الجميع يعرف أن الضوء الواصل إلينا من الشمس يستغرق ثمانية دقائق، فلو أشرقت الشمس الساعة السادسة صباحاً ففي الحقيقة أن قرصها إرتفع عن الآفق الساعة 5.52صباحاً ولكن أشعتها وصلتنا الساعة السادسة، بمعنى آخر لو حدث شيء في الشمس كأن تكون قد إنفجرت أو إختفت فلا نعرف عنها شيء إلا بعد ثمانية دقائق، ويقع أقرب نجم إلينا أو أقرب جار لنا من النجوم، رجل القنطور (ألفا سنتوري Alpha Centauri) على مسافةٍ تبلغ 4.24 سنةً ضوئيّةً عن الأرض، مما يعني أن ما نشاهده في التلسكوبات الفلكية في لحظة رصد هذا النجم وقع قبل 4.24 عام، ولو غادرنا مجرة درب التبانة باتجاه اقرب مجرة لنا وهي المرأة المسلسلة (أندروميداAndromeda) فأنها تبعد عنا 2.5 مليون سنة ضوئية، وهكذا كلما إبتعدنا أكثر فأن الضوء الذي يصل إلينا يحتاج وقت أكثرأي إننا نعود بالزمن إلى الوراء، أو بمعنى آخر عندما نرصد النجوم البعيدة فأننا في الواقع نشاهد الماضي، فاذا كان عمر الكون هو 13.82 مليار عام، فيمكننا أن نتخيل إننا لو نظرنا بعيدا بما يكفي نرى الأنفجار العظيم ذاته! وهذا ليس مستحيلاً ولكن عملياً ينتصب بيننا وبين هذا الزمن المبكر حائط ليس كحيطان الغرفة التي تحجب الرؤية خارجها لأنها غير شفافة، بل هو بسبب حالة الكون الفيزيائية في تلك الحقبة المبكرة من عمره.
فعند العودة بالزمن إلى ولادة الكون، كان الكون ساخناً بدرجةٍ كبيرة جداً حوالي 273 مليون كلفن عندما كان حجم الكون مكافئاً لجزء من مائة مليون من حجمه الحالي، كانت المادة المهيمنة في الكون هي الهيدروجين وكان مُؤيَّناً بالكامل ، أي إن مكوناته الأساسية البروتونات والألكترونات منفصلة عن بعضها تحت درجات الحرارة المرتفعة هذه ( بلازما كثيفة)، وهي بلازما الجزيئات المشحونة والتي تتفاعل مع الأشعاع، حيث تمتص الجزيئات المشحونة (البروتونات) الأشعاع وتعيد انبعاثه فلا يستطيع الأشعاع المرور من خلال هذا التوالي المتواصل من المادة، أي أن الكون في تلك الحقبة لم يكن شفافا للأشعاع، وكان يغط في ظلام دامس بسبب حرارته المرتفعة جداً وكثافته العالية وحجمه الصغيرنسبة لما هو عليه اليوم، ثم بدأ الكون ينمو ويتوسع والذي يعرف بالتضخم Inflation حيث تضاعف حجم الكون بشكل سريع جدًا، وكلما تمدد انخفضت درجة الحرارة وقلت الكثافة أيضًا، حتى أصبحت درجة الحرارة مناسبة لعملية اندماج الإلكترونات مع البروتونات (إعادة الاندماج Recombination Era) وتشكيل ذرات الهيدروجين والهليوم بنسبة أقل ونفصل الأشعاع عن المادة في الفضاء دون عوائق بعدما كان الجميع بشكل حساء (شوربة)، واللحظة المحايدة حصلت بعد 379000 عام من عمر الكون أي قبل 13.7 مليار سنة، حيث أصبحت درجة حرارة الكون 3000 كلفن، وهذا يقابل طاقة تقدر بحوالي 0.25eV (0.25إلكترون فولت)، والتي هي أقل بكثير من طاقة تأين الهيدروجين والبالغة eV 13.6 ومنذ ذلك الحين ودرجة حرارة الإشعاع أخذة في الهبوط التدريجي بسبب توسع الكون، واقتراح جورج جاموف تلميذ العالم الروسي فريدمان أحد مؤسسي نظرية الأنفجار العظيم، عندما كان يُجري بحوثاً متعلقة بالأندماج النووي للانفجار العظيم، إذا كان الكون في وقت مبكر جدًا من تاريخه عبارة عن جسم ساخن وكثيف جدا ومشع فلا بد أن يكون إشعاعه باق إلى الآن، وكلما توسع الكون لا بد أن ينزاح نحو الأحمر (بسبب تأثير دوبلر) ولا بد ان يصبح اليوم بشكل إشعاع سنتمتري أو راديوي، بما يتناسب عكسيا مع طول عمر الكون، وقدر لدرجة حرارته أن تكون قد وصلت في عصرنا الحالي إلى 2.7 كلفن، على وفق الحسابات الرياضية لنظرية الأنفجار العظيم.
وفي عام 1964 كانا آرنو بينزياس و روبرت ويلسون يعملان في شركة بل للاتصالات بنيوجرسي ويختبران تلسكوبا للأمواج الراديوية (ميكروويف)، فاصابهما القلق بسبب إن تلسكوبهما كان يلتقط من الضجيج والتشويش أكثر مما ينبغي، فبحثا عن خلل ما، ثم اكتشفا إن الطيور وخصوصا الحمام تبني اعشاشها في قلب الهوائي وتترك فضلات في التلسكوب فقاما بأزالتها لكن التشويش بقي على حاله، لكن سرعان ما أدركا أن التشويش آتٍ من كافة أقطار السماء بانتظام، في الوقت ذاته كانا يعرفان أن أي ضجيج يصدرعن جو الأرض يكون أقوى إذا لم يكن التلسكوب موجهاً بشكل عمودي إلى أعلى منه إذا كان موجهاً بأتجاه الأفق، لأن موجات الضوء تخترق مسافة من جو الأرض عندما تأتي من قرب الأفق أطول منها عندما تأتي عمودياً، إلا أن الضجيج كان هو هو لم يتغير أيا كان اتجاه الهوائي، وبالتالي لابد أن يكون آتياً من خارج جو الأرض كما أنه ثابت في الليل والنهار وعلى مدار السنة رغم دوران الأرض حول محورها وحول الشمس، وتبين من ذلك أن هذا الإشعاع آتي من وراء النظام الشمسي بل ومن وراء المجرة إذ لوكان غير ذلك لتغير بتغير اتجاهات الأرض ومما يدل على أن الكون متشابه ولا يتغير مطلقاً بأكثر من واحد في العشرة آلاف وهكذا فقد وقع بنزياس وولسون عن غير قصد على اثبات الفرضية الأولى لفريدمان وبدقة بالغة، إذ قيست درجة حرارة هذا الأشعاع فوجدت 2.7 كلفن أي إنها متوافقة تماماً مع توقعات نظرية الانفجار العظيم، معطية دليلا قاطعا على وقوع الأنفجار العظيم ومفندة لنظرية الكون والمتذبذب ونظرية الحالة الثابتة المرفوضة حاليا من قبل من علماء الكون، وأطلق على الأشعاع أسم أشعاع المايكروويف الخلفي للكون Cosmic Microwave Background Radiation وبأختصار CMB وقد منحا جائزة نوبل لهذا الأكتشاف عام 1978 .
وفي عام 2001 أطلقت وكالة الفضاء ناسا مسبار ويلكينسون لتباين الأشعة الكونية WMAP مصمم لقياس الأشعة في بداية الكون، وخلال أقل من سنتين في الفضاء قام هذا المسبار برسم خريطة للكون بدرجة غير مسبوقة من التفصيل والدقة مقدماً أفضل صورة لعلماء الفلك حتى الآن لإحدى مراحل نشأة الكون منذ أكثر من 13.7مليار سنة، ويمثل هذا مجموعة النقاط في الفضاء تملأ كافة أرجاء الكون (حاليا حوالي 46 مليار سنة ضوئية من الأرض وهو الكون الملاحظ)، إعتبرت هذه شهادة ولادة للكون أو سجل إحفوري عن زمن سحيق، إضافة إلى معلومات أخرى عن شكل الكون، وصححت عمره حيث كان 13.7 مليار سنة ليصبح الآن 13.82 مليار سنة، وأظهرت أن نسبة الطاقة المظلمة هي %72 والمادة المظلمة %23 والمادة الأعتيادية المرئية لنا والتي تتكون منها النجوم والمجرات والكواكب وأجسامنا هي فقط %4.6 ، وحددت درجة الحرارة لحظة الأنفجار العظيم بـ 10اس32كلفن وكان يعتقد إنها ملانهاية.
تبدو صورة سماء CMB التي عرضتها ناسا بدون أية تحسينات عليها هناك تقلبات صغيرة في درجات الحرارة فالظاهر باللون الأحمر هو الجزء الساخن من الكون واللون الأزرق هوالجزء الأبرد، وتحولت كل نقطة في الصورة بعد أكثر من مليار سنة إلى نجم أو مجرة.
شبكة النبا المعوماتية