الأبعاد المعنوية للصوم
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال الله عزّ وجلّ: "كلّ عمل ابن آدم له إلا الصيام فانه لي وأنا أجزي به"1.
لا شكّ أنّ عبادة الصوم من العبادات المتميزة من سواها من العبادات وإلا لما اختار الله لها أفضل الشهور على الإطلاق ليكون زماناً وظرفاً لأدائها، وهذا دأب الشرع في كثير من الأعياد والمناسبات بل وحتى بعض الزيارات والأفعال المستحبّة التيربطها الشرع بقضايا أساسية أراد لها الله أن تبقى خالدة وتبقى مدرسة مفتوحة تربي الأجيال على مر العصور والدهور، وباعتقادي أنّ العلاقة بين فريضة الصوم وشهر رمضان هي أنّ الصوم يكبح جماح المرء في الخطأ إلى الحدّ الأقصى، بينما يفتحشهر رمضان آفاق العمل الصالح إلى حدّه الأقصى فيرتقي المرء معارج الكمال كما لا يرتقيه في غيره من الشهور.
لو تأمّلنا مليًّا في هذا الحديث الشريف لظهر لنا جليًّا أنّ فيه ثلاثة أبعاد مهمة:
1- البعد السلوكي: والمراد به أنّ عبادة الصوم تختلف عن بقية العبادات في أنها عبادة ترك وامتناع وليست عبادة فعل وعمل، بمعنى أن جميع العبادات لا يستطيع الإنسان أن يؤديها من خلال أفعال ظاهرية يقوم بها ولا يستطيع أن يخفيها أو يكتمها،فالصلاة لها أفعالها التي يمارسها الإنسان ولها أثر خارجي، وكذا الزكاة وكذلك الحجّ ومناسكه، وكذا الأمربالمعروف والنهي عن المنكر.. إلى غير ذلك من سائر العبادات، أمّا الصوم فليس له مظهرخارجي، لأنه عبادة يعصم المرء نفسه عن جملة منالأمور، ولكنه لا يمارس أيّ فعل يُظهره أنه صائم، فقد أكون صائمًا سواء في شهر رمضان أو سواه من الشهور ولا يعلم أحد بأني صائم، وقد أكون مفطراً وأظهر أمام الناس أني صائم.
ومعنى أنه ليس للصوم مظهر خارجيّ يعني انه اتصال مباشر بالله بلا مظهر خارجيّ، ولا يطّلع على حقيقة هذا الصوم وجوهره إلا الله سبحانه وتعالى، فهذه الخصوصية في الصوم تدلُّ على تربية الإنسان على أن تكون نيته خالصة لوجه الله في جميعالعبادات انطلاقاً من عبادة الصوم المكتومة. فالصوم سرّ من أسرار الإخلاص لله تعالى، لأنه سِرُّ بَيْن العبدِ وربِّه لا يطَّلعُ عليه إلاّ الله. فإِن الصائمَ إذا ابتعد عن أعين الناس يتمكّن منْ تناوُلِ ما حرَّم الله عليه بالصيام، فلا يتناولُهُ ، لأنه يعلم أن له ربّاًيطَّلع عليه في خلوتِه، وقد حرَّم عَلَيْه ذلك، فيترُكُه لله خوفاً من عقابه، ورغبةً في ثوابه، فمن أجل ذلك كان الصوم باباً إلى الإخلاص وبالتالي فقد شكر اللهُ له هذا الإِخلاصَ، واعتبر هذه الفريضة مختصةً به فصيامُه لنفْسِه من بين سَائِرِ أعمالِهِ ولهذا قال: "يَدَعُ شهوتَه وطعامَه من أجْلي"2.
2- البعد الجزائي: أي ما يرتبط بالثواب، فلمّا كانت فريضة الصوم عبادة مكتومة بين العبد وربّه كان ثواب الصوم مكتوماً أيضاً إذ إننا لا نجد في النصوص ما يحدّد ثواب الصوم وحسناته ودرجته ومقدار الجزاء الذي يستحقه كما نرى ذلك في بقيةالعبادات، لأن الله استأثرَ ذلك له تشويقاً لعباده على الصوم. فإن الله قال في الصوم: (وأَنَا أجْزي به)3 فأضافَ الجزاءَ إلى نفسه الكريمةِ، لأنَّ الأعمالَ الصالحةَ يضاعفُ أجرها بالْعَدد، فالحسنةُ بعَشْرِ أمثالها إلى سَبْعِمائة ضعفٍ إلى أضعاف كثيرةٍ، أمَّا الصَّوم فإِنَّ اللهَ أضافَ الجزاءَ عليه إلى نفسه من غير اعتبَار عَددٍ، وهُوَ سبحانه أكرَمُ الأكرمين وأجوَدُ الأجودين، والعطيَّةُ بقدر مُعْطيها. فيكُونُ أجرُ الصائمِ عظيماً كثيراً بِلاَ حساب. والصيامُ صبْرٌ على طاعةِ الله، وصبرٌ عن مَحارِم الله،وصَبْرٌ على أقْدَارِ الله المؤلمة مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ وضعفِ البَدَنِ والنَّفْسِ، فَقَدِ اجْتمعتْ فيه أنْواعُ الصبر الثلاثةُ، وَتحقَّقَ أن يكون الصائمُ من الصابِرِين. وقَدْ قَالَ الله تَعالى: ï´؟إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍï´¾4.
3- البعد الفعلي: ومعناه أداء هذه الفريضة على حقيقتها ووفق الصورة الباطنية التي رسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فليس كلّ صوم صوماً يقرّبك من الله ولا كلّ قيام قياماً خالصاً لوجهه الكريم، ولذلك نقرأ في الدعاء في أوّل يوم من رمضان… "اللهمّ اجعل صيامي فيه صيام الصائمين وقيامي فيه قيام القائمين ونبهني فيه من نومة الغافلين"5.
ولو سأل سائل كيف يكون الصيام كصيام الصائمين والقيام كقيام القائمين لكان الجواب ماقاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجابر بن عبد الله: "يا جابر، هذا شهر رمضان من صام نهاره وقام ورداً من ليله وعفّ بطنه وفرجه وكفّ لسانه خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر"6.
فالصوم في حقيقته مدرسة تربوية تعيد بناء الداخل من جديد لتصنع باطن الإنسان وتُصفّي سريرته وتنقّي قلبه وتجعله أكثر تذكّراً للآخرة وشعوراً بأهوالها وعقباتها، وهذا معنى الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "للصائم فرحتان، فرحة عند إفطاره،وفرحة يوم يلقى ربه"7.
فهي فرحة الانتصار على العدوّ الداخلي والسموّ في معارج الكمال وإلا لما جعل الله هذه الفرحة موازيةً لفرحة لقائه، وبالتالي فإنّ جعلها في كفتي ميزانه تعالى في مقابل لقائه ينسجم مع كون فرحة لقائه تعادل فرحة الانتصار على الشيطان.
وفي النهاية نختم بالحديث الذي يجب أن نتذكّره دائماً خلال أداء هذه الفريضة والمروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أخبركم بشيء إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم كما تباعد المشرق من المغرب؟ قالوا: بلى. قال: الصوم يسوِّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحبّ في الله والموازرة على العمل الصالح يقطعان دابره، والاستغفار يقطع وتينه"8.
قصة وعبرة
ومن أجمل المواقف التي من خلالها يتطلّع الإنسان إلى قيمة هذه الدعوة موقف الأعرابيّ مع الحجّاج الذي بين الأعرابي من خلاله للحجّاج أنّ الصوم دعوة إلهية فقد خرج الحجّاج ذات يوم قائظ فأُحضر له الغداء فقال: اطلبوا من يتغدَّى معنا، فطلبوا فلم يجدوا إلا أعرابيًّا، فأتوا به فدار بين الحجّاج والأعرابي هذا الحوار.
الحجّاج: هلمّ أيها الأعرابّي لنتناول طعام الغداء.
الأعرابيّ: قد دعاني من هو أكرم منك فأجبته.
الحجّاج: من هو؟
الأعرابي: الله تبارك وتعالى دعاني إلى الصيام فأنا صائم.
الحجّاج: أَصَوْمٌ في مثل هذا اليوم على حرّه؟
الأعرابيّ: صمتُ ليوم أشدّ منه حرّاً.
الحجّاج: أفطر اليوم وصُمْ غداً.
الأعرابيّ: أَوَ يضمن الأمير أن أعيش إلى الغد ؟
الحجّاج: ليس ذلك إليّ، فعلم ذلك عند الله.
الأعرابيّ: فكيف تسألني عاجلاً بآجل ليس إليه من سبيل.
الحجّاج: إنه طعام طيّب.
الأعرابيّ: والله ما طيّبه خبّازك وطبّاخك، ولكن طيَّبته العافية9.
* كتاب وتزودوا في شهر الله، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.