الآداب المعنويّة للصيام
خاطرة عند أوّل الطريق
المؤمن.. في طاعاته لله جلّ وعلا يعلم
أوّلاّ: أنّ الله عزّوجلّ ـ وهو الرؤوف الرحيم ـ لم يأمره إلاّ بما فيه الخير والصلاح والسعادة، ولم يَنْهَه إلاّ عمّا فيه الشرّ والفساد والشقاء.
ثانياً: يعلم المؤمن أنّ الله تبارك وتعالى وقد أعدّ لعباده المطيعين له ما يفيض عليهم بالهناء الدينويّ والأُخروي. هكذا بشّر الحديث الشريف عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام: للصائم فرحتان: فرحةٌ عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربّه.
المؤمن سعيدٌ ـ على كلّ حال ـ بإيمانه ما دام هو في طاعة الله عزّ شأنه، فهو يرى أنّه مطيع لأمر ربّه سبحانه، ومستجيب لنداء فطرته، ويرى أنّه يقترب من ساحة الأمل ويعيش حالة الرجاء أن يفوز بلطف الله ورحمته، وهو القائل عزّ من قائل:
(وإنّما تُوَفِّون أُجورَكُم يومَ القيامة، فمَن زُحزِحَ عن النّارِ وأُدخِلَ الجنّةَ فقد فاز، وما الحياةً الدنيا إلاّ مَتاعُ الغُرور)
(وَعدَ اللهُ المؤمنينَ والمؤمناتِ جنّاتٍ تَجري مِن تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها ومساكنَ طيّبةً في جنّاتِ عَدْنٍ، ورِضوانٌ مِن اللهِ أكبرُ، ذلك هو الفوزُ العظيم)
والإنسان المتّزن هو مَن عمل لدار الخلود، وأعدّ نفسه لسفر الآخرة، واستهدف في عبادته الآثار المعنويّة والآداب الباطنيّة، فخرج بها على حالةٍ من الإيمان الصادق والتقوى الواعية، والشوق الدائم في المضيّ نحو مراتب المعرفة والقرب إلى الله تعالى والأُنس بمناجاته.
والصوم ـ بشروطه وآدابه ـ يحقّق ذلك أيُّها الإخوة الأعزاء.
ماذا يحقّق لنا الصوم ؟
إنّه ـ أيّها الأعزّة ـ يحقّق لنا حالة الطاعة، والطاعة ترسّخ الإيمان في القلب، وتشدّ عُرى التقوى في داخل الإنسان. ولا أدلَّ على ذلك من تصدّر النداء الإلهيّ في آية الصيام بالإيمان وختمه بالتقوى، حيث خُوطب به خاصّة عباد الله، ودُعوا إلى أمر الله، ورُجي لهم تقوى الله، فقال جلّ وعلا.
(يا أيّها الذينَ آمنوا كُتبَ عليكمُ الصيامُ كما كُتبَ على الذين مِن قَبلِكم لعلّكم تتّقون)، فخُوطب المؤمنون هنا إذ هم أسرع الناس استجابةً لنداء ربّهم تبارك وتعالى، وكان من شرفهم أن دعاهم الله لعبادته، ومن شرفهم أيضاً أن لَبَّوا دعوته مؤمنين به راشدين.
في أحد أدعيته المباركة، يقول الإمام السجّاد عليّ بن الحسين عليه السّلام: إنّ الشريفَ مَن شَرَّفَته طاعتُك، والعزيزَ مَن أعَزَّته عبادتك..، وفي إحدى مناجاته الشريفة يقول: إلهي، لولا الواجب من قَبول أمرِك، لَنزّهتُكَ عن ذِكري إيّاك، على أنّ ذِكري لك بقَدْري لا بقَدْرك، وما عسى أن يبلغ مقداري حتّى أُجعلَ مَحلاًّ لتقديسك! ومِن أعظَم النِّعم علينا، جَرَيانُ ذِكرك على ألسنتنا، وإذنُك لنا بدعائك، وتنزيهِك وتسبيحك..
والصوم ـ إخوتنا المؤمنين ـ من تلك النعم التي مَنّ الله تعالى بها على عباده، ليطيعوه في الظاهر والباطن، فيحفظوا به إيمانهم، ويُحقّقوا به إخلاصهم، ويتشرّفوا به في تلبيتهم لأمر بارئهم.
وسائل القرب
لا تتحقّق المعنويّات إلاّ بتوجّه القلب إلى الله عزّوجلّ بالطاعة المخلصة، والالتزام بالمقتضيات المعنوية للعبادات. والصوم على مراتب:
الصوم العامّ: ويكون بترك الطعام والشراب وبقيّة المفطرات، على ما قرّره الفقهاء من الواجبات والمحرّمات فيه.
الصوم الخاصّ: وهو ترك ذلك مع حفظ الجوارح من مخالفات الله جلّ جلاله.
والصوم الأخصّ: وهو ترك كلّ ما هو شاغل عن الله، من حلال (مباح)، فضلاً عن الحرام والمكروه.
والمهمّ هو صيام العبد عن الذنوب، وعزوفه عن المحرّمات.
تعالوا ـ يا أعزاءنا ـ نتأمل في كلمات أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام في هذا المضمار:
* صوم الجسد الإمساك عن الأغذية بإرادة واختيار؛ خوفاً من العقاب، ورغبة في الثواب والأجر. صوم النفس إمساك الحواسّ الخَمس عن سائر المآثم، وخلوّ القلب من جميع أسباب الشرّ.
* صوم القلب خير من صيام اللسان، وصيام اللسان خير من صيام البطن.
* صيام القلب عن الفكر في الآثام، أفضل من صيام البطن عن الطعام.
هموم المؤمن أن يخطو في سبيل التقرّب إلى الله تعالى، ويرتقي إلى مراتب الطاعة المَرْضيّة، فلا يكتفي بالامتناع الظاهريّ عن المحرّمات، ولا بالأداء الظاهريّ للفرائض والطاعات، بعيداً عن الحالة الروحيّة والقلبيّة في الإقبال والتلبية لدى أداء العبادة، وفي مفارقة المعاصي والاستياء منها، وفي كلّ ذلك يذكر العبد ربَّه عزّ شأنه، ويشعر أنّه في محضره، وأنّه مدعوّ إلى رحابه الشريفة.
سُئل الإمام الصادق عليه السّلام عن تفسير التقوى فقال: أن لا يَفقدك الله حيث أمَرَك، ولا يراك حيث نهاك. والتقوى كامنة في الصوم إذا مُورس بشروطه المعنويّة والروحيّة. نقرأ خاتمة الآية في نداء الصوم: (لعلّكم تتّقون، وتلك علامة لافتة.
ومن حالات الصوم المباركة: أن المؤمن إذا أقبل عليه شهر رمضان تذكّر خطبة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وكأنّه يسمعها في ذلك المشهد، حيث خاطب المسلمين:
أيُّها الناس، إنّه قد أقبلَ إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الأيّام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات. وهو شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسُكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب. فاسألوا الله ربَّكم بنيّات صادقة، وقلوبٍ طاهرة، أن يوفّقكم لصيامه، وتلاوة كتابه.. (11)
وعند التأمّل في هذه الخطبة الشريفة تنهض في قلب المؤمن همّة عالية، واستعداد مشتاق، وتلبية صادقة.. فيستحي من الله عزّوجلّ أن يكسل أمام دعوته عن الوقوف بين يديه، منشغلاً بسفاسف الدنيا وملهياتها، صادّاً نفسَه وغيره عن ذِكر الله تعالى. بل يستحي أنه يأتي بالطاعات البدنيّة الظاهريّة ويتغافل عن الطاعات القلبيّة أو يجيء بالآداب الماديّة ولم يتشرّف بالآداب المعنويّة.
ما هو الحصاد ؟
الهدف ـ أيّها الأصدقاء ـ هو التقوى، وتكون بطهارة الجوارح والجوانح، فإذا تحقّق ذلك ثبت الإيمان وازداد، وطويت مسافة أمام ساحة القرب من مرضاة الله تبارك وتعالى.
فهناك غاية، وهناك وسيلة، وبعد ذلك ثمار تُجنى.. ينادي رسول الله صلّى الله عليه وآله مخلصاً من أصحابه: يا جابر، هذا شهر رمضان، من: صام نهاره، وقام وِرْداً من ليله، وعفّ بطنَه وفرجه، وكفّ لسانه، خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر.
فقال جابر: يا رسول الله، ما أحسنَ هذا الحديث! فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله: يا جابر، وما أشدَّ هذه الشروط!.
إنّ حقيقة الصوم ـ أيّها الإخوة الأحبّة ـ اجتناب المحارم، فكما يحرم ترك الصوم والإفطار في شهر رمضان من غير عذر، كذلك تحرم أمور تخلّ بالطاعة، وتفسد العبادة. تعالوا معنا نقف عند هذه الرواية:
* يمرّ رسول الله صلّى الله عليه وآله فيسمع امرأة تسبّ جاريةً لها، فيدعوها إلى أن تأكل طعاماً، فتعتذر المرأة قائلة: أنا صائمة يا رسول الله! فيقول لها: كيف تكونين صائمة وقد سببتِ جاريتكِ ؟! إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب، وإنّما جعل الله ذلك حجاباً عن سواهما من الفواحش، من الفعل والقول يُفطر الصائم. ما أقلَّ الصُوّام، وأكثر الجُوّاع!
* وتأتينا رواية أخرى يقول فيها رسول الله صلّى الله عليه وآله مشوِّقاً: ما مِن عبد صالح يُشتَم فيقول: إنّي صائم، سلامٌ عليك، لا أشتمك كما شتمتني، إلاّ قال الربّ تبارك وتعالى: استجار عبدي بالصوم من شرّ عبدي، فقد أجَرَتُه من النار.
* ثمّ يأتي الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه فيبسط القول للناس في آداب الصوم، فيقول:
ـ إنّ الصيام ليس من الطعام والشراب وحده. قالت مريم (إنّي نذرتُ للرحمنِ صوماً) أي صَمْتاً. فإذا صُمتم فاحفظوا ألسنتكم، وغُضّوا أبصاركم، ولا تَنازعوا ولا تَحاسدوا... وقال عليه السّلام: إذا صُمتَ فليَصُم سمعك وبصرك من الحرام والقبيح، ودَعِ المِراء وأذى الخادم، وليكن عليك وَقار الصيام، ولا تجعل يومَ صومِك كيوم فِطرك.
* وكان الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام إذ دخل شهر رمضان دعا فقال:
ـ اللهمّ صلّ على محمّد وآله، وألهِمْنا معرفة فضله، وإجلالَ حُرمته، والتحفّظَ ممّا حظرت فيه، وأعِنّا على صيامه بكفِّ الجوارح عن معاصيك، واستعمالِها فيه بما يُرضيك، حتّى لا نُصغيَ بأسماعنا إلى لَغو، ولا نُسرع بأبصارنا إلى لَهو، وحتّى لا نبسطَ أيديَنا إلى محظور، ولا نخطوَ بأقدامنا إلى محجور، وحتّى لا تعيَ بطوننا إلاّ ما أحللت، ولا تَنطقَ ألسنتنا إلاّ بما قلت، ولا نتكلّفَ إلاّ ما يُدني من ثوابك، ولا نتعاطى إلاّ الذي يَقي من عقابك. ثمّ خلّصْ ذلك كلَّه من رِئاء المُرائين، وسمعة المستمعين، لا نُشرك فيه أحداً دونك، ولا نبتغيَ فيه مراداً سواك.
* وأخيراً.. فمِن مقتضيات الصوم تحقّق الإيمان، من خلال التلبية، ثمّ الثبات على التقوى التي يكون فيها المرء مراقباً مرضاة الله تعالى، عالماً أنّ الله تعالى مِطّلع على سرائره، فضلاً عن ظواهره. فلا ينبغي ـ لا سيّما وهو صائم ـ أن يأتي بالمعاصي، أو يغفل عن حضوره في محضر الله جلّت عظمته، أو أنّه راحل إلى آخرته ليلاقي ربّه نسأله تعالى ـ أيّها الأصدقاء الأفاضل ـ أن نوفَّق وإيّاكم إلى ذلك، فيكون حصاد هذا الشهر الكريم خيراً وهدىً ونوراً في القلوب وسعادة في دنيانا وأخرانا.
والحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على محمّد وآله الميامين
خاطرة عند أوّل الطريق
المؤمن.. في طاعاته لله جلّ وعلا يعلم
أوّلاّ: أنّ الله عزّوجلّ ـ وهو الرؤوف الرحيم ـ لم يأمره إلاّ بما فيه الخير والصلاح والسعادة، ولم يَنْهَه إلاّ عمّا فيه الشرّ والفساد والشقاء.
ثانياً: يعلم المؤمن أنّ الله تبارك وتعالى وقد أعدّ لعباده المطيعين له ما يفيض عليهم بالهناء الدينويّ والأُخروي. هكذا بشّر الحديث الشريف عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام: للصائم فرحتان: فرحةٌ عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربّه.
المؤمن سعيدٌ ـ على كلّ حال ـ بإيمانه ما دام هو في طاعة الله عزّ شأنه، فهو يرى أنّه مطيع لأمر ربّه سبحانه، ومستجيب لنداء فطرته، ويرى أنّه يقترب من ساحة الأمل ويعيش حالة الرجاء أن يفوز بلطف الله ورحمته، وهو القائل عزّ من قائل:
(وإنّما تُوَفِّون أُجورَكُم يومَ القيامة، فمَن زُحزِحَ عن النّارِ وأُدخِلَ الجنّةَ فقد فاز، وما الحياةً الدنيا إلاّ مَتاعُ الغُرور)
(وَعدَ اللهُ المؤمنينَ والمؤمناتِ جنّاتٍ تَجري مِن تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها ومساكنَ طيّبةً في جنّاتِ عَدْنٍ، ورِضوانٌ مِن اللهِ أكبرُ، ذلك هو الفوزُ العظيم)
والإنسان المتّزن هو مَن عمل لدار الخلود، وأعدّ نفسه لسفر الآخرة، واستهدف في عبادته الآثار المعنويّة والآداب الباطنيّة، فخرج بها على حالةٍ من الإيمان الصادق والتقوى الواعية، والشوق الدائم في المضيّ نحو مراتب المعرفة والقرب إلى الله تعالى والأُنس بمناجاته.
والصوم ـ بشروطه وآدابه ـ يحقّق ذلك أيُّها الإخوة الأعزاء.
ماذا يحقّق لنا الصوم ؟
إنّه ـ أيّها الأعزّة ـ يحقّق لنا حالة الطاعة، والطاعة ترسّخ الإيمان في القلب، وتشدّ عُرى التقوى في داخل الإنسان. ولا أدلَّ على ذلك من تصدّر النداء الإلهيّ في آية الصيام بالإيمان وختمه بالتقوى، حيث خُوطب به خاصّة عباد الله، ودُعوا إلى أمر الله، ورُجي لهم تقوى الله، فقال جلّ وعلا.
(يا أيّها الذينَ آمنوا كُتبَ عليكمُ الصيامُ كما كُتبَ على الذين مِن قَبلِكم لعلّكم تتّقون)، فخُوطب المؤمنون هنا إذ هم أسرع الناس استجابةً لنداء ربّهم تبارك وتعالى، وكان من شرفهم أن دعاهم الله لعبادته، ومن شرفهم أيضاً أن لَبَّوا دعوته مؤمنين به راشدين.
في أحد أدعيته المباركة، يقول الإمام السجّاد عليّ بن الحسين عليه السّلام: إنّ الشريفَ مَن شَرَّفَته طاعتُك، والعزيزَ مَن أعَزَّته عبادتك..، وفي إحدى مناجاته الشريفة يقول: إلهي، لولا الواجب من قَبول أمرِك، لَنزّهتُكَ عن ذِكري إيّاك، على أنّ ذِكري لك بقَدْري لا بقَدْرك، وما عسى أن يبلغ مقداري حتّى أُجعلَ مَحلاًّ لتقديسك! ومِن أعظَم النِّعم علينا، جَرَيانُ ذِكرك على ألسنتنا، وإذنُك لنا بدعائك، وتنزيهِك وتسبيحك..
والصوم ـ إخوتنا المؤمنين ـ من تلك النعم التي مَنّ الله تعالى بها على عباده، ليطيعوه في الظاهر والباطن، فيحفظوا به إيمانهم، ويُحقّقوا به إخلاصهم، ويتشرّفوا به في تلبيتهم لأمر بارئهم.
وسائل القرب
لا تتحقّق المعنويّات إلاّ بتوجّه القلب إلى الله عزّوجلّ بالطاعة المخلصة، والالتزام بالمقتضيات المعنوية للعبادات. والصوم على مراتب:
الصوم العامّ: ويكون بترك الطعام والشراب وبقيّة المفطرات، على ما قرّره الفقهاء من الواجبات والمحرّمات فيه.
الصوم الخاصّ: وهو ترك ذلك مع حفظ الجوارح من مخالفات الله جلّ جلاله.
والصوم الأخصّ: وهو ترك كلّ ما هو شاغل عن الله، من حلال (مباح)، فضلاً عن الحرام والمكروه.
والمهمّ هو صيام العبد عن الذنوب، وعزوفه عن المحرّمات.
تعالوا ـ يا أعزاءنا ـ نتأمل في كلمات أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام في هذا المضمار:
* صوم الجسد الإمساك عن الأغذية بإرادة واختيار؛ خوفاً من العقاب، ورغبة في الثواب والأجر. صوم النفس إمساك الحواسّ الخَمس عن سائر المآثم، وخلوّ القلب من جميع أسباب الشرّ.
* صوم القلب خير من صيام اللسان، وصيام اللسان خير من صيام البطن.
* صيام القلب عن الفكر في الآثام، أفضل من صيام البطن عن الطعام.
هموم المؤمن أن يخطو في سبيل التقرّب إلى الله تعالى، ويرتقي إلى مراتب الطاعة المَرْضيّة، فلا يكتفي بالامتناع الظاهريّ عن المحرّمات، ولا بالأداء الظاهريّ للفرائض والطاعات، بعيداً عن الحالة الروحيّة والقلبيّة في الإقبال والتلبية لدى أداء العبادة، وفي مفارقة المعاصي والاستياء منها، وفي كلّ ذلك يذكر العبد ربَّه عزّ شأنه، ويشعر أنّه في محضره، وأنّه مدعوّ إلى رحابه الشريفة.
سُئل الإمام الصادق عليه السّلام عن تفسير التقوى فقال: أن لا يَفقدك الله حيث أمَرَك، ولا يراك حيث نهاك. والتقوى كامنة في الصوم إذا مُورس بشروطه المعنويّة والروحيّة. نقرأ خاتمة الآية في نداء الصوم: (لعلّكم تتّقون، وتلك علامة لافتة.
ومن حالات الصوم المباركة: أن المؤمن إذا أقبل عليه شهر رمضان تذكّر خطبة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وكأنّه يسمعها في ذلك المشهد، حيث خاطب المسلمين:
أيُّها الناس، إنّه قد أقبلَ إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الأيّام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات. وهو شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسُكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب. فاسألوا الله ربَّكم بنيّات صادقة، وقلوبٍ طاهرة، أن يوفّقكم لصيامه، وتلاوة كتابه.. (11)
وعند التأمّل في هذه الخطبة الشريفة تنهض في قلب المؤمن همّة عالية، واستعداد مشتاق، وتلبية صادقة.. فيستحي من الله عزّوجلّ أن يكسل أمام دعوته عن الوقوف بين يديه، منشغلاً بسفاسف الدنيا وملهياتها، صادّاً نفسَه وغيره عن ذِكر الله تعالى. بل يستحي أنه يأتي بالطاعات البدنيّة الظاهريّة ويتغافل عن الطاعات القلبيّة أو يجيء بالآداب الماديّة ولم يتشرّف بالآداب المعنويّة.
ما هو الحصاد ؟
الهدف ـ أيّها الأصدقاء ـ هو التقوى، وتكون بطهارة الجوارح والجوانح، فإذا تحقّق ذلك ثبت الإيمان وازداد، وطويت مسافة أمام ساحة القرب من مرضاة الله تبارك وتعالى.
فهناك غاية، وهناك وسيلة، وبعد ذلك ثمار تُجنى.. ينادي رسول الله صلّى الله عليه وآله مخلصاً من أصحابه: يا جابر، هذا شهر رمضان، من: صام نهاره، وقام وِرْداً من ليله، وعفّ بطنَه وفرجه، وكفّ لسانه، خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر.
فقال جابر: يا رسول الله، ما أحسنَ هذا الحديث! فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله: يا جابر، وما أشدَّ هذه الشروط!.
إنّ حقيقة الصوم ـ أيّها الإخوة الأحبّة ـ اجتناب المحارم، فكما يحرم ترك الصوم والإفطار في شهر رمضان من غير عذر، كذلك تحرم أمور تخلّ بالطاعة، وتفسد العبادة. تعالوا معنا نقف عند هذه الرواية:
* يمرّ رسول الله صلّى الله عليه وآله فيسمع امرأة تسبّ جاريةً لها، فيدعوها إلى أن تأكل طعاماً، فتعتذر المرأة قائلة: أنا صائمة يا رسول الله! فيقول لها: كيف تكونين صائمة وقد سببتِ جاريتكِ ؟! إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب، وإنّما جعل الله ذلك حجاباً عن سواهما من الفواحش، من الفعل والقول يُفطر الصائم. ما أقلَّ الصُوّام، وأكثر الجُوّاع!
* وتأتينا رواية أخرى يقول فيها رسول الله صلّى الله عليه وآله مشوِّقاً: ما مِن عبد صالح يُشتَم فيقول: إنّي صائم، سلامٌ عليك، لا أشتمك كما شتمتني، إلاّ قال الربّ تبارك وتعالى: استجار عبدي بالصوم من شرّ عبدي، فقد أجَرَتُه من النار.
* ثمّ يأتي الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه فيبسط القول للناس في آداب الصوم، فيقول:
ـ إنّ الصيام ليس من الطعام والشراب وحده. قالت مريم (إنّي نذرتُ للرحمنِ صوماً) أي صَمْتاً. فإذا صُمتم فاحفظوا ألسنتكم، وغُضّوا أبصاركم، ولا تَنازعوا ولا تَحاسدوا... وقال عليه السّلام: إذا صُمتَ فليَصُم سمعك وبصرك من الحرام والقبيح، ودَعِ المِراء وأذى الخادم، وليكن عليك وَقار الصيام، ولا تجعل يومَ صومِك كيوم فِطرك.
* وكان الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام إذ دخل شهر رمضان دعا فقال:
ـ اللهمّ صلّ على محمّد وآله، وألهِمْنا معرفة فضله، وإجلالَ حُرمته، والتحفّظَ ممّا حظرت فيه، وأعِنّا على صيامه بكفِّ الجوارح عن معاصيك، واستعمالِها فيه بما يُرضيك، حتّى لا نُصغيَ بأسماعنا إلى لَغو، ولا نُسرع بأبصارنا إلى لَهو، وحتّى لا نبسطَ أيديَنا إلى محظور، ولا نخطوَ بأقدامنا إلى محجور، وحتّى لا تعيَ بطوننا إلاّ ما أحللت، ولا تَنطقَ ألسنتنا إلاّ بما قلت، ولا نتكلّفَ إلاّ ما يُدني من ثوابك، ولا نتعاطى إلاّ الذي يَقي من عقابك. ثمّ خلّصْ ذلك كلَّه من رِئاء المُرائين، وسمعة المستمعين، لا نُشرك فيه أحداً دونك، ولا نبتغيَ فيه مراداً سواك.
* وأخيراً.. فمِن مقتضيات الصوم تحقّق الإيمان، من خلال التلبية، ثمّ الثبات على التقوى التي يكون فيها المرء مراقباً مرضاة الله تعالى، عالماً أنّ الله تعالى مِطّلع على سرائره، فضلاً عن ظواهره. فلا ينبغي ـ لا سيّما وهو صائم ـ أن يأتي بالمعاصي، أو يغفل عن حضوره في محضر الله جلّت عظمته، أو أنّه راحل إلى آخرته ليلاقي ربّه نسأله تعالى ـ أيّها الأصدقاء الأفاضل ـ أن نوفَّق وإيّاكم إلى ذلك، فيكون حصاد هذا الشهر الكريم خيراً وهدىً ونوراً في القلوب وسعادة في دنيانا وأخرانا.
والحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على محمّد وآله الميامين