الخلاف حول البناء على قبور الأنبياء (عليهم السّلام) واتخاذها محلاً للعبادة
العلامة مرتضى العسكري
1 ـ عن عليّ قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في جنازة ، فقال: أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثناً إلاّ كسره ، ولا قبراً إلاّ سواه ، ولا صورة إلاّ لطخها ؟ فقال (رجل): أنا يا رسول الله ، فانطلق فهاب أهل المدينة ، فرجع ، فقال علي: أنا أنطلق يا رسول الله ، قال: فانطلق، فانطلق ثُمّ رجع ، فقال:يا رسول الله، لم أدع بها وثناً إلاّ كسرته ، ولا قبراً إلاّ سوّيته ، ولا صورة إلاّ لطختها). وقد تكرر ورود هذا الحديث في كتب الحديث واكتفينا بإيراد أتمّ لفظ منه.
علّة الحديث:
أوّلاً: سنذكر في ما يأتي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) زار قبر أمّه ، وبكى وأبكى من حوله ، وكانت أمّه قد توفيت في السنة السادسة من عمره الشريف بالمدينة المنورة ، وعلى هذا فقد زار الرسول قبر أمّه بعد نيف وأربعين سنة ، حين هاجر إلى المدينة المنورة ، وأنّ أثر قبر أمّه عند ذاك كان ماثلاً للعيان ، وإلاّ لما عرف قبرها ، وإذا كان الحكم الإسلامي هو تسوية القبور، فلم لم يأمر النَّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) بهدم قبر أمّه عند ذاك!؟
ثانياً: إنّ أهل المدينة بعد أن أسلم بعضهم ، أرسل لهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) بادئ ذي بدء مصعب بن عمير، يعلّم من أسلم منهم ما ورد من الإسلام يوم ذاك ، ولمّا وفدوا إلى الحجّ ، حضر المسلمون منهم العقبة ، وبايعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) سرّاً ، ولم ينتشر الإسلام بينهم ، إلى أن هاجر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) إليهم ، وتبعه الإمام عليّ (عليه السّلام) بعد ثلاث أو أكثر، وقصة وروده المدينة بعد ذلك مشهورة.
وتدرّج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) في بسط حكمه على المدينة بعد أن عاهد يهود قريظة ، وبني النضير، وبني قينقاع ، ودخل أهل المدينة كلهم في الإسلام متدرّجاً ، فمتى كان إرسال النَّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) الإمام علياً (عليه السّلام) من تشييع جنازة إلى المدينة ليهدم الأصنام ويسوّي القبور ويلطّخ الصور، كالحاكم الذي لا رادّ لأمره!؟ أضف إليه أنّ محتوى الخبر أنّ المرسل الأوّل ذهب ، وهم في تشييع الجنازة ، ورجع خائباً ، ثُمّ أرسل النَّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) الإمام علياً (عليه السّلام) بعده وهم لا يزالون في تشييع الجنازة ، فكيف يتمّ ذلك!؟
ثالثاً: وفي بقية الحديث أنّ الإمام علياً (عليه السّلام) قال لأبي الهياج الأسدي: (أبعثك فيما بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أمرني أن أسوّي كُلّ قبر وأطمس كُلّ صنم).
ولا يكون إرسال الإمام أبا الهياج الأسدي في أمر إلاّ في عصر خلافته ، وعليه يتجه هذا السؤال: متى كان إرسال الإمام أبا الهياج الأسدي!؟ أفي عصر خلافته ، وبعد الفتوحات الإسلامية وبعد زمن الخلفاء الثلاثة أم قبله ؟ وإلى أي بلد بعث الإمام علي (عليه السّلام) أبا الهياج لتهديم القبور، وطمس الأصنام؟
وأخيراً في كلا الخبرين أمر من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) ، والإمام علي (عليه السّلام) ـ إن صحّ الخبران ـ بتهديم قبور المشركين في بلد الشرك ، فكيف يدلّ ذلك على انتشار هذا الحكم إلى قبور المسلمين ووجوب تهديمها؟
ب ـ رووا عن النَّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: اللهم لا تجعل قبري وثناً ، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
وفي الرواية الثانية شخّص الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وقال : (قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
علّة الحديث:
إنّ بني إسرائيل بعد أن ساروا من مصر وعبروا البحر وجازوا التيه وبلغوا فلسطين أصبح لهم بيت عبادة ، وهو (بيت المقدس) ولم يكن لهم بيت عبادة غيره ، وفي خبر سليمان ، أصبح لسليمان الملك النَّبيّ بلاط يسمى هيكل سليمان ، فأين كانت قبور أنبيائهم التي اتخذوها مساجد؟ وكان بيت المقدس ، وبلده تحت أنظار المسلمين والعرب قبل عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ، وأمّا ما بقي من قبور أنبيائهم مثل قبر الخليل وموسى بن عمران ، فإنّا لم نر ولم نسمع ولم يكتب أحد أنّ اليهود اتخذوهما وثناً، وعلى فرض أنّ قبراً اتخذ وثناً ، فإنّه لا يصدق على احترام القبر وزيارة القبر، فإنّ اتخاذه وثناً يعني أنّ يستقبل القبر كما تستقبل الكعبة في الصلوات ، فأين هذا من ذاك؟
ليس مورد الشكّ في كُلّ ما ذكرناه ، وما سنذكره بعد هذا ، أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ـ معاذ الله ـ وإنّما البحث يجري حول رواة الأحاديث الذين لم يعصمهم الله من الخطأ والسهو والنسيان ، كان ما ذكرناه أمثلة من أدلة من رأى البناء على القبور مخالفاً للشريعة الإسلامية ، وفي ما يأتي أدلة من رأى ذلك موافقاً لها.
أدلة من رأى جواز اتخاذ مقابر الأنبياء محلاً للعبادة :
يستدلّ من يرى صحّة اتخاذ مقابر الأنبياء محلاً للعبادة بأنّ الطائفين حول الكعبة يطوفون حول حجر إسماعيل (عليه السّلام) ويتمسحون بجداره ، وفيه قبر إسماعيل (عليه السّلام) وأمّه هاجر، كما أجمع عليه علماء الأمّة الإسلامية:
فقد ورد في سيرة ابن هشام (ت : 218هـ ) وتاريخ الطبري (ت : 310هـ ) وابن الأثير (ت : 630هـ ) وابن كثير (ت : 774هـ ) واللفظ لابن هشام : ودفن ـ إسماعيل ـ في الحجر مع أمّه هاجر، وفي لفظ ابن الأثير: وأوصى إسماعيل أن يدفن عند قبر أمّه في الحجر.
كان هذا ما ورد في كتب مدرسة الخلفاء ، وورد في كتب حديث مدرسة أهل البيت كالآتي:
ورد في الكافي للكليني : (ت : 329هـ ) وكتاب من لا يحضره الفقيه وعلل الشرائع للصدوق (ت : 381هـ ) والوافي للفيض (ت : 1089هـ ) والبحار للمجلسي (ت : 1111هـ ) واللفظ للأول : وفيه ـ أي في الحجر ـ قبر هاجر وقبر إسماعيل.
وفيها أيضاً : وفيه ـ أي في الحجر ـ قبور أنبياء .
ويستدلون على صحة البناء على القبر، إضافة إلى ما سبق ، بأنّ قبور رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) والخليفتين أبي بكر، وعمر في بناء مسقف منذ أن توفوا إلى يومنا الحاضر.
ويستدلون أيضاً بقوله تعالى:
( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) البقرة/ 125. وقوله تعالى في ما أخبر عن قصة أصحاب الكهف :
(قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) الكهف/ 21.
إنّ الوهابيين يسمّون المسلمين الذين يزورون قبور الأنبياء والصحابة والأئمة بالقبوريين ، ومن الأحرى ، مع ما ذكرنا ، أن يسمّوا خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه ، والأنبياء من قبلهم الذين طافوا حول حجر إسماعيل (عليه السّلام) بالقبوريين ، لما في حجر إسماعيل من قبر هاجر وإسماعيل (عليه السّلام)، وولده وكذلك أنبياء من قبلهم؟!
هكذا كان اختلاف الأحاديث في بناء القبور، أو بالأحرى اختلاف فهم الأحاديث، منشأ هذا الخلاف.