بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
الإمـام الكـاظـم عليه السلام في أسطر
هو موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وهو السابع من أئمـة أهل البيت عليه السلام وخلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإثنى عشر كما جاء في الأخبار الكثيرة والتي ينقلها الفريقان، وكماقال السيد محمد باقر الصدر "قده" في كتابه بحث حول المهديعليهالسلام: (قد أحصى بعض المؤلفين رواياته ـ أي الخلفاء الإثنا عشرـ فبلغت أكثر من مائتين وسبعين روايــةمأخوذة من أشهر كتب الحديث عند الشيعة والسنة بما في ذلك البخاري ومسلم والترمذيوأبي داود ومسند أحمد ومستدرك الحاكم على الصحيحين)(بحث حول المهدي:ص65ـ66).
فهو السابع من هؤلاء الذينبوجودهم يكون الدين بخير، وكذا الخلائق تكون بخير.
ولد عليه السلام في السابعمن صفر لسنة (128هـ) في الأبواء، أمه حميدة البربرية والملقبة بحميدة المصفاة أيالتي صفيت وطهرت من الأدناس والعيوب ـ وهذا ديدن أمهات الأئمة عليهم السلام ـ والتيقال عنها إمامنا الصادق عليه السلام:
"حميدة المصفاة كسبيكةالذهب مازالت الأملاك تحرسها حتى أدّت لي كرامة من الله والحجة منبعدي"
عاش في أحضان الإمام الصادق والده ما يقرب من عشرين سنة وتسلّم بعده منصب الإمامة الكبرى بعد شهادةوالده وهو ابن العشرين، واستمر ناهضاً بهذا العبء خمسة وثلاثين سنة حيث رحل عن هذهالدنيا مسموماً في سجن السندي بن شاهك في بغداد في حكومة هارون الرشيد في الخامسوالعشرين من رجب لسنة (183هـ) عن عمر يناهز الخامسة والخمسين.
والحديث عن الإمام عليه السلام متشعب وطويل وله أبعادكثيرة ولا يمكن أن تحصر عند حد أو توقف عند أمد، ولكن النقطة التي سوف نسلط الضوءعليها، والتي هي ظاهرة بارزة في حياته وحياة آبائه وأبناءه عليهم السلام، والتي لاتخفى عن أعمى فضلاً عن بصير، والتي تمثل معلماً ومنهجاً في حياتهم، وأعني بهامواجهتهم للظالمين والوقوف في وجوههم والتصدي لظلمهم وأبعاد الناس عنهم بل وزرعالجرأة في قلوبهم على مواجهتهم، وهذا هو السبب الذي وعى أولئك الظالمين للانتقاممنهم والتضيق عليهم وإيداعهم السجون والزنزانات وقتلهم بمختلف الوسائل من السموالسيف وغيره.
وهذا يكشف عن الصدق الذيعاشه هؤلاء فلم يداهنوا ولم يجاملوا وحتى التقية التي كانوا يعيشونها إنما هي أسلوبمن أساليب المواجهة للباطل والظالم ونصرة الحق، ولو تدبر الإنسان في كثير منالمواقف لانكشفت له الحقيقة.
ومواجهتهم للظالمين تكشف عن حقيقة التوكل علي الله والثقة به التي عاشوها بحيث لم يدخلهم خوف من التصديلهؤلاء مهما ملكوا من القدرات العسكرية والمالية والإعلامية لأنهم يلتجئون إلى قوةالأزل كما قال إمامنا الهادي عليه السلام:
(إن الله علم منا أن لانلجأ في المهمات إلا إليه ولا نتوكل في الملمات إلاّ عليه وعودنا إذا سألناهالإجابة فنخاف أن نعدل فيعدل بنا).
ومواجهتهم تكشف عن حقيقةالإعراض عن هذه الدنيا والزهد فيها وعدم الميل إليها والحرص على تحصيلها، حيثكلفتهم تلك المواجهة أبسط الحقوق وحرمتهم من كثير من نعيمها الزائل. فها هو موسى بنجعفر عليهما السلام يعيش في السجون بعيداً عن أهله وأحبته وكان لا يميز بين الليلوالنهار إلى أن يموت مسموماً فيها ويضع نعشه على جسر الرصافة ينادى عليه بنداءالاستخفاف و··· فلو كانوا يميلون قيد أنملة إلى الدنيا لحصلوا عليها وهم أبصر الناسبطرق الحصول عليها، ولكنهم يستحون أن يطلبوها من خالقها فكيف يطلبونها من مخلوق لايصلح أن يكون نعلاً لعبيدهم:
فلقدساووك بمن ناووك
وهلسـاووا نعلي قمبر
وعلى كل حال فان أهل البيت عليه السلام قد تصدوا لمواجهةالظلم بكل ما يتمكنون حتى جاءت الزيارة الجامعة المروية عن إمامنا الهادي عليهالسلام لتخبرنا عن الواقع الذي عاشوه :
(وجاهدتم في الله حقجهاده وبذلتم أنفسكم في مرضاته وصبرتم على ما أصابكم في جنبه وأقمتم الصلاة وآتيتمالزكاة وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر..)
وهاهي مواقف إمامنا الكاظم عليه السلام الذي عاصر من أحب الملك حباً وصل به إلى درجة ليصرح ـ ولم يتمكن منالكتمان ـ بأن صاحب القبر وأشار إلى قبر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لو نازعه على الملك لقطع الذي فيه عيناه واحتز رأسه، ولكن ذلك مع مالهمن دنيا لم تمنع الإمام عليه السلاممن التصدي له والعملللوقوف ضد ظلمه بقدر ما يتمكن، وقد اتبع أساليب مختلفة في ذلك:
الأول:
من هذه الأساليب هوبيان حرمة العمل معهم وإعانتهم وخطورة تلك الأعمال.
وقد أوضح بشاعتها بشكل تقشعر منه الجلود وترتعد له الأعضاء، ولم يعهد من أحد أنه تكلم بهذا الكلام كماتكلم به الإمام الكاظم عليهالسلام، والملاحظ فيذلك هو أن تلك الخطورة التي أوضحها هي للأعمال التي في ظاهرها يسيرة والتي قد يتصورالناس أنها سهلة يمكن أن يغض النظر عنها، فكيف تكون خطورة الأعمال التي هي أكبروأخطر من تلك؟ وكيف تكون حالة نفس الظلمة وما هو المصير الأسود الذي سيواجههم، فليسفقط أن الإمام لم يرخص للعمل معهم بل زرع في القلوب بغضهم والذي هو مقدمة لحربهؤلاء، وإليك شواهد من كلماته عليه السلام بهذاالصدد.
قال عليه السلام:
(من سوّد إسمه في ديوانولد سابع حشره الله يوم القيمة خنزيراً)
سابع هو مقلوب عباس، وهذاالتصوير في غاية الدقة للتنفير عن الظالم والعمل معه وإعانته وعدم الاقتراب منهفمجرد إثبات الاسم في ديوانه هو موجب لحشر الإنسان يوم القيامة في صورة خنزير، وحشرالإنسان بهذه الصورة إنما هو تجسم لما هو عليه في الدنيا بل إن عالم الآخرة هو كشفللغطاء عن الحقيقة:
(…فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَحَدِيدٌ)(ق/22).
وكشف الغطاء إنما يكون عنشئ موجود كما أشار إلى ذلك السيد الطباطبائي "قده" في تفسير الميزان، فإذا كان الذييثبت اسمه هكذا حقيقته؟ فكيف بالذي قاتل عنهم ويحرس السجون لهم؟
وإذا كان هذا حال العاملمعهم فكيف بهم؟ فلابد أن يحشروا في صور تحسن عندها صور القردةوالخنازير.
ويترقى الإمام عليه السلام في بيان خطورة العمل معهم ويقول إن الحقيقة واحدة، حينما جاء صفوان بن يحيى الجمال وكان يؤاجر جماله لهارون الرشيد ليذهب بها إلى حج بيت الله الحرام ولم يذهب معه ليخدمه وإنما يبعثمعه غلمانه، ولكن فاجأه الإمام بما لا يتوقعه والذي هزّه من الأعماق بحيث ترك ذلكالعمل مهما ترتب عليه من قبل هارون والكلمة التي قالها له هي مترتبة على سؤال قدمهالإمام لصفوان حيث قال عليه السلام:أتحب بقائهم لحين خروجكرائك منهم؟
قال صفوان:نعم.
فقال عليهالسلام:من أحب بقائهم فهو منهم.
مع أن صفوان من خاصةأصحابه وهو يتصور أنه من أوليائه وشيعتهم وإذا بالإمام يصنفه في عداد الظالمين لهمعليهالسلاموليس في عداد العاملينمعهم، وهذا هو الذي قلنا عنه البيان الذي هو أشد من الأول ولكنه لمن أحبّ بقائهمولو ليوم واحد لا لذواتهم وحباً لهم وإنما طمعاً فيما بأيديهم فكيف بالذي يحبهملذواتهم، ولذا نهى عن أخذ الهدايا منهم خوفاً من دخول حبهم في القلوب لأن النفوس مجبولة على حبّ من أحسن إليها وصرحوا:
(إنكم لا تنالون مندنياهم شيئاً إلا نالوا من دينكم بقدره).
فبقدر ما يحبهم الإنسانيذهب من دينه.
ويشدد على قبح العمل معهم،ويقول حين جاءه زياد بن أبي سلمة يطلب منه رخصة للعمل معهم :
(لئن أسقط من حالق جبلفأتقطّع قطعة قطعة أحبّ إليّ من أن أطأ بساط أحدهم).
ففي نظره عليه السلام أنالسقوط من حالق جبل وما فيه من العذاب وما يتبعه من ألم أهون من العقاب الذيسيلاقيه الإنسان من أن يضع رجله على بسطا واحد منهم، فما هو العقاب المعدّ لهؤلاءالظلمة؟
وبهذا الأسلوب تمكّنالإمام عليهالسلاممن إخراج الكثيروتخليصهم من العمل معهم وردّع الكثير عن التفكير من العمل معهم أو التهاون في الميلإليهم، بل زرع في النفوس بذرة الوقوف في وجوههم فضلاً عن أن هذا تحذير للإنسان منأن يرغب في دنياهم ويحب منهجهم أو يميل أن يكون من أمثالهم.
الثـاني:
الأسلوب الآخر في مواجهةالظلم نصب بعض الوجوه التي لا تتأثر بالدنيا والتي في قلوبها الحرقة على المحرومينوعندها دقة في العمل، حيث أذن لهم بالعمل في مناصب حساسة في الدولة لتكون بالمرصادلما يريد أن يفعله الطغاة بالضعفاء وتعمل بقدر ما تستطيع من الدفع عنهم والذب، وعليبن يقطين خير شاهد على ذلك ولعل هناك غيره ممن لم يكشفه لنا التاريخ فهو الذي قاللعلي:
"يا علي إن لنا بك أنساولإخوانك بك عزاً عسى الله أن يجبر بك كسراً ويكسر بك نائرة المخالفين عنأولياءه".
فكان علي عوناً للمظلومينوالمحرومين الذين أدخلت الدولة الجوع إلى بيوتهم وأسكنت الفقر في مساكنهم حتى لايعارضوا حاكماً ولا يجاهدوا ظالماً، فمن الأساليب التي اتبعها علي في إعانتهمإعطائهم الأموال للذهاب لحج بيت الله نيابة عنه.
الثـالث:
من تلك الأساليب هو تحملالكثير من المعاناة من قبل الدولة مع قدرته على التخلص منها، فانه أسلوب لفضحالنظام وكشف خزيه وإنه بعيد عن الإسلام تمام البعد وإنهم أعداء لرسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وليسوا خلفاء، وهناك الشواهد التي أوضحت أن،هذا الأسلوب من الأساليب المؤثرة حتى في قلوب أصحاب سر هارون وخاصته، فالإمام قادرعلى التخلص من السجن وغير السجن ولكن أراد أن يكشف القناع المزيف لهذا الرجل فيبقائه في السجن ويوضح للناس أن هذا لا يحترم عالم ولا يقدر عابد ولا يخلص من شرهصاحب خلق ولا يكرم ذرية رسول الله بل لا يؤمن بالله واليوم الآخر حتى أن الجاريةالتي بعثها هارون لغرض افتتان الإمام وقد جلست فوجدته ساجداً لم يرفع رأسه من سجودهلله تأثرت بالإمام عليه السلام وشمّت شيئاً من عطر عبوديته وحين أخذوها لهارونقالت: ما ذنب هذا الرجل حين أودعته السجن.
وحتى حين قدم هارون إلىالمدينة وزار الإمام وواعد الإمام بصلة وقبل الإمام ذلك، فان الإمام يعلم بأنه لايعطيه ولكنه أراد أن يكشف حقيقته للناس حيث أخذ يعطي للمغنين وللعواهر ولمن لا يعرفبنسب ولا فضل·
الرابـع:
هناك حوادث فعلها الإمامليعرّض بالظالمين بل ليصرح، فقصة حجب إبراهيم الجمال على بابه وقولهعليهالسلام:
(لا قبل الله حجك ولاشكر الله سعيك حتى يرضى عنك إبراهيم الجمال).
حيث أن علي بن يقطين قاللخدامه: لا تأذنوا لإبراهيم الجمال وقد جاءه في حاجة ومنعه لا بغضا له وإنما خوفاًمن اطلاع الحكومة على علمه ومع ذلك حجبه الإمام على بابه وقال له تلك المقولة ،فهذا لعلي بن يقطين المرضي عند الإمام ولأجل هذا الفعل ، فكيف بالذي يذل المؤمنينويزّج بهم السجون يشرّد الكثير منهم فلا يأوون إلى منزل وقد ملئوا أقطارالأرض··؟
ولذا كان كثيراً ما يوضححرمة المؤمن عند الله ويؤكد على تكريمه فإن هذا تعريض بالظالمين الذين آذواالمؤمنين واضطهدوهم وأجاعوهم وأخافوهم.
الخامـس:
استعمال القوة في بعضالأحيان لردع الظالم أو لردع الناس عن معونته والاغترار بدنياه، وقصة الساحر الذيجاء به هارون للاستهزاء بالإمام عليهالسلامخير شاهد حيث أشار الإمام إلى صورة لأسدين على وسادة بأخذه وقد حصل ذلك،وقام عليهالسلاموطلب هارون من الإمامإرجاعه فقال حتى ترجع عصا موسى ما لقفت أتسلط أعداء الله على أولياء الله "(راجع بحار الأنوار:ج48ص42).
السـادس:
مواجهة الإمام عليه السلاملأبي حنيفة الذي كان يشيع مذهب الجبر الذي أراد من خلاله أن يبرر للظالمين ظلمهموأعمالهم وما على الأمة إلا التسليم لهذا المقدر وعليها السكوت وعدم التعرّض لهملأنه أمر من قبل الله عزّ وجل.
إلى غير ذلك من الأساليبالتي استعملها عليه السلام في مواجهتهم والتي جعلت الظالمين يشعرون بخطورته عليهموأنه يهدد ملكهم، خصوصاً وأن الناس تراه هو الأليق بالحكم لما يتصف به من علم وحلموسماحة وعبادة ورحمة وزهد وإعراض عن الدنيا، فأودعوه السجون تصوراً منهم أن السجونتحد صاحب هذه الهمة العالية والعزيمة الراسخة ، فأدخل الرعب على قلوبهم في سجونهمفعزموا على قتله غيلة وهذه شيمة الجبناء وهذه هي نهاية المجاهدين المخلصين الذي لايداهنوا في الحق طرفة عين.
"والسلام على المعذّبفي قعر السجون وظلم المطامير ذي الساق المرضوضة بحلق القيود والجنازة المنادى عليهابذل الاستخفاف".
خادم خدامهم
الشيخ رياض البيضاني
الساكن في عش آل محمد ـ قم المقدسة