المعنى - والله أعلم - هو الموجب لتكرار الأمر بالطاعة في قوله: (( أَطيعوا اللَّهَ وَأَطيعوا الرَّسولَ ))، لا ما ذكره المفسّرون: أنّ التكرار للتأكيد؛ فإنّ القصد لو كان متعلّقاً بالتأكيد كان ترك التكرار، كما لو قيل: (وأطيعوا الله والرسول)، أدلّ عليه وأقرب منه؛ فإنّه كان يفيد: أنّ إطاعة الرسول عين إطاعة الله سبحانه وأنّ الإطاعتين واحدة، وما كلّ تكرار يفيد التأكيد.
وأمّا أولوا الأمر فهم - كائنين من كانوا - لا نصيب لهم من الوحي، وإنّما شأنهم الرأي الذي يستصوبونه، فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم وقولهم، ولذلك لمّا ذكر وجوب الردّ والتسليم عند المشاجرة لم يذكرهم، بل خصّ الله والرسول، فقال: (( فَإن تَنَازَعتم في شَيء فَردّوه إلَى اللّه وَالرَّسول إن كنتم تؤمنونَ باللّه وَاليَوم الآخر ))، وذلك أنّ المخاطبين بهذا الردّ هم المؤمنين المخاطبون بقوله في صدر الآية: (( يَا أَيّهَا الَّذينَ آمَنوا ))، والتنازع تنازعهم بلا ريب، ولا يجوز أن يفرض تنازعهم مع أُولي الأمر مع افتراض طاعتهم، بل هذا التنازع هو ما يقع بين المؤمنين أنفسهم، وليس في أمر الرأي، بل من حيث حكم الله في القضية المتنازع فيها، بقرينة الآيات التالية الذامّة لمن يرجع إلى حكم الطاغوت دون حكم الله ورسوله، وهذا الحكم يجب الرجوع فيه إلى أحكام الدين المبيّنة المقرّرة في الكتاب والسُنّة، والكتاب والسُنّة حجّتان قاطعتان في الأمر لمن يسعه فهم الحكم منهما، وقول أُولي الأمر في أنّ الكتاب والسُنّة يحكمان بكذا أيضاً حجّة قاطعة؛ فإنّ الآية تقرّر افتراض الطاعة من غير أيّ قيد أو شرط، والجميع راجع بالأخرة إلى الكتاب والسُنّة.
ومن هنا يظهر أنّ ليس لأُولي الأمر هؤلاء - كائنين من كانوا - أن يضعوا حكماً جديداً، ولا أن ينسخوا حكماً ثابتاً في الكتاب والسُنّة، وإلاّ لم يكن لوجوب إرجاع موارد التنازع إلى الكتاب والسُنّة، والردّ إلى الله والرسول معنى على ما يدلّ عليه قوله: (( وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ وَلَا مُؤمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم وَمَن يَعصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً )) (الأحزاب:36)، فقضاء الله هو: التشريع، وقضاء رسوله: إمّا ذلك، وإمّا الأعم، وإنّما الذي لهم أن يروا رأيهم في موارد نفوذ الولاية، وأن يكشفوا عن حكم الله ورسوله في القضايا والموضوعات العامّة.
وبالجملة لمّا لم يكن لأُولي الأمر هؤلاء خيرة في الشرائع، ولا عندهم إلاّ ما لله ورسوله من الحكم أعني الكتاب والسُنّة، لم يذكرهم الله سبحانه ثانياً عند ذكر الردّ بقوله: (( فَإن تَنَازَعتم في شَيء فَردّوه إلَى اللّه وَالرَّسول ))، فلله تعالى إطاعة واحدة، وللرسول وأُولي الأمر إطاعة واحدة، ولذلك قال: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم )).
ولا ينبغي أن يُرتاب في أنّ هذه الإطاعة المأمور بها في قوله: (( أَطيعوا اللَّهَ وَأَطيعوا الرَّسولَ )) إطاعة مطلقة غير مشروطة بشرط، ولا مقيّدة بقيد، وهو الدليل على أنّ الرسول لا يأمر بشيء ولا ينهى عن شيء يخالف حكم الله في الواقعة، وإلاّ كان فرض طاعته تناقضاً منه تعالى وتقدّس، ولا يتم ذلك إلاّ بعصمة فيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وهذا الكلام بعينه جارٍ في أُولي الأمر، غير أنّ وجود قوّة العصمة في الرسول، لمّا قامت عليه الحجج من جهة العقل والنقل في حدّ نفسه من غير جهة هذه الآية، دون أُولي الأمر ظاهراً، أمكن أن يتوهّم متوهّم أنّ أُولي الأمر هؤلاء لا يجب فيهم العصمة، ولا يتوقّف عليها الآية في استقامة معناها.
بيان ذلك: إنّ الذي تقرّره الآية: حكم مجعول لمصلحة الأُمّة يحفظ به مجتمع المسلمين من تسرّب الخلاف، والتشتت فيهم، وشق عصاهم، فلا يزيد على الولاية المعهودة بين الأمّم والمجتمعات، تعطي للواحد من الإنسان افتراض الطاعة ونفوذ الكلمة، وهم يعلمون أنّه ربّما يعصي، وربّما يغلط في حكمه، لكن إذا علم بمخالفته القانون في حكمه لا يطاع فيه، وينبّه في ما أخطأ، وفيما يحتمل خطأه ينفذ حكمه، وإن كان مخطئاً في الواقع، ولا يبالي بخطأه؛ فإنّ مصلحة حفظ وحدة المجتمع، والتحرّز من تشتّت الكلمة مصلحة يتدارك بها أمثال هذه الأغلاط والاشتباهات.
وهذا حال أُولي الأمر الواقع في الآية في افتراض طاعتهم؛ فرض الله طاعتهم على المؤمنين، فإن أمروا بما يخالف الكتاب والسُنّة، فلا يجوز ذلك منهم، ولا ينفذ حكمهم؛ لقول رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وقد روى هذا المعنى الفريقان، وبه يقيّد إطلاق الآية.
وأمّا الخطأ والغلط، فإن علم به ردّ إلى الحق، وهو حكم الكتاب والسُنّة، وإن احتمل خطأه نفذ فيه حكمه، كما في ما علم عدم خطأه، ولا بأس بوجوب القبول وافتراض الطاعة في ما يخالف الواقع هذا النوع؛ لأنّ مصلحة حفظ الوحدة في الأُمّة وبقاء السؤدد والأبّهة تتدارك بها هذه المخالفة، ويعود إلى مثل ما تقرّر في أُصول الفقه من حجّية الطرق الظاهرية مع بقاء الأحكام الواقعية على حالها، وعند مخالفة مؤدّاها للواقع تتدارك المفسدة اللازمة بمصلحة الطريق.
وبالجملة، طاعة أُولي الأمر مفترضة وإن كانوا غير معصومين يجوز عليهم الفسق والخطأ، فإن فسقوا فلا طاعة لهم، وإن أخطأوا رُدّوا إلى الكتاب والسُنّة إن علم منهم ذلك، ونفذ حكمهم في ما لم يعلم ذلك، ولا بأس بإنفاذ ما يخالف حكم الله في الواقع دون الظاهر؛ رعاية لمصلحة الإسلام والمسلمين، وحفظاً لوحدة الكلمة.
وأنت بالتأمّل في ما قدّمناه في البيان تعرف سقوط هذه الشبهة من أصله، وذلك أنّ هذا التقريب من الممكن أن نساعده في تقييد إطلاق الآية في صورة الفسق بما ذكر من قول النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وما يؤدّي هذا المعنى من الآيات القرآنية، كقوله: (( إِنَّ اللَّهَ لَا يَأمُرُ بِالفَحشَاءِ )) (الأعراف:28)، وما في هذا المعنى من الآيات.
وكذا من الممكن بل الواقع أن يجعل شرعاً نظير هذه الحجّية الظاهرية المذكورة، كفرض طاعة أُمراء السرايا الذين كان ينصّبهم عليهم رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكذا الحكّام الذين كان يولّيهم على البلاد كمكّة واليمن، أو يخلّفهم بالمدينة إذا خرج إلى غزاة، وكحجّية قول المجتهد على مقلّده، وهكذا، لكنّه لا يوجب تقيّد الآية، فكون مسألة من المسائل صحيحة في نفسها أمر، وكونها مدلولاً عليها بظاهر آية قرآنية أمر آخر.
فالآية تدلّ على افتراض طاعة أُولي الأمر هؤلاء، ولم تقيّده بقيد ولا شرط، وليس في الآية القرآنية ما يقيّد الآية في مدلولها حتّى يعود معنى قوله: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم ))، إلى مثل قولنا: وأطيعوا أُولي الأمر منكم في ما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا بخطأهم، فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم، وإن علمتم خطأهم فقوّموهم بالردّ إلى الكتاب والسُنّة، فما هذا معنى قوله: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم )).
مع أنّ الله سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيّد في ما هو دون هذه الطاعة المفترضة، كقوله في الوالدين: (( وَوَصَّينَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيهِ حُسنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشرِكَ بِي مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ فَلَا تُطِعهُمَا... )) (العنكبوت:8)، فما باله لم يظهر شيئاً من هذه القيود في آية تشتمل على أسّ أساس الدين، وإليها تنتهي عامّة أعراق السعادة الإنسانية.
على أنّ الآية جمع فيها بين الرسول وأُولي الأمر، وذكرها لهما معاً طاعة واحدة فقال: (( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم )), ولا يجوز على الرسول أن يأمر بمعصية أو يغلط في حكم، فلو جاز شيء من ذلك على أُولي الأمر لم يسع إلاّ أن يذكر القيد الوارد عليهم، فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير أيّ تقييد، ولازمه اعتبار العصمة في جانب أُولي الأمر، كما اعتبر في جانب رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من غير فرق ))(1).
ثمّ يقول في تقرير اشكال من بعضهم وجوابه: (( إنّ القائلين بالإمام المعصوم يقولون: إنّ فائدة اتّباعه إنقاذ الأُمّة من ظلمة الخلاف، وضرر التنازع والتفرّق، وظاهر الآية يبيّن حكم التنازع مع وجود أُولي الأمر، وطاعة الأُمّة لهم كأن يختلف أولو الأمر في حكم بعض النوازل والوقائع، والخلاف والتنازع مع وجود الإمام المعصوم غير جائز عند القائلين به؛ لأنّه عندهم مثل الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلا يكون لهذه الزيادة فائدة على رأيهم.
وفيه: أنّ جوابه ظاهر ممّا تقدّم أيضاً؛ فإنّ التنازع المذكور في الآية إنّما هو تنازع المؤمنين في أحكام الكتاب والسُنّة دون أحكام الولاية الصادرة عن الإمام في الوقائع والحوادث، وقد تقدّم أن لا حكم إلاّ لله ورسوله، فإن تمكّن المتنازعون من فهم الحكم من الكتاب والسُنّة كان لهم أن يستنبطوه منهما، أو يسألوا الإمام عنه، وهو معصوم في فهمه، وإن لم يتمكّنوا من ذلك كان عليهم أن يسألوا عنه الإمام، وذلك نظير ما كان لمن يعاصر رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كانوا يتفقّهون في ما يتمكنون منه أو يسألون عنه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويسألونه في ما لا يتمكّنون من فهمه بالاستنباط.
فحكم أُولي الأمر في الطاعة حكم الرسول على ما يدلّ عليه الآية، وحكم التنازع هو الذي ذكره في الآية سواء في ذلك حضور الرسول، كما يدلّ عليه الآيات التالية، وغيبته كما يدلّ عليه الأمر في الآية بإطلاقه؛ فالردّ إلى الله والرسول المذكور في الآية مختصّ بصورة تنازع المؤمنين كما يدلّ عليه قوله: (( تَنَازَعتم ))، ولم يقل: فإن تنازع أولو الأمر، ولا قال: فإن تنازعوا، والردّ إلى الله والرسول عند حضور الرسول هو سؤال الرسول عن حكم المسألة أو استنباطه من الكتاب والسُنّة للمتمكّن منه، وعند غيبته أن يسأل الإمام عنه أو الاستنباط، كما تقدّم بيانه، فلا يكون قوله: (( فَإن تَنَازَعتم في شَيء... )) (الخ) زائداً من الكلام مستغنى عنه كما ادّعاه المستشكل.
فقد تبيّن من جميع ما تقدّم: أنّ المراد بأُولي الأمر في الآية رجال من الأُمّة حكم الواحد منهم في العصمة وافتراض الطاعة حكم الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهذا مع ذلك لا ينافي عموم مفهوم لفظ أُولي الأمر بحسب اللغة، وإرادته من اللفظ؛ فإن قصد مفهوم من المفاهيم اللفظ شيء وإرادة المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم شيء آخر، وذلك كما أنّ مفهوم الرسول معنى عامّ كلّي، وهو المراد من اللفظ في الآية لكن المصداق المقصود هو الرسول محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
قوله تعالى: (( فإن تَنَازَعتم في شَيء فردّوه إلَى اللَّه وَالرَّسول )), إلى آخر الآية، تفريع على الحصر المستفاد من المورد؛ فإنّ قوله: (( أَطِيعُوا اللَّهَ... )) حيث أوجب طاعة الله ورسوله، وهذه الطاعة إنّما هي في المواد الدينية التي تتكفّل رفع كلّ اختلاف مفروض، وكلّ حاجة ممكنة لم يبق مورد تمسّ الحاجة الرجوع إلى غير الله ورسوله، وكان معنى الكلام: أطيعوا الله، ولا تطيعوا الطاغوت، وهو ما ذكرناه من الحصر.
وتوجّه الخطاب إلى المؤمنين كاشف عن أنّ المراد بالتنازع هو تنازعهم بينهم، لا تنازع مفروض بينهم وبين أُولي الأمر، ولا تنازع مفروض بين أُولي الأمر؛ فإنّ الأوّل - أعني: التنازع بينهم وبين أُولي الأمر - لا يلائم افتراض طاعة أُولي الأمر عليهم, وكذا الثاني - أعني: بين أُولي الأمر - فإنّ افتراض الطاعة لا يلائم التنازع الذي أحد طرفيه على الباطل، على أنّه لا يناسب كون الخطاب متوجهاً إلى المؤمنين في قوله: (( فإن تَنَازَعتم في شَيء فردّوه )).
ولفظ (الشيء) وإن كان يعمّ كلّ حكم وأمر من الله ورسوله وأُولي الأمر كائناً ما كان، لكنّ قوله بعد ذلك: (( فردّوه إلَى اللَّه وَالرَّسول )) يدلّ على أنّ المفروض هو النزاع في شيء ليس لأُولي الأمر الاستقلال والأستبداد فيه من أوامرهم في دائرة ولايتهم، كأمرهم بنفر أو حرب أو صلح أو غير ذلك؛ إذ لا معنى لإيجاب الردّ إلى الله والرسول في هذه الموارد مع فرض طاعتهم فيها.
فالآية تدلّ على وجوب الردّ في نفس الأحكام الدينية التي ليس لأحد أن يحكم فيها بإنفاذ أو نسخ إلاّ الله ورسوله، والآية كالصريح في أنّه ليس لأحد أن يتصرّف في حكم ديني شرعه الله ورسوله، وأولوا الأمر ومن دونهم في ذلك سواء ))(2).
(1) الميزان في تفسير القرآن 4: 387 - 391.
(2) الميزان في تفسير القرآن 4: 400 - 402.