الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ *أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(البقرة:155-157)
ظهور الصفات الكمالية للمحبوب في المحب
إنّ من عجائب عالم الحبّ : الاتحاد بين المحبّ والمحبوب، فمن حيث المعنى لأنّ الكمال يجد له علاقة في الصداقة، ولذا فإنّ كُلّ صفة كمالية في المحبوب سيكون المحبّ متحلياً لها أيضاً لأنّه ارتبط بالمحبوب واتحدّ به، وبطبيعة الحال فإنّه بمقدار استعداد المحبّ وطاقته يكون ظهور الصفات الكمالية فيه.
والحسين العزيز مهما ملك من الصفات الكمالية فإنّها تظهر في محبيه كُلّ حسب مقدار استعداده وبمقدار محبته، وبمقدار ما يرتفع من الموانع، إلاّ أنّ الأصل وهو وجود المحبة مسلم به.
الصبر هو الكمال البارز للحسين
أهمّ صفات الحسين الكمالية التي أشار إليها جدّه وأثنى عليها الله وملائكته، صفة الصبر عند الحسين حتى أنّ إمام العصر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) يقول في الزيارة المنسوبة له: (لقد عجبت من صبرك ملائكة السماء).
إنّ الصبر هو الذي رفعهم، وهو الصفة التي في الأئمة، ويجب أن يكون فيهم.
لقد ذكّر الله بالصبر في أكثر من سبعين موضعاً في القرآن الكريم، وأنّ أجر الصابرين بغير حساب(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)(الزمر:10) ، والمقام الذي يعطى للصابرين يعلمه الله وأولياؤه، والذي يفهم من القرآن الكريم أنّ المعية الخاصة واللطف الكبير هما لأهل الصبر ( إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(البقرة:153)، بل أن من لم يكن من أهل الصبر لا إيمان له، وقد تكرر القول بأنّ منزلة (الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد)، فكما أنّ الجسد بلا رأس عديم القيمة وميت وجماد، فإنّ الذي لا صبر له ليس له إيمان حقيقي، ولكنه يتصور نفسه مؤمناً.
نتيجة الصبر الكمال
يقول الإمام موسى بن جعفر: (الإيمان والصبر مثل كفتي ميزان متعادلتين، كلما زادت أحداهما زادت الأخرى) ، فلا يبلغ الإنسان النجاة أو الدرجات بغير الصبر، فدرجات الآخرة تقسم طبقاً للصبر، فلنصمم إذن على أن نقضي بقية العمر في الصبر لتكون لنا خصلة من خصال الحسين، ونستفيد منها ليكون لنا بعد الموت مكان بين الصابرين، وبمعنى أوسع فإنّ إنسانية الإنسان تقاس بصبره، إذا أنّ الحيوان لا علاقة له بالصبر، حيث يتلخص إدراكه في شهواته، فهو يسعى لما يشبع بطنه وفرجه، أمّا الإنسان فهو على مفترق طريقين: الشهوة تجذبه نحو الدنيا، والعقل يهديه إلى طريق الله، فإن لم يصبر ولم يستقم فقد سلك طريق الحيوانات واختار شهوات الدنيا:
أكل ونوم، وغضب وشهوة، وشغب وجهل وظلام
الحيوان لا خبر لديه من مقام الآدمية، وعلى هذا فكلّ من كان همّه المال والشهوة والجاه، فإنّه لا يختلف عن الحيوان في هذه الناحية، الإنسان هو من استطاع أن يكبح جماح نفسه.
الصبر أمام الشهوات
إنّ بعض الحيوانات لا يمنع نفسه عندما يلتقي بأنثاه، أو إذا رأى الغذاء، فإذا رميت بفريسة أمام كلب وجاء كلب آخر فإنهما يقتتلان، ومن كان كذلك فليس بإنسان، فإذا أردت الدخول في أهل الإيمان فعليك بالصبر (الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا )(فصلت:30)، وأنت يا من قلت إنّ الله ربي يجب أن تثبت وتستقيم على صراط العبودية، وأن لا تتخذ الشهوات إلهاً(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ )(الفرقان:43) ، وعندما يكون إلهك الله مرّة، والشهوات مرّة أخرى، فهذا ليس بتوحيد، بل هو شرك.
إذا مررت من أمام سينما وغرّتك الصورة المهيجة للشهوة فدخلت، فأنت لست من أهل الصبر، إذ أنّ هنالك المحلّ الذي يسرق فيه الدين والإيمان، ويحول فيه الإنسان إلى حيوان، صحيح أن الإنسان يميل إلى إشباع غرائزه الحيوانية، ولكن لأجلّ اللذة البهيمية جئت إلى هنا؟ ينبغي أن تكون رجلاً صابراً لتجد الإيمان، وإلاّ فسيكون إيمانك منحصراً بالشهوات فقط، وأنّ أعظم وأعلى درجات الصبر هو الصبر على ترك المحرمات، حيث أنّ النفس والشيطان يحببانها لك، وتضغط الغرائز الحيوانية بهذا الاتجاه أيضاً، لذا فإنّ الصبر عليها له أجر عظيم.
الاستخفاف بالصلاة، والبكاء على الحسين
الدرجة التالية هي الصبر على الطاعة، يجب أن لا يفوتك فرض واجب، فصلاة الصبح مثلاً واجبة، لذا يجب الصبر عليها مهما صعبت ( وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ)(البقرة:45)، ففي الشتاء يكون الهواء بارداً في الخارج والفراش دافئاً وناعماً، لكن يجب الصبر على ما يخالف هوى النفس، فتنهض وتتوضأ وتصلي، وفي فصل الصيف يكون الليل قصيراً والنوم وقت الصباح لذيذاً، لكن يجب عدم التهاون في أمر الصلاة، ألا تريد أن تلحق بالصابرين؟ لا تتصور أنّ البكاء على الحسين ينسجم والاستخفاف بالصلاة.
صحيح أنّ البكاء على الحسين يكشف لك الحجب، ويرقق القلب ويذكرك بالله، لكن بشرط أن لا تدير ظهرك لله، ذكر الحسين يوجب المغفرة والرحمة والشفاعة، ولكن ألم تسمع ما قاله الإمام الصادق وهو: (لا تنال شفاعتنا من استخفّ بصلاته) والمقصود ليس ذلك الذي لا يصلي أبداً، بل الذي إن أراد صلى وإن أراد تركها وأهملها.
يجب أن تكون إنساناً ليشفعوا لك، كيف تنال الشفاعة لحيوان؟ أن من لا يستطيع قهر نفسه على الصلاة عندما يحين وقتها كي لا تفوته هو حيوان وليس إنساناً.
مثال آخر في الإنفاق الواجب : كيف يستطيع الوصول إلى الكمال المطلوب من يصعب عليه بذل المال؟ يجب أن يصبر ويقاوم وعود الشيطان بالفقر، ويهتم بوعد الله بالرحمة كي يشع في قلبه نور الإيمان ويزداد.
الصبر على الشدائد
الثالث : الصبر على المصائب، لقد عقد الله بحكمته عالم الطبيعة بالمصاعب كي يتمرن البشر ويتطور وينمو ليستطيع بالتالي أن يفهم المعاني الروحانية، إنّ البلايا هي لتكميل النفس، أيها المريض لا تدع عنان الصبر يفلت من يدك أو تجزع، اضبط نفسك وقل أنّ كُلّ ما رآه الله خيراً فهو خير وصالح، والحمد لله وله الشكر فقد رأى في المرض مصلحتي.
إذا ضاع مالك أو خسرت فلا تترك الصبر، تذكر أنك أتيت إلى هذه الدنيا حافياً وستغادرها حافياً، فإن مات أحد أقربائك، لا أقول لك لا تحزن عليه، بل إنّ البكاء هو من متطلبات وجود العلاقة بينك وبينه، لكن أقول: لا تكن مضطرب القلب كالذي لم يعد يملك شيئاً أبداً، لا رباً ولا ثواباً ولا خيرات، يجب أن يكون اطمئنان المؤمن بربه:( أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وأن يكون معتمده ربه (يا من عليه معولي).
ما الذي نبغيه في الزيادة يا ربنا يكفينا من الملك أن نكون مع مؤنس الروح .
أنت يا من تقول القيامة حقّ، والآخرة هي المستقر، وما الدنيا إلاّ ممر نجتازه سريعاً، أنّ المسافر يرسل متاعه عادة قبله كي يصل مرتاحاً خفيفاً، ابنك الذي مات هل كان ملكك؟ لقد كان وديعة الله فأعيدت إلى أصحابها، فلا تغفل عن الله، وضع ذلك في حسابه، تعلم من الحسين.
قول الحسين بعد مقتل حبيب
كان حبيب بن مظاهر شيخاً من أصحاب الحسين المبجلين، وكان الحسين يحبه حباً جماً، وقيل في الرواية المنقولة أنّ مقتله هزّ الحسين وصعبت عليه مصيبته فقال:(احتسبه وحماة أصحابي عند الله).
إذا اتفق وحدث لمحبي الحسين حادث مثل ذلك فإنّ عليهم أن يحتسبوه عند الله.
العباس يبعث بأخوته الثلاثة إلى الميدان
قال العباس يوم عاشوراء وهو يقدم أخوته من أمه (أم البنين) الثلاثة (عبد الله وعثمان وجعفر) إلى الميدان فديتكم عمري يا إخوتي، تقدموا وانصروا سيدكم حتى تقتلوا دونه جميعاً)، أي إنني أفضل أن تقتلوا قبلي وارى مصيبتكم جميعاً كي يزداد أجري.
كُلّ من أكتوى قلبه بفاجعة فإنّ له عند الله أجراً، ومرهم اللطف هو للقلب المفجوع، وإلاّ فما أهمية نصف ساعة أسرع أو أبطأ؟ لقد أراد أبو الفضل أن يصل الدرجة التي يغبطه عليها جميع الشهداء، كما قال زين العابدين: (وإنّ لعمي العباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة).
لقد منحه الله القدرة على حمل كُلّ ما يسقط وأن يغيث كُلّ من يتوسل به، لذا اشتهر بباب الحوائج.
وأنتم يا محبي الحسين، اسلكوا الطريق الذي سلكه أصحابه، وصمموا الآن على الصبر والتحمل عند كُلّ واقعة ونازلة.
الطمأنينة والرحمة في الصبر
إنّ صلوات الله ورحمته تتنزل عليك، إن أصبحت من أهل الصبر، وصبرت في المراتب الثلاث التي أشرنا إليها وهي: عدم التهاون في العبادة، وأن لا تلقي بنفسك في الذنوب، وأن تظهر التحمل والصبر في النوائب، فراحة الدنيا هي في الصبر حقاً.
عرفت إذن أن (إنا لله) تعني أنا جميعاً ملك لله، فما للعبد والاعتراض؟ وكلّ ما يراه المولى صلاحاً فعلى المملوك والمخلوق أن يسلم به.
إذا تلف مالك فقد كان يوماً ما أمانة لديك، أما مالكه الحقيقي فهو الله، وإن مرضت فارض بما أراد لك ربك.
إن صبرت واستقمت فأيّ تعامل سيعاملك الله في الدنيا والبرزخ والقيامة؟ إنّ الله سيهبك ـ على سبيل المثال ـ الطمأنينة والاستقرار، فلا تؤثر فيك سهام وساوس الشياطين والجن والإنس، كُلّ الناس في غفلة إلاّ أنت ففي ذكر الله، ولن يجد الشيطان إلى قلبك سبيلاً :(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ)(الفتح:4) وببركة هذا الصبر والتحمل مع هذا الإيمان، سيرحل وهو يسمع بشارة الملائكة في آخر لحظات حياته: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا )(فصلت:30).
ترى كيف عوض الربّ الشكور الحسين قبالة صبره؟ أية عظمة وسمو أعطى للحسين؟ نذكر الآن جزءاً من ذلك:
سليمان الأعمش وزيارة الحسين
كان سليمان الأعمش موثوقاً من الجميع، وربما سمعتم بالرواية التالية كثيراً، إلاّ أنني أوردها للتذكير: كان له جار منكر لزيارة الحسين ويعتبرها بدعة، إلاّ أنّه شوهد في إحدى ليالي الجمعة باكياً عند قبر الحسين، وحين سأله الأعمش عن سبب هذا التحوّل، قال رأيت في المنام أنّ القيامة قد قامت، وفي زحمة تلك المصاعب الجمة، جاءت الزهراء (عليها السلام) في هودج لتشفع للناس، وكانت تتناثر من هودجها أوراق كتب فيها أمان من النار لزوار قبر الحسين ليلة الجمعة.
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ *أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(البقرة:155-157)
ظهور الصفات الكمالية للمحبوب في المحب
إنّ من عجائب عالم الحبّ : الاتحاد بين المحبّ والمحبوب، فمن حيث المعنى لأنّ الكمال يجد له علاقة في الصداقة، ولذا فإنّ كُلّ صفة كمالية في المحبوب سيكون المحبّ متحلياً لها أيضاً لأنّه ارتبط بالمحبوب واتحدّ به، وبطبيعة الحال فإنّه بمقدار استعداد المحبّ وطاقته يكون ظهور الصفات الكمالية فيه.
والحسين العزيز مهما ملك من الصفات الكمالية فإنّها تظهر في محبيه كُلّ حسب مقدار استعداده وبمقدار محبته، وبمقدار ما يرتفع من الموانع، إلاّ أنّ الأصل وهو وجود المحبة مسلم به.
الصبر هو الكمال البارز للحسين
أهمّ صفات الحسين الكمالية التي أشار إليها جدّه وأثنى عليها الله وملائكته، صفة الصبر عند الحسين حتى أنّ إمام العصر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) يقول في الزيارة المنسوبة له: (لقد عجبت من صبرك ملائكة السماء).
إنّ الصبر هو الذي رفعهم، وهو الصفة التي في الأئمة، ويجب أن يكون فيهم.
لقد ذكّر الله بالصبر في أكثر من سبعين موضعاً في القرآن الكريم، وأنّ أجر الصابرين بغير حساب(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)(الزمر:10) ، والمقام الذي يعطى للصابرين يعلمه الله وأولياؤه، والذي يفهم من القرآن الكريم أنّ المعية الخاصة واللطف الكبير هما لأهل الصبر ( إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(البقرة:153)، بل أن من لم يكن من أهل الصبر لا إيمان له، وقد تكرر القول بأنّ منزلة (الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد)، فكما أنّ الجسد بلا رأس عديم القيمة وميت وجماد، فإنّ الذي لا صبر له ليس له إيمان حقيقي، ولكنه يتصور نفسه مؤمناً.
نتيجة الصبر الكمال
يقول الإمام موسى بن جعفر: (الإيمان والصبر مثل كفتي ميزان متعادلتين، كلما زادت أحداهما زادت الأخرى) ، فلا يبلغ الإنسان النجاة أو الدرجات بغير الصبر، فدرجات الآخرة تقسم طبقاً للصبر، فلنصمم إذن على أن نقضي بقية العمر في الصبر لتكون لنا خصلة من خصال الحسين، ونستفيد منها ليكون لنا بعد الموت مكان بين الصابرين، وبمعنى أوسع فإنّ إنسانية الإنسان تقاس بصبره، إذا أنّ الحيوان لا علاقة له بالصبر، حيث يتلخص إدراكه في شهواته، فهو يسعى لما يشبع بطنه وفرجه، أمّا الإنسان فهو على مفترق طريقين: الشهوة تجذبه نحو الدنيا، والعقل يهديه إلى طريق الله، فإن لم يصبر ولم يستقم فقد سلك طريق الحيوانات واختار شهوات الدنيا:
أكل ونوم، وغضب وشهوة، وشغب وجهل وظلام
الحيوان لا خبر لديه من مقام الآدمية، وعلى هذا فكلّ من كان همّه المال والشهوة والجاه، فإنّه لا يختلف عن الحيوان في هذه الناحية، الإنسان هو من استطاع أن يكبح جماح نفسه.
الصبر أمام الشهوات
إنّ بعض الحيوانات لا يمنع نفسه عندما يلتقي بأنثاه، أو إذا رأى الغذاء، فإذا رميت بفريسة أمام كلب وجاء كلب آخر فإنهما يقتتلان، ومن كان كذلك فليس بإنسان، فإذا أردت الدخول في أهل الإيمان فعليك بالصبر (الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا )(فصلت:30)، وأنت يا من قلت إنّ الله ربي يجب أن تثبت وتستقيم على صراط العبودية، وأن لا تتخذ الشهوات إلهاً(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ )(الفرقان:43) ، وعندما يكون إلهك الله مرّة، والشهوات مرّة أخرى، فهذا ليس بتوحيد، بل هو شرك.
إذا مررت من أمام سينما وغرّتك الصورة المهيجة للشهوة فدخلت، فأنت لست من أهل الصبر، إذ أنّ هنالك المحلّ الذي يسرق فيه الدين والإيمان، ويحول فيه الإنسان إلى حيوان، صحيح أن الإنسان يميل إلى إشباع غرائزه الحيوانية، ولكن لأجلّ اللذة البهيمية جئت إلى هنا؟ ينبغي أن تكون رجلاً صابراً لتجد الإيمان، وإلاّ فسيكون إيمانك منحصراً بالشهوات فقط، وأنّ أعظم وأعلى درجات الصبر هو الصبر على ترك المحرمات، حيث أنّ النفس والشيطان يحببانها لك، وتضغط الغرائز الحيوانية بهذا الاتجاه أيضاً، لذا فإنّ الصبر عليها له أجر عظيم.
الاستخفاف بالصلاة، والبكاء على الحسين
الدرجة التالية هي الصبر على الطاعة، يجب أن لا يفوتك فرض واجب، فصلاة الصبح مثلاً واجبة، لذا يجب الصبر عليها مهما صعبت ( وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ)(البقرة:45)، ففي الشتاء يكون الهواء بارداً في الخارج والفراش دافئاً وناعماً، لكن يجب الصبر على ما يخالف هوى النفس، فتنهض وتتوضأ وتصلي، وفي فصل الصيف يكون الليل قصيراً والنوم وقت الصباح لذيذاً، لكن يجب عدم التهاون في أمر الصلاة، ألا تريد أن تلحق بالصابرين؟ لا تتصور أنّ البكاء على الحسين ينسجم والاستخفاف بالصلاة.
صحيح أنّ البكاء على الحسين يكشف لك الحجب، ويرقق القلب ويذكرك بالله، لكن بشرط أن لا تدير ظهرك لله، ذكر الحسين يوجب المغفرة والرحمة والشفاعة، ولكن ألم تسمع ما قاله الإمام الصادق وهو: (لا تنال شفاعتنا من استخفّ بصلاته) والمقصود ليس ذلك الذي لا يصلي أبداً، بل الذي إن أراد صلى وإن أراد تركها وأهملها.
يجب أن تكون إنساناً ليشفعوا لك، كيف تنال الشفاعة لحيوان؟ أن من لا يستطيع قهر نفسه على الصلاة عندما يحين وقتها كي لا تفوته هو حيوان وليس إنساناً.
مثال آخر في الإنفاق الواجب : كيف يستطيع الوصول إلى الكمال المطلوب من يصعب عليه بذل المال؟ يجب أن يصبر ويقاوم وعود الشيطان بالفقر، ويهتم بوعد الله بالرحمة كي يشع في قلبه نور الإيمان ويزداد.
الصبر على الشدائد
الثالث : الصبر على المصائب، لقد عقد الله بحكمته عالم الطبيعة بالمصاعب كي يتمرن البشر ويتطور وينمو ليستطيع بالتالي أن يفهم المعاني الروحانية، إنّ البلايا هي لتكميل النفس، أيها المريض لا تدع عنان الصبر يفلت من يدك أو تجزع، اضبط نفسك وقل أنّ كُلّ ما رآه الله خيراً فهو خير وصالح، والحمد لله وله الشكر فقد رأى في المرض مصلحتي.
إذا ضاع مالك أو خسرت فلا تترك الصبر، تذكر أنك أتيت إلى هذه الدنيا حافياً وستغادرها حافياً، فإن مات أحد أقربائك، لا أقول لك لا تحزن عليه، بل إنّ البكاء هو من متطلبات وجود العلاقة بينك وبينه، لكن أقول: لا تكن مضطرب القلب كالذي لم يعد يملك شيئاً أبداً، لا رباً ولا ثواباً ولا خيرات، يجب أن يكون اطمئنان المؤمن بربه:( أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وأن يكون معتمده ربه (يا من عليه معولي).
ما الذي نبغيه في الزيادة يا ربنا يكفينا من الملك أن نكون مع مؤنس الروح .
أنت يا من تقول القيامة حقّ، والآخرة هي المستقر، وما الدنيا إلاّ ممر نجتازه سريعاً، أنّ المسافر يرسل متاعه عادة قبله كي يصل مرتاحاً خفيفاً، ابنك الذي مات هل كان ملكك؟ لقد كان وديعة الله فأعيدت إلى أصحابها، فلا تغفل عن الله، وضع ذلك في حسابه، تعلم من الحسين.
قول الحسين بعد مقتل حبيب
كان حبيب بن مظاهر شيخاً من أصحاب الحسين المبجلين، وكان الحسين يحبه حباً جماً، وقيل في الرواية المنقولة أنّ مقتله هزّ الحسين وصعبت عليه مصيبته فقال:(احتسبه وحماة أصحابي عند الله).
إذا اتفق وحدث لمحبي الحسين حادث مثل ذلك فإنّ عليهم أن يحتسبوه عند الله.
العباس يبعث بأخوته الثلاثة إلى الميدان
قال العباس يوم عاشوراء وهو يقدم أخوته من أمه (أم البنين) الثلاثة (عبد الله وعثمان وجعفر) إلى الميدان فديتكم عمري يا إخوتي، تقدموا وانصروا سيدكم حتى تقتلوا دونه جميعاً)، أي إنني أفضل أن تقتلوا قبلي وارى مصيبتكم جميعاً كي يزداد أجري.
كُلّ من أكتوى قلبه بفاجعة فإنّ له عند الله أجراً، ومرهم اللطف هو للقلب المفجوع، وإلاّ فما أهمية نصف ساعة أسرع أو أبطأ؟ لقد أراد أبو الفضل أن يصل الدرجة التي يغبطه عليها جميع الشهداء، كما قال زين العابدين: (وإنّ لعمي العباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة).
لقد منحه الله القدرة على حمل كُلّ ما يسقط وأن يغيث كُلّ من يتوسل به، لذا اشتهر بباب الحوائج.
وأنتم يا محبي الحسين، اسلكوا الطريق الذي سلكه أصحابه، وصمموا الآن على الصبر والتحمل عند كُلّ واقعة ونازلة.
الطمأنينة والرحمة في الصبر
إنّ صلوات الله ورحمته تتنزل عليك، إن أصبحت من أهل الصبر، وصبرت في المراتب الثلاث التي أشرنا إليها وهي: عدم التهاون في العبادة، وأن لا تلقي بنفسك في الذنوب، وأن تظهر التحمل والصبر في النوائب، فراحة الدنيا هي في الصبر حقاً.
عرفت إذن أن (إنا لله) تعني أنا جميعاً ملك لله، فما للعبد والاعتراض؟ وكلّ ما يراه المولى صلاحاً فعلى المملوك والمخلوق أن يسلم به.
إذا تلف مالك فقد كان يوماً ما أمانة لديك، أما مالكه الحقيقي فهو الله، وإن مرضت فارض بما أراد لك ربك.
إن صبرت واستقمت فأيّ تعامل سيعاملك الله في الدنيا والبرزخ والقيامة؟ إنّ الله سيهبك ـ على سبيل المثال ـ الطمأنينة والاستقرار، فلا تؤثر فيك سهام وساوس الشياطين والجن والإنس، كُلّ الناس في غفلة إلاّ أنت ففي ذكر الله، ولن يجد الشيطان إلى قلبك سبيلاً :(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ)(الفتح:4) وببركة هذا الصبر والتحمل مع هذا الإيمان، سيرحل وهو يسمع بشارة الملائكة في آخر لحظات حياته: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا )(فصلت:30).
ترى كيف عوض الربّ الشكور الحسين قبالة صبره؟ أية عظمة وسمو أعطى للحسين؟ نذكر الآن جزءاً من ذلك:
سليمان الأعمش وزيارة الحسين
كان سليمان الأعمش موثوقاً من الجميع، وربما سمعتم بالرواية التالية كثيراً، إلاّ أنني أوردها للتذكير: كان له جار منكر لزيارة الحسين ويعتبرها بدعة، إلاّ أنّه شوهد في إحدى ليالي الجمعة باكياً عند قبر الحسين، وحين سأله الأعمش عن سبب هذا التحوّل، قال رأيت في المنام أنّ القيامة قد قامت، وفي زحمة تلك المصاعب الجمة، جاءت الزهراء (عليها السلام) في هودج لتشفع للناس، وكانت تتناثر من هودجها أوراق كتب فيها أمان من النار لزوار قبر الحسين ليلة الجمعة.