بسم الله الرحمن الرحيم
ظلَّ الحُكام المستبدون يناصبون العداء لمدرسة أهل البيت(ع) والمؤمنين بهذه المدرسة أيضاً، فأصبح ذلك منهجاً يسير عليه السلف ثم الخلف من حكام الجور. والسرّ في هذا العداء، يكمن في أحقية القيادة المعصومة، في تولي أمور المسلمين، وهذا ما لا يطيقه حكامُ الجور المتسلطون على رقاب الناس. وبقي هذا الصراع دائراً طيلة حياة الأئمة المعصومين(ع).
والامام الرضا(ع) يشكل احدى حلقات هذا الصراع العنيف، خصوصاً في مدّة إمامته التي دامت عشرين عاماً. لقد عاصر الامام الرضا(ع) أوج عنفوان الدولة العباسية، هذه الدولة التي بُنيت على شعار(الرضا من آلِ البيت)، مستغلةً ميل الناس الى أهلِ البيت(ع). هذه العِترَة التي عانت ماعانت، من أيامِ الحكم الأموي البغيض، الذي انهار في عام 132 هـ، لتتأسس الدولة العباسية. وفي بواكير الدعوة للعباسيين في دورها السرّي، كان أبو مسلم الخراساني وابو سلمة الخلال من دعاتِها، تحدّثُنا الوقائع أنّ الإمام الصادق عليه السّلام، رفض الاستجابة لهما فعندما كتب أبو مسلم، كتاباً للإمام الصادق(ع) يُبايِعُهُ على أنْ يكون ولياً لأمور المسلمين، فقال(ع) لحامل الكتاب: (ليس لكتابِكَ جوابٌ، أُخرج عنّا)، وتكرر عرض هذه الدعوة، لكنّها جُوبهت بالرفض من قبل الإمام الصادق(ع)مرات عديدة.
وبعد ممارسة الحُكم العباسي على ارض الواقع تكشفت الحقائق، وعرف الناس أنّ العباسيين ليسوا إلاّ طلاّب سلطة، قدّ دلّسوا و زيفوا على الناس خباياهم. وبدأ الصراع بين العباسيين والأئمة المعصومين(ع) منذ حياة الامام الصادق(ع)، وازدادت حدةُ الصراع في زمن الامام الكاظم (ع). و كانت بداية خلافة هارون العباسي عام 170، ذروة الصراع الذي استمر حتى زمن الامام الحسن العسكري(ع)، الذي استُشهِدَ عام 260 هـ، لينتقل الصراع بعدَهم، ليكون مع السائرين على منهجهم(ع). لقد عانى الناس من ظلم السلطة وجورها، أكثر مما عانوه، في زمن حكم الأمويين.
يرسمُ لنا الأصمعي صورة تململ الناس من العباسيين فيقول: أنّ المنصور الدوانيقي، لقي إعرابياً في الشام فقال له: إحمِدْ اللهَ يا إعرابي، الذي رفعَ عنكُم الطاعونَ بولايتِنا أهلِ البيتِ، قال الإعرابي: إنّ اللهَ أكرمُ من أنْ يجمعَ علينا ولايَتَكُم والطاعون.
أمّا تبذير المالِ العام، والفساد الاخلاقي والمالي والاداري، فقد كان لصيقاً بحكام بني العباس وحواشيهم، تذكر المصادر أنّ غُلةَ الخيزران أمِّ هارون العباسي، كانت مئةً وستين مليون درهم بالسنة. يقولُ السيوطي في تاريخ الخلفاء: ((لما مَلَكَ الأمينُ، وجّهَ الى البلدانِ في طلبِ المُلهينَ، و أجرى لهم الأرزاقَ، واقتنى الوحوشَ والسباعَ والطيور... ومحقَ ما في بيوتِ الأموالِ، وضيّعَ الجواهرَ والنفائسَ وبنى عدةَ قصورٍ للهو)). في عام 198 هـ، حصل نزاع بين الأمين والمأمون على الخلافة، وانتهى الأمر بمقتل الأمين وتولى المأمون الخلافة، ونقل عاصمة الدولة العباسية من بغداد الى مدينة (مرو)، لتفادي الفتن ودسائس العباسيين، لأنّهم لا يرونَ فيه، النسب العربيّ الأصيل، لأنّ أُمَّهُ، كانت جارية فارسية.
وتفاقم الوضع في أوائل حكم المأمون العبّاسي، حتّى عَدَّ المؤرّخون ما يقرب من ثلاثين ثورة حدثت، قام بها العلويون، وقعت بين أيّام السفّاح، وأوائل أيّام المأمون( سنة 200 هـ )، أي في فترة لا تتعدى سبعين عاماً. وفي نفس العام الذي تولى فيه المامون الخلافة، حصلت ثورة كبيرة في خراسان بقيادة الحسن الهَرش. وحدثت ثورة في البصرة، بقيادة شقيق الإمام الرضا(ع)، زيد بن موسى بن جعفرعليهما السلام. وفي نفس الفترة ثار إبراهيم بن موسى بن جعفر في اليمن. وثار في مكة محمّد بن محمد بنِ زيد، ومعه أبو السرايا.
و روى أبو الفرج في الأغاني(أن ابن طباطبا(وهو محمد بن إبراهيم، من احفاد الحسن المثنّى)، خرج يوماً يمشي في بعض طرق الكوفة، إذ نظر إلى عجوز تَتْبَعُ أحمال الرُّطَبِ، فتلقط ما يَسقِط منها، فتجمعه في كساءٍ عليها رثّ، فسألها عمّا تصنع بذلك، فقالت له: إنّي امرأة لا رَجُل لي يَقومُ بمؤونَتي، ولي بنات لا يَعُدْنَ على أنفُسِهنّ بشيء، فأنا أتتبّعُ هذا منَ الطريقِ وأتقوّتُه أنا ووُلدي. فبكى ابن طباطبا بكاءً شديداً وقال:أنتِ واللهِ وأشباهُكِ تُخرجوني غداً حتّى يُسفكَ دمي. وقرّ قرارُه على الثورة)) فثار في الكوفة.
لقد كانَ المأمون يعيش عقدة الشعور بالنقص أمام نسب أمّه، فأخذ يحث الخطى منذ نعومة اظفاره، لاكتساب العلوم والمعارف، وكان غايةً في المكر والذكاء والدهاء، وعندما أحسّ بضَعف موقفه، بعد قتله أخيه الأمين عام 198 هـ، واهتزاز صورَتِه في أعين الناس، لجأ الى الامامِ الرضا (ع)، ليستمد من شخصية الإمام، عنصر الشرعيّة في الحكم، والتأييد الجماهيري له. فقال المأمون للإمام الرضا(ع): فإنّي قد رأيت أنْ أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلَها لك، وأُبايِعَك. فقال الإمام(ع): إنّ كانت هذه الخلافة لك، فلا يجوز أنْ تخلع لباساً ألبَسَكَهُ اللهُ وتجعلَهُ لغيرك، وإنْ كانت الخلافة ليست لك، فلا يجوز أنْ تجعل لي، ما ليس لك. قال المأمون: لابدّ لك من قبول هذا الأمر.
فقال عليه السّلام: لست أفعل ذلك طائعاً أبدا. والحَّ المأمون في هذا الطلب، و هَدّدَ الامامَ(ع) بالقتل فأَجْبَرَ الامام الرضا(ع) مكرهاً، على قَبول ولاية العهد، ولكن بشروط. وكانت شروط الإمام الرضا(ع) غايةً في الحكمة، حيث اشترط1). لا أُولّي أحداً ولا أعزل أحداً. (2). ولا أنقض رَسماً ولا سُنّة. (3). وأكون في الأمر من بعيدٍ مُشيراً.
إنّ هذه الشرط تحمل ابعاداً استراتيجية غاية في الدّقة، فقد نأى الإمام الرضا(ع) بنفسه عن جميع اخطاء السلطة الحاكمة، وضمن افشال المؤامرة التي حيكت ضده، لغرض اسقاطه منْ نفوس الناس، باظهاره بمظهر طالب دنيا وسلطان. وبالوقت نفسه، فوّت على المأمون فرصة الاستفادة، من عصمويّة الامامِ، لاضفاء الشرعية على حكمه. كما استفاد الامام من هذا الوضع، لتنظيم قواعده الجماهيرية التي أخذ حجمُها يزداد باضطراد، بسبب الآراء العلمية التي كان يطرحُها الامام الرضا(ع)، في مناقشاته الكثيرة مع اصحابِ الكلام وارباب الفلسفة والعقائد المختلفة.
وقدّ أجاب(ع) على جميع المشكّكين والحائرين في أمر ولاية العهد قائلاً: (ويحَهُم! أما علموا أنّ يوسُفَ عليه السّلامُ كانَ نبيّاً ورسولاً، فلمّا دفعته الضرورةُ إلى تولّي خزائنِ العزيزِ قال: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ). ودفعتني الضرورةُ إلى قبولِ ذلك على إكراهٍ وإجبار، بعد الإشرافِ على الهلاك، على أنّي ما دخلتُ في هذا الأمرِ، إلاّ دخولَ خارجٍ منه، فإلى اللهُ المُشتكى وهو المستعان.).
لقد كان الهدف الأسمى عند الامام الرضا(ع) اظهار الاسلام دوماً بصورته الناصعة، على ضوء هدي القرآن الكريم، وسيرة المعصومين من آبائه(عليهم السلام). أمّا في مجالس الاحتجاج، فكان الإمام الرضا(ع)، يجيب عن كلِّ سؤال، ويردُّ كلَّ شبهةٍ و يفنّدُ كلَّ ضلالٍ، ولم يكن من المأمونِ إلاّ أنْ يقولَ له: (فرّجتَ عنّي يا أبا الحسن، فرّجَ الله عنك، لله دَرُّك يا ابنَ رسولِ الله، أشهدُ أنّكَ ابنُ رسولِ اللهِ حقّا، باركَ اللهُ فيكَ يا ابنَ رسولِ الله، جزاكَ اللهُ عن أنبيائهِ خيراً يا أبا الحسن). بعد التمعن في هذا المقطع، نجد أنّ الإمام فرض شخصيته المتميزة على الساحة الفكريّة، كما فرضها على المأمون ورجاله وعلماء ذلك العصر، وأخذَ يُسحِرُهُم ببيانه، وأكد في تلك المناظرات دور القيادة المعصومة بأنّها مع القرآن الكريم، وأثبت(ع) دورَه في الحفاظ على الاسلام، و زوّد الجماهير المؤمنة، بطاقات عقائدية وفكرية، رسخت الاسلام في النفوس، وعززت الروح المعنوية بشكل فاعل عند المؤمنين، وبهذا التسديد الإلهي حافظ الإمام على استمراريّة خط الاسلام في الوجود.
فسلامٌ عليكَ يا ابا الحسن، يومَ ولِدتَ ويومَ استشهدتَ ويومَ تبعثُ حيا، والعاقبةُ للمتقين.
ظلَّ الحُكام المستبدون يناصبون العداء لمدرسة أهل البيت(ع) والمؤمنين بهذه المدرسة أيضاً، فأصبح ذلك منهجاً يسير عليه السلف ثم الخلف من حكام الجور. والسرّ في هذا العداء، يكمن في أحقية القيادة المعصومة، في تولي أمور المسلمين، وهذا ما لا يطيقه حكامُ الجور المتسلطون على رقاب الناس. وبقي هذا الصراع دائراً طيلة حياة الأئمة المعصومين(ع).
والامام الرضا(ع) يشكل احدى حلقات هذا الصراع العنيف، خصوصاً في مدّة إمامته التي دامت عشرين عاماً. لقد عاصر الامام الرضا(ع) أوج عنفوان الدولة العباسية، هذه الدولة التي بُنيت على شعار(الرضا من آلِ البيت)، مستغلةً ميل الناس الى أهلِ البيت(ع). هذه العِترَة التي عانت ماعانت، من أيامِ الحكم الأموي البغيض، الذي انهار في عام 132 هـ، لتتأسس الدولة العباسية. وفي بواكير الدعوة للعباسيين في دورها السرّي، كان أبو مسلم الخراساني وابو سلمة الخلال من دعاتِها، تحدّثُنا الوقائع أنّ الإمام الصادق عليه السّلام، رفض الاستجابة لهما فعندما كتب أبو مسلم، كتاباً للإمام الصادق(ع) يُبايِعُهُ على أنْ يكون ولياً لأمور المسلمين، فقال(ع) لحامل الكتاب: (ليس لكتابِكَ جوابٌ، أُخرج عنّا)، وتكرر عرض هذه الدعوة، لكنّها جُوبهت بالرفض من قبل الإمام الصادق(ع)مرات عديدة.
وبعد ممارسة الحُكم العباسي على ارض الواقع تكشفت الحقائق، وعرف الناس أنّ العباسيين ليسوا إلاّ طلاّب سلطة، قدّ دلّسوا و زيفوا على الناس خباياهم. وبدأ الصراع بين العباسيين والأئمة المعصومين(ع) منذ حياة الامام الصادق(ع)، وازدادت حدةُ الصراع في زمن الامام الكاظم (ع). و كانت بداية خلافة هارون العباسي عام 170، ذروة الصراع الذي استمر حتى زمن الامام الحسن العسكري(ع)، الذي استُشهِدَ عام 260 هـ، لينتقل الصراع بعدَهم، ليكون مع السائرين على منهجهم(ع). لقد عانى الناس من ظلم السلطة وجورها، أكثر مما عانوه، في زمن حكم الأمويين.
يرسمُ لنا الأصمعي صورة تململ الناس من العباسيين فيقول: أنّ المنصور الدوانيقي، لقي إعرابياً في الشام فقال له: إحمِدْ اللهَ يا إعرابي، الذي رفعَ عنكُم الطاعونَ بولايتِنا أهلِ البيتِ، قال الإعرابي: إنّ اللهَ أكرمُ من أنْ يجمعَ علينا ولايَتَكُم والطاعون.
أمّا تبذير المالِ العام، والفساد الاخلاقي والمالي والاداري، فقد كان لصيقاً بحكام بني العباس وحواشيهم، تذكر المصادر أنّ غُلةَ الخيزران أمِّ هارون العباسي، كانت مئةً وستين مليون درهم بالسنة. يقولُ السيوطي في تاريخ الخلفاء: ((لما مَلَكَ الأمينُ، وجّهَ الى البلدانِ في طلبِ المُلهينَ، و أجرى لهم الأرزاقَ، واقتنى الوحوشَ والسباعَ والطيور... ومحقَ ما في بيوتِ الأموالِ، وضيّعَ الجواهرَ والنفائسَ وبنى عدةَ قصورٍ للهو)). في عام 198 هـ، حصل نزاع بين الأمين والمأمون على الخلافة، وانتهى الأمر بمقتل الأمين وتولى المأمون الخلافة، ونقل عاصمة الدولة العباسية من بغداد الى مدينة (مرو)، لتفادي الفتن ودسائس العباسيين، لأنّهم لا يرونَ فيه، النسب العربيّ الأصيل، لأنّ أُمَّهُ، كانت جارية فارسية.
وتفاقم الوضع في أوائل حكم المأمون العبّاسي، حتّى عَدَّ المؤرّخون ما يقرب من ثلاثين ثورة حدثت، قام بها العلويون، وقعت بين أيّام السفّاح، وأوائل أيّام المأمون( سنة 200 هـ )، أي في فترة لا تتعدى سبعين عاماً. وفي نفس العام الذي تولى فيه المامون الخلافة، حصلت ثورة كبيرة في خراسان بقيادة الحسن الهَرش. وحدثت ثورة في البصرة، بقيادة شقيق الإمام الرضا(ع)، زيد بن موسى بن جعفرعليهما السلام. وفي نفس الفترة ثار إبراهيم بن موسى بن جعفر في اليمن. وثار في مكة محمّد بن محمد بنِ زيد، ومعه أبو السرايا.
و روى أبو الفرج في الأغاني(أن ابن طباطبا(وهو محمد بن إبراهيم، من احفاد الحسن المثنّى)، خرج يوماً يمشي في بعض طرق الكوفة، إذ نظر إلى عجوز تَتْبَعُ أحمال الرُّطَبِ، فتلقط ما يَسقِط منها، فتجمعه في كساءٍ عليها رثّ، فسألها عمّا تصنع بذلك، فقالت له: إنّي امرأة لا رَجُل لي يَقومُ بمؤونَتي، ولي بنات لا يَعُدْنَ على أنفُسِهنّ بشيء، فأنا أتتبّعُ هذا منَ الطريقِ وأتقوّتُه أنا ووُلدي. فبكى ابن طباطبا بكاءً شديداً وقال:أنتِ واللهِ وأشباهُكِ تُخرجوني غداً حتّى يُسفكَ دمي. وقرّ قرارُه على الثورة)) فثار في الكوفة.
لقد كانَ المأمون يعيش عقدة الشعور بالنقص أمام نسب أمّه، فأخذ يحث الخطى منذ نعومة اظفاره، لاكتساب العلوم والمعارف، وكان غايةً في المكر والذكاء والدهاء، وعندما أحسّ بضَعف موقفه، بعد قتله أخيه الأمين عام 198 هـ، واهتزاز صورَتِه في أعين الناس، لجأ الى الامامِ الرضا (ع)، ليستمد من شخصية الإمام، عنصر الشرعيّة في الحكم، والتأييد الجماهيري له. فقال المأمون للإمام الرضا(ع): فإنّي قد رأيت أنْ أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلَها لك، وأُبايِعَك. فقال الإمام(ع): إنّ كانت هذه الخلافة لك، فلا يجوز أنْ تخلع لباساً ألبَسَكَهُ اللهُ وتجعلَهُ لغيرك، وإنْ كانت الخلافة ليست لك، فلا يجوز أنْ تجعل لي، ما ليس لك. قال المأمون: لابدّ لك من قبول هذا الأمر.
فقال عليه السّلام: لست أفعل ذلك طائعاً أبدا. والحَّ المأمون في هذا الطلب، و هَدّدَ الامامَ(ع) بالقتل فأَجْبَرَ الامام الرضا(ع) مكرهاً، على قَبول ولاية العهد، ولكن بشروط. وكانت شروط الإمام الرضا(ع) غايةً في الحكمة، حيث اشترط1). لا أُولّي أحداً ولا أعزل أحداً. (2). ولا أنقض رَسماً ولا سُنّة. (3). وأكون في الأمر من بعيدٍ مُشيراً.
إنّ هذه الشرط تحمل ابعاداً استراتيجية غاية في الدّقة، فقد نأى الإمام الرضا(ع) بنفسه عن جميع اخطاء السلطة الحاكمة، وضمن افشال المؤامرة التي حيكت ضده، لغرض اسقاطه منْ نفوس الناس، باظهاره بمظهر طالب دنيا وسلطان. وبالوقت نفسه، فوّت على المأمون فرصة الاستفادة، من عصمويّة الامامِ، لاضفاء الشرعية على حكمه. كما استفاد الامام من هذا الوضع، لتنظيم قواعده الجماهيرية التي أخذ حجمُها يزداد باضطراد، بسبب الآراء العلمية التي كان يطرحُها الامام الرضا(ع)، في مناقشاته الكثيرة مع اصحابِ الكلام وارباب الفلسفة والعقائد المختلفة.
وقدّ أجاب(ع) على جميع المشكّكين والحائرين في أمر ولاية العهد قائلاً: (ويحَهُم! أما علموا أنّ يوسُفَ عليه السّلامُ كانَ نبيّاً ورسولاً، فلمّا دفعته الضرورةُ إلى تولّي خزائنِ العزيزِ قال: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ). ودفعتني الضرورةُ إلى قبولِ ذلك على إكراهٍ وإجبار، بعد الإشرافِ على الهلاك، على أنّي ما دخلتُ في هذا الأمرِ، إلاّ دخولَ خارجٍ منه، فإلى اللهُ المُشتكى وهو المستعان.).
لقد كان الهدف الأسمى عند الامام الرضا(ع) اظهار الاسلام دوماً بصورته الناصعة، على ضوء هدي القرآن الكريم، وسيرة المعصومين من آبائه(عليهم السلام). أمّا في مجالس الاحتجاج، فكان الإمام الرضا(ع)، يجيب عن كلِّ سؤال، ويردُّ كلَّ شبهةٍ و يفنّدُ كلَّ ضلالٍ، ولم يكن من المأمونِ إلاّ أنْ يقولَ له: (فرّجتَ عنّي يا أبا الحسن، فرّجَ الله عنك، لله دَرُّك يا ابنَ رسولِ الله، أشهدُ أنّكَ ابنُ رسولِ اللهِ حقّا، باركَ اللهُ فيكَ يا ابنَ رسولِ الله، جزاكَ اللهُ عن أنبيائهِ خيراً يا أبا الحسن). بعد التمعن في هذا المقطع، نجد أنّ الإمام فرض شخصيته المتميزة على الساحة الفكريّة، كما فرضها على المأمون ورجاله وعلماء ذلك العصر، وأخذَ يُسحِرُهُم ببيانه، وأكد في تلك المناظرات دور القيادة المعصومة بأنّها مع القرآن الكريم، وأثبت(ع) دورَه في الحفاظ على الاسلام، و زوّد الجماهير المؤمنة، بطاقات عقائدية وفكرية، رسخت الاسلام في النفوس، وعززت الروح المعنوية بشكل فاعل عند المؤمنين، وبهذا التسديد الإلهي حافظ الإمام على استمراريّة خط الاسلام في الوجود.
فسلامٌ عليكَ يا ابا الحسن، يومَ ولِدتَ ويومَ استشهدتَ ويومَ تبعثُ حيا، والعاقبةُ للمتقين.