« دَور الإمام الجواد عليه السّلام في حراسة الدِّين وصيانته »

خَلَف الإمامُ أبو جعفر محمّد بن عليّ الجواد عليه السّلام أباه الإمامَ الرضا عليه السّلام في منصب الإمامة الإلهيّة العظيم، بعد أن استُشهد الإمام الرضا عليه السّلام على يد المأمون العبّاسيّ سنة 203 هـ.
وكان المأمون العبّاسيّ قد استقدم الإمام الرضا عليه السّلام من المدينة وعَهِد إليه بولاية العهد، في محاولة ماكرة لترضية العلويّين الذين كانت ثوراتهم تُوشِك أن تُقوّص دعائم الحكم العبّاسيّ. وكان أبو الحسن الرضا عليه السّلام لا يُحابي المأمون في حقّ، بل كان يَجبَهُه في كثير من الحالات، ممّا يثير غيظ هذا الحكم العباسيّ وحقده على الإمام. وكان عليه السّلام يُكثر وعظَه إذا خلا به ويحذّره عقابَ الله تعالى.
أمّا المأمون فكان يُظهر قبول ذلك ويُبطن خلافه. حتّى إذا استتبّ الأمر للمأمون عزم على التخلّص من أبي الحسن الرضا عليه السّلام، فاغتاله بالسمّ في عنب مسموم ومضى الإمام الرضا عليه السّلام إلى ربّه شهيداً مظلوماً وخلّف ولده الإمام الجواد عليه السّلام في المدينة.

بداية التحدّيات
بدأت إمامة الإمام الجواد عليه السّلام سنة 203 هـ، بعد شهادة أبيه الإمام الرضا عليه السّلام. وكان لأبي جعفر الجواد عليه السّلام يومذاك من العمر ثمانية أعوام وقد أُوتيَ الحُكم والحكمة صبيّاً، فقد ولد عليه السّلام في سنة 195 هـ وتسنُّمُ الإمام الجواد عليه السّلام لمنصبٍ خطير كمنصب الإمامة الإلهيّة يستدعي قيادةَ جماهير الأمّة على مختلف الأصعدة، بحيث يُذعن لحكمته ودرايته القريبُ والبعيد، والعدوّ والصديق، كلّ ذلك يتطلّب التصدّي لتحديّات كبيرة واسعة، وخاصّة في وسطٍ يحكم فيه بنو العبّاس الذين يدّعون أنّهم الأحقّ بالخلافة من أئمّة أهل البيت الأطهار عليهم السّلام، ويعتبرونهم المنافس الشديد لهم في هذا الأمر.
واجه الإمامُ الجواد عليه السّلام هذه الظروفَ بمتانة وحكمة، ويحدّثنا التاريخ أنّ أباه الإمام الرضا عليه السّلام قد أشار إلى ولده الجواد عليه السّلام بالإمامة من بعده، وأنّه عليه السّلام احتجّ على من استصغر سنّ الجواد عليه السّلام لمثل هذا المنصب المهمّ، فقد استصغر بعض أصحابه سنّ أبي جعفر الجواد عليه السّلام حين أوصى له أبوه الإمام الرضا عليه السّلام، فقال له أبو الحسن الرضا عليه السّلام: إنّ الله بَعَث عيسى ابن مريم رسولاً نبيّاً صاحبَ شريعةٍ مُبتدَأة في أصغرَ من السنِّ التي هو فيها
ورُوي أنّ الإمام الرضا عليه السّلام قال لعليّ بن أسباط: يا عليّ، إنّ الله احتجّ في الإمامة بمثل ما احتجّ في النبوّة، فقال وآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبِيّاً
، وقال ولمّا بَلَغَ أشُدَّه ، وبَلَغَ أربعينَ سَنةً ؛ فقد يجوز أن يُؤتى الحُكم صبيّاً، ويجوز أن يُعطاها وهو ابن أربعين سنة أي أنّ الاصطفاء الإلهيّ اصطفاءٌ طليق لا يخضع لاعتبارات السنّ والعمر، بل يرتبط بالمضمون الإلهيّ في داخل من يصطفيه الله تعالى ويختاره.
وقد نُقل أنّ العبّاسيّين استكبروا على المأمون تزويجَه ابنتَه أمَّ الفضل من أبي جعفر الجواد عليه السّلام ـ وكان المأمون أراد بذلك استمالتَه وفَصْلَه عن جماهير شيعته من جهة، والتظاهر بالبراءة من دم أبيه الإمام الرضا عليه السّلام الذي كان قد اغتاله آنفاً من جهة ثانية، كما أراد كسب مودّة الشيعة من خلال التقريب الظاهريّ لإمامهم من جهة ثالثة ـ وناشدوا المأمونَ أن ينصرف عن أمر هذا التزويج، وقالوا: إنّا نخاف أن تُخرِجَ عنّا أمراً قد مَلَّكَناهُ اللهُ، وتَنزعَ عنّا عِزّاً قد ألْبَسَناهُ الله! فأبى المأمون أن يُصغي إلى كلامهم، فقد كان أدهى من أن يُسلّم بهذه البساطة عرشاً قَتَل من أجله أخاه الأمينَ ثمّ الإمامَ الرضا عليه السّلام، وسفك دماء الآلاف من المسلمين.
ثمّ توسّل العبّاسيون بطريقة أخرى لصرف المأمون عمّا عزم عليه، وهو التشكيك بمدى مقدرةِ صبيٍّ صغير لم يبلغ ـ في نظرهم ـ السنَّ التي ينبغي أن يَبلُغَها من يُصاهِر الخليفة، وعرضوا على المأمون أن يسمح لهم باختباره، فأذن لهم في ذلك

مكيدة يحيى بن أكثم الفاشلة
خرج العبّاسيّون من عند المأمون، واجتمع رأيُهم على مسألة يحيى بن أكثم ـ وهو يومئذٍ قاضي القضاة ـ على أن يسأل الإمامَ الجواد عليه السّلام مسألة لا يَعرِف الجوابَ فيها، ووعدوه بأموالٍ نفيسة على ذلك، ثمّ عادوا إلى المأمون وسألوه أن يختار لهم يوماً للاجتماع، فأجابهم إلى ذلك... ثمّ إنّ يحيى بن أكثم قال للمأمون: أتأذَنُ لي أن أسأل أبا جعفر عن مسألة ؟
فقال المأمون: استأذِنْه في ذلك.
فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال: أتأذن لي ـ جُعِلتُ فداك! ـ في مسألة ؟
فقال أبو جعفر عليه السّلام: سَل إنْ شئتَ!
فقال يحيى: ما تقولُ ـ جُعلت فداك ـ في مُحْرِمٍ قَتَل صَيْداَ ؟
فقال أبو جعفر عليه السّلام: قَتَلَه في حِلّ أو حَرَم ؟ عالِماً كان المُحرِمُ أو جاهلاً ؟ قَتَله عَمْداً أو خَطأً ؟ حُرّاً كان المُحرمُ أم عبداً ؟ صغيراً كان أم كبيراً ؟ مُبتدئاً بالقتل كان أو مُعيداً ؟ مِن ذواتِ الطيرِ كان الصيدُ أم مِن غيرها ؟ مِن صغارِ الصيدِ أم مِن كباره ؟ مُصِرّاً على ما فَعَل أو نادماً ؟ في الليل كان قَتْلُه للصيد أم في النهار ؟ مُحرِماً كان بالعُمرة إذ قَتَله أو بالحجّ كان مُحرماً ؟
عندئذ تحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع، ولَجْلَج حتّى عَرَف جماعةُ أهل المجلس عَجزَه
ثمّ إنّ المأمون سأل الإمامَ الجواد عليه السّلام أن يُجيب عن تلك الأسئلة، فأجاب عن جميع المسائل بما هو مشهور.
وهكذا فشلت مكيدة يحيى بن أكثم، وأخفقت مساعي العبّاسيّين في الغمز من مقام الإمام الجواد عليه السّلام، وبان للجميع فضلُه وعِلمُه على حداثة سنّه ونعومة أظفاره.

المأمون العبّاسيّ وسياسة الاحتواء
حاول المأمون العبّاسيّ ـ بدهائه المشهور ـ أن يُجرّب مع الإمام الجواد عليه السّلام نفسَ السياسة التي انتهجها مِن قَبلُ مع أبيه الإمام الرضا عليه السّلام، على الرغم من أنّ تلك السياسة مُنيت من قبلُ بالخيبة والخُسران.
ولعلّ ما شجّعه على معاودة الكرّة من جديد أنّ أمامه هذه المرّة إماماً في مُقتبَل العُمر قد تُفلح معه سياسة الاحتواء، ولعلّه سيبدو في أعين شيعته وأتباعه واحداً من المنتسبين إلى بلاط المأمون، أو لعلّه عليه السّلام ـ على أقلّ تقدير ـ سيرضى أن يبقى في خراسان فيكون تحت رقابة المأمون وأزلامه، ممّا سيحدّ من نشاطات الإمام عليه السّلام، ويقلّل ـ إلى درجة كبيرة ـ
ارتباطه بشيعته وجماهيره المؤمنة به.
وفكّر المأمون أنّ مشروع تزويج الإمام الجواد عليه السّلام من أمّ الفضل بنتِ المأمون كفيلٌ بتحقيق ما يصبو إليه المأمون ويَعقِدُ عليه الآمال.
وهكذا طرح المأمون على الإمام الجواد عليه السّلام فكرة تزويجه من أمّ الفضل، تلك الفتاة التي ستصبح في المستقبل عيناً للمأمون في بيت الإمام الجواد عليه السّلام تُحصي عليه أنفاسه. ومَن يدري فلعلّها ستُرزَقُ ولداً من الإمام الجواد عليه السّلام يكون حفيداً للمأمون فيمكنه من خلاله أن يدّعي أنّ له قرابةً ورَحِماً مع وُلد فاطمة الزهراء عليه السّلام، ويكون ذلك مدعاة لإخماد سخط العلويّين الذين ما بَرِحوا يتذمّرون من حُكم بني العبّاس ويَسخطون عليهم حِرمانَهم إيّاهم حقوقَهم.
وقد نوّهنا بالمعارضة القويّة التي أبداها العبّاسيّون لفكرة الزواج، ومخاوفِهم التي أعلنوا عنها، وإظهارهم الخشيةَ من فقدانهم مقاليدَ الحُكم الذي تسنّموه، وذكرنا فشلَ العبّاسيّين ـ ومعهم يحيى بن أكثم ـ في محاولتهم الغمز من مقام الإمام الجواد عليه السّلام والتشكيك في مقدرته العلميّة.
وتمّ الزواج بإصرار كبير من المأمون العبّاسيّ، وزُفّت أمّ الفضل إلى بيت الإمام أبي جعفر الجواد عليه السّلام، في احتفال ضخم أحاطه المأمون العبّاسي بمظاهر البذخ والبذل ممّا ندر مثيله مِن قَبل

تدبير الإمام الجواد عليه السّلام
ويحدّثنا التاريخ أنّ الإمام الجواد عليه السّلام لم يُقِم في بغداد، وأنّه انصرف إلى مدينة جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد زواجه بأمّ الفضل، فأحبط بذلك مكرَ المأمون وفوّت عليه تدبيره في محاولة احتوائه وفَصْلِه عن شيعته وجماهير مُحبّيه ، وأنّه بقي في المدينة يتعاهد أمورَ شيعته إلى أن استدعاه المعتصم العبّاسيّ ـ خَلَف المأمون ـ في أوّلِ سنةِ 220 هـ، فأقام في بغداد حتّى استُشهِد في آخر ذي القعدة من تلك السنة
كما يحدّثنا التاريخ أنّ أمّ الفضل بنتَ المأمون لم تُرزَق من الإمام الجواد عليه السّلام ولداً، وهكذا فَوَّتت المشيئة الإلهيّة على المأمون حيلته وتدبيره في ربط نفسه بأهل البيت عليهم السّلام عن هذا الطريق.
ونلاحظ من جانب آخر أنّ الإمام الجواد عليه السّلام قد سعى في حفظ وتقوية ارتباطه بشيعته عن طريق نصب الوكلاء وإرسال الموفَدين، وأنّه أمر أولئك الوكلاء والموفدين بالعمل بما من شأنه تقوية وحدة الشيعة والاحتراز من التفرقة. ونجد أنّ الإمام الجواد عليه السّلام قد بعث وكلاء إلى مناطق الأهواز، وهَمَدان، وسِيستان، وبُسْت، والريّ، والبصرة، وواسط، وبغداد، والكوفة، وقمّ.
وقد أجاز الإمام الجواد عليه السّلام لبعض شيعته النفوذَ في مراكز الحكومة وتسنُّمَ المناصب المهمّة، من أجل حماية إخوانهم الشيعة، فصرنا نجد أفراداً من أمثال محمّد بن إسماعيل بن بُزَيع وأحمد بن حمزة القمّي يحتلّون مناصب رفيعة في الدولة، وصرنا نجد أنّ نوح بن درّاج يصبح قاضيَ بغداد ثمّ قاضي الكوفة.

وضع الإمام الجواد عليه السّلام في عصر المعتصم العبّاسيّ
مات المأمون العبّاسيّ فجأة سنة 218 هـ عندما كان في طريقه إلى قتال الروم، في منطقة تُدعى « بديدون » على الساحل الشاميّ. وكان قادة جيشه يرغبون في مبايعة العبّاس بن المأمون، لكنّ الأخير بايع عمّه أبا إسحاق المعتصم عملاً بوصيّة المأمون.
وهكذا تصدّر المعتصم حكومة الدولة الإسلاميّة، لكنّه ـ خلافاً لسلفه المأمون ـ كان يفتقر إلى الدهاء والفطنة، وكان حظّه في العِلم والدراية قليلاً، يميل إلى الخشونة والقوّة. وكانت تلك الصفات من العوامل التي شجّعته على فتح الباب للأتراك للتدخّل في الأمور العسكريّة والنفوذ إلى مراكز الدولة. ومن أوّل ما فعله المعتصم بعد دخوله بغداد سنة 218 هـ أنّه أرسل إلى الإمام الجواد عليه السّلام في المدينة يستدعيه إلى العاصمة بغداد.
ورأينا أنّ الإمام الجواد عليه السّلام لمّا استدعاه المعتصم إلى بغداد قد عَهِد إلى ابنه عليّ الهاديّ عليه السّلام بعده، وقال لإسماعيل بن مِهران: عند هذه يُخاف عَلَيَّ؛ الأمرُ من بعدي إلى ابني عليّ

الإمام الجواد عليه السّلام وتثبيت الاعتقاد بالإمامة
مرّ بنا أنّ الإمام الجواد عليه السّلام خَلَف أباه الإمام الرضا عليه السّلام وهو فتىً يافع، وأنّ ذلك ممّا تذرّع به بعض أعدائه وحسّاده من العبّاسيّين وغيرهم في الطعن بعلمه ومقدرته، وأنّ هؤلاء وغيرهم أذعنوا بعد ذلك لإمامة أبي جعفر الجواد عليه السّلام لِما رأوا من عِلمه وفضله؛ وقد ذكرنا واقعة الامتحان الذي أعدّه له القاضي يحيى بن أكثم بطلب من العبّاسيّين، وبيّنا الإخفاق الذريع الذي لحق بيحيى بن أكثم حتّى لجلج وبان العجز في وجهه.
ومن الأمور التي انتهجها الإمام الجواد عليه السّلام في تثبيت مسألة الاعتقاد بإمامته الشريفة في قلوب شيعته ومُواليه، أنّه كان يُخبرهم أحياناً عمّا في نفوسهم، ويسمح لهم أحياناً أخرى بسؤاله واختباره. ونجد أنّ الإمام الجواد عليه السّلام كان يتعامل بالشدّة أحياناً مع الذين كانت السلطة العبّاسيّة تستأجرهم للنيل من مقام الإمام الشامخ والإزراء به.
ومن الأمثلة على الأسلوب الأوّل نقرأ: أنّ ابن حديد يروي أنّه خرج مع جماعة حاجّاً فقُطع عليهم الطريق، فلمّا دخل ابنُ حديد المدينةَ لَقِيَ أبا جعفر الجواد عليه السّلام في بعض الطريق فأخبره بالذي أصابهم، فأمر الإمام عليه السّلام له بكسوة وأعطاه دنانير، وقال له: فَرِّقها على أصحابك على قَدْر ما ذَهَب! فقسم ابن حديد الدنانير فإذا هي على قدر ما ذَهَب منهم، لا أقلّ ولا أكثر
وروى عليّ بن جَرير أنّه كان جالساً عند أبي جعفر الجواد عليه السّلام وقد ضاعت شاة لمولاةٍ له، فأخذوا بعض الجيران يجرّونهم إليه ويقولون لهم: أنتم سَرَقتم الشاة! فقال أبو جعفر عليه السّلام: وَيلكم! خَلُّوا عن جيراننا فلم يَسرِقوا شاتكم؛ الشاةُ في دار فلان فاذهبوا فأخرِجوها من داره. فخرجوا، فوجدوا الشاة في دار ذلك الرجل، فاتّهموه بسرقتها وصاروا به إلى الإمام الجواد عليه السّلام، فقال لهم: وَيْحكم! ظلمتم الرجل، فإنّ الشاة دخلت دارَه وهو لا يعلم بها
وروى ابن عيّاش في كتاب أخبار أبي هاشم الجعفريّ، قال: دخلتُ على أبي جعفر عليه السّلام ومعي ثلاث رقاع [ رسائل ] غير مُعَنْوَنة [ أي لم تُذكر فيها اسماء كاتبيها ]، فاشتَبَهتْ علَيّ، فاغتممتُ لذلك، فتناول عليه السّلام إحداهنُ وقال: هذه رقعة ريّان بن الشبيب؛ وتناول الثانية وقال: هذه رقعة محمّد بن أبي حمزة؛ وتناول الثالثة وقال: هذه رقعة فلان! فَبُهِتُّ، فنظر عليه السّلام وابتسم
شبكة الامام الرضا عليه السلام