ما هو دور معرفة أسباب النزول في المسائل الفقهية؟
إنّ للوقوف على سبب النزول أهمية كبيرة في التعرّف على مدلول الآية ومفهومها ووجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم؛ إذ كما قيل: «العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب». ولا شك أنّ صياغة الآية وطريقة التعبير عنها يتأثر إلى حدّ كبير بسبب نزولها، فالاستفهام مثلاً لفظ واحد ولكنّه يخرج إلى معانٍ أخرى كالتقرير وغيره ولا يفهم المراد إلا بالأمور الخارجية والقرائن الحالية [موجز علوم القرآن، داود العطار، ص130].
يقول المحقّق الشيخ جعفر السبحاني: «إن لمعرفة أسباب النزول دوراً هاماً في رفع الإبهام عن الآيات التي وردت في شأن خاص لأن القرآن الكريم نزل نجوماً عبر ثلاثة وعشرين عاماً إجابة لسؤال أو تنديداً لحادثة أو تمجيداً لعمل جماعة إلى غير ذلك من الأسباب التي دعت إلى نزول الآيات، فالوقوف على تلك الأسباب لها دور في فهم الآية بحدها ورفع الإبهام عنها» [المناهج التفسيرية في علوم القرآن، الشيخ جعفر السبحاني، ص38].
وقال الواحدي في أسباب النزول: «لا يمكن معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها» [أسباب نزول الآيات ، ص10]، وقال ابن دقيق العيد: «بيان سبب النزول سبب قوي في فهم معاني القرآن» [لباب النقول في أسباب النزول، السيوطي، ص8].
وفيما يلي نعرض أمثلة متعدّدة لآيات كان لمعرفة سبب نزولها دور كبير في تفسيرها الفقهي:
1- قوله تعالى: {وَللهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة، آية 115].
حيث المتبادر من مدلول ألفاظ الآية ومن مظاهر سياقها أن المصلي له أن يصلي إلى أية جهة كانت في السفر والحضر فللّه المشارق والمغارب فأينما يُولي المصلي وجهه فقد توجه إلى الله تعالى وهذا خلاف الإجماع [موجز علوم القرآن، آية 131]، وهو يتعارض مع قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ} [سورة البقرة، آية 144]، وبالنظر في أسباب النزول تجد أنها نزلت في الصلاة المستحبة يستطيع الإنسان أن يؤديها على راحلته أينما اتجهت الراحلة دون اشتراط الاتجاه نحو القبلة [الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج1، ص303].
2- قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [سورة البقرة، 158].
إن ظاهر لفظ ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ﴾ لا يقتضي أنّ السعي بين الصفا والمروة واجب وفرض، ولكن حينما نرجع إلى أسباب النزول نرى أن المشركين كانوا يسعون بين الصفا والمروة، وقد وضعوا على الصفا صنما اسمه (أساف)، وعلى المروة صنماً آخر سموه (نائلة)، وكانوا يتمسحون بهما لدى السعي، من هنا خال المسلمون أن السعي بين الصفا والمروة عمل غير صحيح، وكرهوا أن يفعلوا ذلك. فنزلت الآية المذكورة لتعلن أن الصفا والمروة من شعائر الله، وتلويثها بالشرك على يد الجاهليين لا يبرر إعراض المسلمين عن السعي بينهما. [انظر: الأمثل، ج1، ص449؛ مجمع البيان في تفسير القرآن، ج1، 445؛ أسباب النزول، علي بن أحمد الواحدي، ص27]
3- قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة آل عمران، 188].
حيث أشكل على مروان بن الحكم فهم الآية وقال: «لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يُحمد بما لم يفعل لنعذبن أجمعون حتى بيّن له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب» [الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص59].
قال صاحب الأمثل في نزول الآية: «إن اليهود كانوا يفرحون لما يقومون به من تحريف لآيات الكتب السماوية وكتمان حقائقها ظناً منهم بأن يحصلوا من وراء ذلك على نتيجة وفي الوقت نفسه كانوا يحبون أن ينسبهم الناس إلى العلم ويعتبرونهم من حماة الدين، فنزلت هذه الآية ترد على تصورهم الخاطئ هذا [ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج3، ص41].
4- قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة البقرة، آية 189].
قد يتعجّب الإنسان عندما يقرأ الآية ولكن عندما يقف على سبب نزولها يزول تعجّبه؛ لأنّ الآية نزلت في طوائف من العرب عندما كانوا يحرمون لا يدخلون بيوتهم من أبوابها ولكنهم كانوا ينقبون في ظهر بيوتهم أي في مؤخرها نقباً يدخلون ويخرجون منه فنهوا عن التدين بذلك
[مجمع البيان في تفسير القرآن، ج1، ص508].