امتاز أهل البيت عليهم السّلام في هذا المجال، بعد كل هذا وذاك، بمواقف متميّزة من القرآن أشدّ تميّزاً مما سبق، نشير إلى أبرز هذه المواقف:أ . الحثّ على تقديم القرآن على الهَوى، لا العكس
حثّ أهل البيت صلوات الله عليهم المسلمين في أكثر من موضع، على تقديم القرآن على الهوى، في عهودٍ ساد فيها الميل بالحق إلى الهوى، وحمل الكتاب على الرأي الشخصيّ، وجعل القرآن مَقُوداً وتابعاً، بعد أن كان قائداً ومتبوعاً!
• في الخطبة رقم (87) من نهج البلاغة يقول الإمام عليّ عليه السّلام واصفاً المؤمن، كما يصف بعد ذلك الفسّاق، ويعدّد صفاتهم:
«قد أَمكَنَ الكتابَ (أي القرآن) مِن زمامهِ، فهو قائده وإمامُه، يَحلُّ حيثُ حلّ ثَقَلُه، وينزل حيث كان منزلُه.
وآخرُ قد تسمى عالِماً وليسَ به.. قد حَمَلَ الكتابَ (القرآن) على آرائِه، وعطف الحق على أهوائه».
• وقال عليه السّلام في الخطبة رقم (138) وهو يصف سياسة الإمام المهدي عليه السّلام الذي تحدثت أحاديث الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله عن ظهوره وإصلاحه لما فسد من أحوال العالم البشري (55) :
«يعطفُ الهَوى عَلى الهُدى إذا عَطَفوا الهدى على الهوى، ويعطفُ الرأيَ على القرآنِ إذا عَطَفوا القرآن على الرأي».
• يقول الشيخ محمّد عبده شارح نهج البلاغة في شرح هذا الكلام العَلَوّي: (يعطف) خبر عن قائم ينادي بالقرآن ويطالب الناس باتّباعه، وردِّ كلِّ رأي إليه. ومعنى (يعطف الهوى) يقهره ويميل به عن جانب الإيثار، فيجعل الهُدى ظاهراً على الهوى. وكذلك قوله (ويعطف الرأي على القرآن) أي يقهرُ حكم الرأي والقياس، ويجعل الغلبة للقرآن عليه، ويحمل الناس على العمل به دونه. (56)ب. التأكيد على دَور العترة في القرآن
رسمَ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله الخطَّ الذي ينبغي أن يسير عليه المسلمون من بعده عندما قال: «إنّي تاركٌ فيكمُ الثَّقلَين: كتابَ اللهِ، وعترتي أهلَ بيتي. ما إن تمسَّكتُم بهما لن تَضلُّوا أبداً، وإنَّهما لن يفترقا حتّى يَرِدا عليَّ الحوضَ». (57)
وبذلك يتَوجَّب على المسلمين إذا أرادوا ان يبقَوا على هَدي رسول الله صلّى الله عليه وآله ان يرجعوا إلى هذين المصدرين: القرآن الكريم وأهل البيت، والاستغناء عن أيّ واحدٍ منهما يعني مخالفة ما أتى به النبيّ صلّى الله عليه وآله وما أوصى به.
من هذا المنطلَق بقي أهلُ البيت عليهم السّلام يحثُّون المسلمين على فهم القرآن في ضوء تفسير أهلِ البيت وتوضيحاتهم، وعدم الاستقلال بالفهم الشخصي. فعِدْل القرآن (أي العترة) هو المرجع الشرعي النهائي الوحيد ـ بموجب حديث الثَّقلين ـ الذي يؤخذ منه تفسير الكتاب وبيان مقاصده ومراميه.
ونشير هنا إلى نموذج من الموضوع:
دخل قَتادة (الفقيه المشهور) على الإمام محمَّد بن عليّ الباقر عليه السّلام فقال له الإمام:
ـ انت فقيه أهل البصرة ؟
فقال: نعم، هكذا يزعمون.
قال الإمام عليه السّلام: بلغني أنك تفسّر القرآن ؟
قال: نعم.
فانكر عليه الإمامُ ذلك قائلاً:
«يا قتادة، إن كنت قد فسّرتَ القرآنَ مِن تلقاء نفسك فقد هَلكتَ وأهلكتَ، وإن كنتَ قد فَسَّرتَه من الرّجال فقد هلكتَ وأهلكت. يا قتادة، ويحك! إنّما يعرف القرآنَ من خُوطِبَ به». (58)
والمراد هو معرفة القرآن حقَّ المعرفة لا معرفة معاني كلماته ومعانيه المتعارفة، ذلك أن أهل البيت عليهم صلوات الله هم الذين يعرفون المُحكم من المتشابه، والناسخ من المنسوخ، وليس عند غيرهم ما عندهم من هذا العلم، وقد اُثِرَ عن الأئمّة عليهم السّلام القول:
«إنّه ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، الآية يكون أوّلها في شيء وآخرها في شيء، وهو كلام متّصل ينصرف إلى وجوه». (59)
وقد أعطى أهل البيت عليهم السّلام نماذج من التفسير الصحيح للقرآن الذي خفي عن الآخرين، وكانوا بذلك خير معلِّمٍ للمسلمين لكيفية فهم القرآن.
ونكتفي هنا بذكر نموذجين من هذا الأمر:
عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرّة المحدّث أن أُدخلَه على أبي
الحسن الإمام الرضا عليه السّلام، فاستأذنتُه في ذلك فأذنَ لي، فدخل عليه، فسأله عن الحلال والحرام حتّى بلغ سؤالُه إلى التوحيد، فقال أبو قرّة: إنا رَوَينا أنّ الله قسّم الرؤية والكلام؛ الكلام لموسى، ولمحمّد الرؤية. فقال أبو الحسن عليه السّلام: فمَن المبلّغُ عن الله إلى الثقلين من الجنّ والإنس: لا تُدركه الأبصار، ولا يُحيطون به علماً، وليس كمِثله شيء ؟! أليس محمّد صلّى الله عليه وآله ؟! قال أبو قرة: بلى.
فقال الإمام عليه السّلام: كيف يجيء رجلٌ إلى الخَلق جيمعاً فيخبرهم أنه جاء من عند الله، وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله، فيقول: لا تدركه الأبصار، ولا يحيطون به علماً، وليس كثمله شيء، ثمّ يقول: أنا رأيتُه بعيني، وأحَطتُ به علماً وهو على صورة البشر؟!
قال أبو قرّة: فانه يقول: «ولقد رآه نَزلةً أُخرى» .
فقال الإمامُ أبو الحسن: إنَّ بَعدَ هذه الآية ما يدلُّ على ما رأى، حيث قال: «ما كَذَبُ الفؤادُ ما رأى» يقول: ما كَذَبَ فؤادُ محمّد ما رأت عيناه، ثمّ أخبر بما رأى فقال: «لقد رأى مِن آياتِ ربِّه الكبرى» فآياتُ الله غيرُ الله، وقد قال الله: «ولا يُحيطونَ به علماً» فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلمُ ووقعت المعرفة.
فقال أبو قرّة: فتكذّبُ بالروايات ؟
فقال أبو الحسن عليه السّلام: إذا كانت الرواياتُ مخالِفةً للقرآن كذَّبتُها، وما أجمع المسلمون عليه [هو] أنّه لا يُحاط به علماً ولا تُدركُه الأبصار وليسَ كمثله شيء. (60)
وأمّا ما أعطاه الأئمّة في مجال التشريع والفقه فنأتي بنموذج أو نموذجين فيه:
عن عبد الأعلى آل سام قال: قلت لأبي عبدالله الصادق عليه السّلام: عَثَرتُ فانقطع ظُفري فجعلتُ على إصبعي مرارةً، فكيف أصنَع بالوضوء ؟
قال عليه السّلام:
يُعرف هذا وأشباهُه من كتاب الله عزّوجلّ، قال الله تعالى: «ما جَعَل عليكم في الدِّينِ مِن حَرَج» إمسَحْ عليه. (61)
وعن زُرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: ألا تُخبرني من أين علمتَ وقلت: إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرِّجلين ؟
فضحك ثمّ قال: يا زُرارة، قاله رسول الله صلّى الله عليه وآله، ونزلَ به الكتاب من الله عزّوجلّ، لأنّ اللهَ عزّوجلّ يقول: «فاغسِلوا وجوهَكم» فعَرَفنا أنّ الوجهَ كلَّه ينبغي أن يُغسَلَ، ثمّ قال: «وأيديَكم إلى المَرافِق» فَوَصَل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يُغسَلا إلى المرفقين، ثمّ فَصَل بين الكلام فقال: «وامسحوا برؤوسِكم» فعرفنا حين قال: «برؤوسكم» أنّ المسح ببعض الرأس لمكان «الباء»، ثمّ وصل الرِّجلين بالرأس كما وَصَلَ اليدين بالوجه، فقال: «وأرجلَكم إلى الكعبين» فعرفنا حين وَصَلَهما (وصلها) بالرأس أن المسح على بعضهما (بعضها)، ثمّ فَسَّر ذلك رسولُ الله صلّى الله عليه وآله فضيّعوهُ. (62)
ج. الردع عن المتاجرة بكتاب الله بكلّ أشكاله
وكان مما وقف منه أهلُ البيت عليهم السّلام موقفاً حازماً ومتميّزاً هو عملية المتاجرة بالقرآن الكريم بجميع أشكالها، والدعوة إلى تعلّم قراءة القرآن، وقراءته، وحفظه، والتدبُّر فيه لأنّه كتاب الله المنزَّل لهداية البشرية، وصوناً للقرآن من أن يصير إلى ما صارت إليه الكتبُ السماويةُ السالفة، فيقع المسلمون فيما وقع فيه أهل الكتاب من ممالأة الجبابرة والطواغيت على حساب كتبهم. وكذا المتاجرة بتلك الكتب، من خلال تحريفها وتبديلها لقاء امتيازات ماديّة أو ما شابه ذلك.
ونسوق هنا نموذجاً واحداً من عشرات النماذج في هذا المجال، قال الإمام جعفر الصادق عليه السّلام:
«مَنْ دخَلَ عَلى إمامٍ جائِرٍ فَقَرَأَ عليه القرآنَ يريدُ بذلك عَرَضاً مِن عَرَض الدُّنيا لُعِنَ القارئ بِكلِّ حَرفٍ عَشرَ لَعَناتٍ، ولُعنَ المُستَمِعُ بكلّ حَرفٍ لعنةً». (