فضائل الصوم
في الصوم تكاملٌ للنفس، إذ يخلق حالات من الصبر والإرادة والمقاومة الداخلية أمام المغريات، ويكسر جُماحَ الشهوات حتّى يمكن السيطرة عليها وتوجيهها بشكلٍ شرعيّ مهذّب. وإلى ذلك، يزيل الصيام حالة البَطَر والجَشَع، ونَزوةَ الشرّ وطُغيان النفس، وينمّى مكانَ ذلك الرحمةَ والشفقةَ والسخاء والخشوع لله تعالى.
وإذا كان الإكثار من تناول الطعام يولّد خمولاً في الفكر، وثقلاً في البدن إلى حدّ الكسل، وتشوّشاً في القلب.. ففي الصيام يصفو الفكر والقلب، وتهدأ النفس، فإذا ألِفَ المرءُ الصومَ استغنى قليلاً عن الحاجة الملحّة، وابتعد عن التُّخمة وعن الهمّ المتفاقم نحو الأكل والشرب.
والصوم ـ مع أنّه تكليف شرعيّ ـ نجده تشريفاً من الله عزّوجلّ إلى عباده، وهذا يوجب الشكر؛ إذ أصبحوا موضعَ خطاب الله تعالى وندائه، ومحلَّ تكليفه ودعوته:
يا أيُّها الذينَ آمَنوا كُتِبَ عليكُمُ الصيامُ كما كُتبَ على الذينَ مِن قبلِكُم لَعلّكُم تتّقون
وأيّ شرف عظيم للإنسان أن تتوجّه إليه العناية الربّانيّة فتدعوه إلى ضيافته الخاصّة، ووفادته المكرّمة! وأيّة كرامة له ـ إذا كان مؤمناً ـ أن يُخَصّ بالنداء الشريف كي ينهض بتكليف أُعِدّ بعده الخير والسعادة والإكرام! قال الإمام جعفر الصادق عليه السّلام يوماً: إنّ شهر رمضان لم يَفرضِ اللهُ صيامَه على أحد من الأُمم قبلَنا. فقال له أحد الحاضرين: فقول الله عزّوجلّ... كما كُتب على الذين مِن قبلِكم ؟! فقال عليه السّلام: إنّما فَرضَ اللهُ صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الأُمم، ففضّل اللهُ به هذه الأمّة، وجعل صيامه فرضاً على رسول الله صلّى الله عليه وآله وعلى أُمّته.
ومِن هنا يخاطب الإمام السجّاد سلام الله عليه ربَّه جلّ وعلا بلسان الشكر والثناء، فيقول:
«اللهمّ وأنت جعلتَ مِن صَفايا تلك الوظائف، وخصائصِ تلك الفروض.. شهرَ رمضان الذي اختصَصتَه من سائر الشهور، وتخيّرتَه مِن جميع الأزمنة والدُّهور، وآثَرْتَه على كلِّ أوقات السنةِ بما أنزلتَ فيه من القرآن والنور، وضاعَفتَ فيه من الإيمان، وفَرَضتَ فيه من الصيام، ورَغّبتَ فيه من القيام، وأجلَلتَ فيه من ليلة القَدْر التي هي خيرٌ من ألف شهر.
ثمّ آثَرْتَنا به على سائر الأمم، واصطفَيْتَنا بفضلِه دون أهلِ المِلل، فصُمْنا بأمرِكَ نهارَه، وقُمنا بعَونِكَ ليلَه؛ مُتعرِّضين بصيامه وقيامه لِما عَرّضْتَنا له من رحمتك، وتَسَّبْبنا إليه من مَثُوبتك ».
• ويبلغ الصيام من الشرف مَحلاًّ أنّ الله تعالى يخصُّه لنفسه، فيقول جلّ وعلا في حديث قدسيّ مبارك: الصوم لي، وأنا أجزي به.
وفي رواية أُخرى، قال تبارك وتعالى: كلُّ عملِ ابن آدمَ هو له، غيرَ الصيام، هو لي وأنا أجزي به. والصيام جُنّة العبدِ المؤمن يوم القيامة، كما يَقي أحدَكُم سلاحُه في الدنيا... والصائم يفرح بفرحتَين: حين يُفطِر فيَطعم ويَشرب، وحين يلقاني فأُدخِلُه الجنّة.
وهذا يدعو الصائم إلى التعرّف على أدب الصيام أوّلاً، ثمّ العمل بهذا الأدب تجاه بارئه جلّ وعلا ثانياً.
أدب الصائم
قبل أن يحلّ الشهر المبارك، شهر الله الحبيب، شهر رمضان الخير والبركة.. ينبغي تقديمُ التوبة والإقلاع عن المحرّمات، والإكثار من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم، والصلاة، والاجتهاد في العبادة وكثرة الصدقة وأفعال البِرّ والإحسان إلى المحتاجين والمحرومين.
ويَجمُل بالصائم أن يخلّص ذمّتَه من سائر الحقوق، فينزع الحقد على المؤمنين من قلبه، ويكفّ عن المعاصي، ويترك التنازع والتحاسد، ويتجنّب الإيذاء، ويلزم الصمت عن اللغو والمراء والجدال الباطل فضلاً عن الغِيبة وغيرها من آفات اللسان. ويَحسُن به أن يوجّه جوارحه إلى الطاعات، ويهيّئ قلبه للعبادة، مستحضراً التوجّه والإخلاص، ومنصرفاً عن كلّ ما يشغله عن ذلك من الخصومات وملاهي الدنيا.
فإذا صام المرء الواعي علم أنّه لابدّ له أن يَقرِن انقطاعَه عن الطعام والشراب والمُفطرات، بانقطاعه عن القبائح والدنايا والخطيئات.. وإلاّ لم يَصُم كما أُريد له، ولم يبلغ حكمة الصيام وغايته المُثلى، ولا وُفّق لمقتضيات الصوم الحقيقيّ.
• كان الإمام عليّ بن الحسين عليه السّلام إذا دخل شهر رمضان دعا:
« اللهمّ صَلِّ على محمّدٍ وآله، وألِهمْنا معرفةَ فضله وإجلالَ حُرمته، والتحفّظَ ممّا حظَرْتَ فيه، وأعِنّا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك، واستعمالِها فيه بما يُرضيك.. حتّى لا نُصغيَ بأسماعنا إلى لَغْو، ولا نُسرِعَ بأبصارنا إلى لَهْو، وحتّى لا نبسطَ أيديَنا إلى محظور، ولا نخطوَ بأقدامنا إلى محجور ».
• وقد أوصى الإمام أبو عبدالله الصادق عليه السّلام، فقال:
« إذا أصبحتَ صائماً فلْيصُمْ سمعُك وبصرك من الحرام، وجارحتُك وجميعُ أعضائك من القبيح. ودع عنك الهذيَ وأذى الخادم، وليكُنْ عليك وَقارُ الصيام، والزَمْ ما استطعت من الصمت والسكوت إلاّ عن ذِكر الله. ولا تجعل يومَ صومِك كيوم فِطرك ».
ومن أدب الصائم: صرف النفس عن التلهّي، والتوجّه إلى اللذائذ الروحيّة شوقاً إلى نوال مرضاة الله جلّ وعزّ، بقلبٍ مُقبل على بارئه الرحيم، ولسان ذاكر، ونفس جانحة إلى التزكية، ويد معطاء للخير، وفكر يَقظٍ من مداخل الرياء وشوائب العُجب.
ومن أدب الصائم أيضاً أن يتهيّأ لاستقبال شهر الله المبارك، ويستعدّ للقائه وهو شاكرٌ لله تعالى أن مَدّ في عمره حتّى أدرك أيّام الطاعة في شهر رمضان، وكان من ضيوف الرحمن.
ومن التهيّؤ ـ أيّها الأصدقاء ـ أن يترقّب الحبيبَ القادم، فيستهلّ مُقلِّباً طَرْفَه في آفاق السماء.. حتّى إذا رأى هلال شهر رمضان انتعش قلبه، وتوجّه إلى القِبلة الشريفة رافعاً يديه إلى ربّه عزّوجلّ، مخاطباً الهلال:
ربّي وربُّكَ اللهُ ربُّ العالمين. ثمّ مخاطباً الحقّ المتعال: اللهمّ أهِلَّه علينا بالأمنِ والإيمان، والسلامةِ والإسلام، والمسارعةِ إلى ما تُحبّ وترضى. اللهمّ بارِكْ لنا في شهرنا هذا، وارزُقنا خيرَه وعونه، واصرِف عنّا ضُرَّه وشرّه وبلاءه وفتنتَه.
مهمّات الصيام
من مهمّات الصائم في هذا الشهر العظيم ـ أيّها الإخوة ـ معرفة حقّ شهر رمضان، وأنّه مَنزِلٌ أكرَمَ اللهُ فيه السائرين إليه جلّ وعلا بالدعوة إلى ضيافته. وهذا الشهر المبارك هو دار ضيافة الله تعالى.
وجميلٌ حقّاً أن يعرف الصائم معنى الصوم، ومناسبته، ومعنى ضيافة الله سبحانه لعباده، وأن يسعى بعد المعرفة في تحصيل الإخلاص وطلب وجه الله تعالى ورضاه.
وإذا كان صوم العوامّ بترك الطعام والشراب وما قرّره الفقهاء من الواجبات تركه والمحرّمات، فإنّ صوم الخواصّ يكون بترك ذلك كلِّه مع حفظ الجوارح من المخالفات ومن معاصي الجوارح.. فيما يكون صوم خواصّ الخواصّ هو ترك كلّ ما هو شاغل عن الله عزّ شأنه.
وإذا كان المرء منصرفاً بعد جوعه إلى إشباع معدته، فإنّ الصائم يرى من مهمّاته إفطارَ الصائمين وإكرامهم واستضافتهم على مائدة الأُخوّة والمحبّة في الله تعالى.
وإذا كان الإنسان مشغولاً في الأشهر السالفة بمحاسبة شريكه في العمل، فإنّه في هذا الشهر يرى من مهمّاته أن يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه، ويلاحظ رأس ماله في شهر رمضان.. وهو عمره وإيمانه، وأنوار هذا الشهر الشريف وأنواره ـ هل أُفيض فيه عليه البركات والفضائل والخيرات؟ وكيف غدَتْ أخلاقه ومعارفه، وإلى أيّ شيء صار قلبه وجَنَحت نفسه؟ وهل صلحت حاله وكفّ عن المحرّمات، ومالت روحه إلى الطاعات؟ وما هي حالته حين ودّع شهر رمضان؟ أَكما يودّع عزيزاً حبيباً سيفارقه إلى عام قادم.. وقد لا يدركه إذا فاجأه الأجل؟!
وقفة.. على أعتاب الرحيل (في وداع شهر الله الأكبر)
خاطرة كئيبة
حزّ في النفس أن أقف مودِّعاً عزيزاً لا يزورني إلاّ مرّةً واحدة في العام كلّه، فيغدق علَيّ فضائله السخيّة ويغمرني بلطفه وحنانه، ويخلق لي أجواء الأُنس والرحمة حتّى ينسيَني أنه سيرحل عنّي. فأستفيق فجأة مذعور القلب مهموم النفس كئيب الخاطر حيث أراه يجمع أطراف إزاره استعداداً للسفر الجديد، فأشدّ على يديه الكريمتين أن يبقى، فيأبى، وعذره أنّ أمره بيد الله تبارك وتعالى، وقد قدّر له أن يمضي بعد هذه السويعات، بل كانت لحظات سعيدة لا ندري كيف انصرمت وفرّت من بين أيدينا.
وأغالط عقلي إذ أتوسّل إليه أن يبقى قليلاً أو يتأنى، ولا جدوى، إذ هو جارٍ مجرى الزمان، وسائر في تعاقب الليل والنهار.. إلاّ أنّه رأف بحالي فأمّلني أن يعود مرّة أُخرى في العالم القادم، ففرحت وكانت فرحتي ممزوجةً بتلقين النفس بالصبر وتوطينها عليه، فسنةٌ كاملة ليست بالقليل، فالفراق وحشة تعتصر القلب، ولكن لابدّ من التسليم لأمر الله وقضائه. فدعني أفرح وأنتظر، وأنا أعيش الأمل الجميل والموعد العزيز، حيث لقاء ولو بعد عام من الوجد.
ثمّ أستفيق على كدر من النفس، تنبّهني قائلةً لي: يا عبدالله، كيف ضمنتَ أن تبقى سنةً أُخرى حتّى يكون اللقاء ؟! ومن أين علمت أنّك في العام القابل من الأحياء، لا من الأموات ؟! أجَل والله، فلعلّي بعد ساعة أو أقلّ أكون في عِداد الراحلين عن الدنيا، فلا أُدرك ذلك الموعد المؤنس مع الحبيب الراحل!
وتغتمّ نفسي مرّة أخرى، وكادت أن تنفجر بالبكاء والنحيب، أو أن تبوح بصرخة حزن عميق، إلاّ أنّ المودِّع العزيز عاد يؤمّلها أن يكون لها الأنيس الشفيع إن هي تابت توبة نصوحاً، وهجرت الذنوب هجرة قاطعة، وسارت نحو الله جلّ وعلا، ولازمت حبّ آل الله، محمّدٍ وأهل بيته أحبّاء الله.
إنّه شهر رمضان الحبيب، ها هو يودّعنا، بعد أن زارنا فنعِمْنا بنفحاته القدسيّة، وعشنا معه ساعاتٍ كريمةً طيّبة، فكان أنيسنا المبارك، إذ شغلَنا بذكْر الله جلّ وعلا في تلاوةٍ لأيات شريفات، وترتيلٍ لأدعية مأثورات، وصرفَنا عن كثير من الذنوب، وستر علينا جملة من العيوب، وأطلَعنا على آفاق مشرقة من الغيوب.. من معانٍ سامية في كتاب الله، وحالات روحية في عبادة الله.
فسلام عليك يا شهر الله، يا عيد الروح، ويا أبرّ الأصحاب وإن رحلْت، ويا أعزّ مودَّع من أيّام العمر، يا من أدخل البهجة بلقياه، وترك الوحشة والحزن بفراقه.. نرجوك ألاّ تغيب عنا وإن كان منك سفر، دَعْك تعيش في ضمائرنا وقلوبنا حتّى نلقاك أو تلقانا ونحن على العهد، فإن عدتَ وكنّا من الأحياء وجدتَنا على وفائنا منتظرين لك مفترشين أيدينا لاستقبالك، واستهلال هلالك.. وإن عدت ولم نكن من الأحياء، فأملنا أن تلفانا مرحومين لا محرومين، راجين لا يائسين، فقد علّمتْنا مناجاتُك أن نعقد الآمال على رحمة الله ولطفه، لا على أعمالنا.
نحو الأبلغ
ومهما كانت ألسنتنا تنطق بالبلاغة والبيان، لتعبّر عن لوعتنا بفراق شهر الله وحرماننا من بركاته وأوقاته الشريفة، فإنّها تَلكنُ أمام عبارات الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام، حيث كان له في وداع شهر رمضان دعاء، غاية في التعبير الصادق عن لواعج المحبّ وأشجانه وأحزانه وهو يودّع العزيز بقلب يبكي وروح تتألق، فكان منه هذه العبارات الجليلة:
وقد أقام فينا هذا الشهر مُقامَ حمْد، وصحِبنا صُحبةَ مبرور، وأربَحنا أفضل أرباح العالَمين، ثمّ قد فارقَنا عند تمام وقته، وانقطاع مدّته، ووفاءِ عدده.
فنحن مودِّعوه وِداعَ مَن عزّ فراقُه علينا، وغمّنا وأوحشَنا انصرافه عنّا، ولزِمَنا له الذِّمامُ المحفوظ، والحرمة المَرْعيّة، والحقُّ المقضيّ، فنحن قائلون:
السّلام عليك يا شهرَ الله الأكبر، ويا عيدَ أوليائه.
السّلام عليك يا أكرمَ مصحوب من الأوقات، ويا خير شهرٍ في الأيّام والساعات.
السّلام عليك من شهر قرُبت فيه الآمال، ونُشرت فيه الأعمال.
السّلام عليك من قرين جلّ قدْرُه موجودا، وأفجع فقْدُه مفقودا، ومرجوٍّ آلمَ فراقه.
السّلام عليك من أليفٍ آنسَ مقْبِلاً فسَرّ، وأوحش منقضياً فمضّ.
السّلام عليك من مُجاورٍ رقّت فيه القلوب، وقلّت فيه الذنوب.
السّلام عليك من ناصرٍ أعان على الشيطان، وصاحبٍ سهّل سبُلَ الإحسان...
السّلام عليك، ما كان أمحاكَ للذنوب وأسترك لأنواع العيوب!...
السّلام عليك كما وفدتَ علينا بالبركات، وغسلتَ عنّا دنَسَ الخطيئات.
السّلام عليك غيرَ مودَّعٍ برَما، ولا متروكٍ صيامُه سأَما.
السّلام عليك من مطلوبٍ قبل وقته، ومحزونٍ عليه قبل فوته.
السّلام عليك، كم من سوءٍ صُرف بك عنّا، وكم من خيرٍ أُفيض بك علينا!
السّلام عليك، ما كان أحرصَنا بالأمس عليك، وأشدَّ شوقَنا غداً إليك!
السّلام عليك وعلى فضلك الذي حُرِمناه، وعلى ماضٍ من بركاتك سُلِبناه...
اللهمّ صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد، واجبرْ مصيبتَنا بشهرنا، وباركْ لنا في يوم عيدنا وفِطْرنا، واجعله من خير يومٍ مرّ علينا، أجْلَبَه لعفو، وأمحاه لذنب، واغفر لنا ما خفيَ من ذنوبنا وما عَلَن.
اللهمّ اسلَخْنا بانسلاخ هذا الشهر من خطايانا، وأخرِجْنا بخروجه من سيّئاتنا، واجعلنا من أسعدِ أهله به، وأجزلِهم قِسْماً فيه، وأوفرِهم حظّاً منه...
اللهمّ ارزقنا خوفَ عقابِ الوعيد، وشوقَ ثوابِ الموعود، حتّى نجد لذّة ما ندعوك به، وكآبةَ ما نستجيرك منه، واجعلنا عندك من التوّابين الذين أوجبتَ لهم محبّتك، وقبِلتَ منهم مراجعة طاعتك، يا أعدلَ العادِلين..
قبيل الفراق
يقول أهل المعرفة والمعنى في مراقبات شهر رمضان المبارك: من مهمّات هذا الشهر الكريم أن يحاسب العبد نفسه في عمل الشهر كما يحاسب الشريك شريكه في آخر العمل، ويلاحظ رأس ماله الذي هو عمره وإيمانه وبركاتُ شهر مضان وأنواره، هل ازداد إيمانه ؟ وكيف أخلاقه المنبعثة عن معارفه، من الخوف والرجاء، والصبر والزهد والتجرّد لذكْر الله، والتفكّر في أمر الله، والرضى والتوكّل والتسليم، وانفساح القلب في تحمّل البلايا، وكيف تجافيه عن دار الغرور، وإنابته إلى دار الخلود؟ وهل كان لشهر رمضان وأعماله تأثير في ذلك؟
ويحاسب العبد نفسه في آخر الشهر.. في أفعاله وحركات جوارحه، هل بقيت على حالها أم ازدادت مراقبته لها على ضوء أحكام الله؟ لا سيّما بالنسبة إلى حركات لسانه في: التكلّم بما لا يعينه، والخوض في الباطل، والكذب، والغيبة والافتراء، والتعرّض لأعراض المؤمنين، والفحش والإيذاء.. وغيرها. فليكنْ وجلاً خائفاً أن يكون مغبوناً، فإنّه من انسلخ عنه شهر رمضان ولم يُغفرْ له فلا غفرَ الله له ـ كما دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله، فإنّ ذلك من أعظم المصائب، لذا عليه أن يعمد إلى إصلاح حاله ملتجئاً إلى رحمة الله سبحانه، وهو يتعوّذ كما كان يتعوّذ كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان: أعوذ بجلال وجهك الكريم، أن ينقضيَ عنّي شهرُ رمضانَ أو يطلُعَ الفجرُ من ليلتي هذه ولك قِبَلي تبِعةٌ أو ذنب تعذّبني عليه.
ومن علامات صلاح الحال أن يكون على العبد سِمةُ مذلّة الخاطئين، ووجَل قلوب المذنبين.
ومن المهمّات أيضاً، أن يودّع العبد شهر رمضان وهو متأثر لمفارقته، والأهمّ من ذلك أن يكون صادقاً في وداعه فيما يُظهره من الحزن عند التوديع، لئلاّ يختم شهره بالكذب والنفاق. وإنّما يكون محزوناً لفراقه إذا كان محبّاً لمصاحبة مَن يودّعه، مطيعاً له مشتاقاً إلى عودته ولقائه، مراقباً للإتيان بالأعمال التي جاء بها هذا المودَّع العزيز، مُجِدّاً في ذلك، معتقداً لكرامته وفضله.. فهنا يعزّ عليه رحيله، ويستوحش من فراقه، ويحزن في وداعه.
ثمّ لابدّ للعبد الذي راقب شهره شهر الله، أن يختمه بالصدق في الإنابة، وأن لا يرجع إلى ما كان فيه من مخالفة مراد ربّه ومولاه، بل يقف على العهد، ويفي ويُخلص الطاعة له، ويرجوه أن يمدّ في عمره ما كان بِذلةً في طاعته، فيوصله إلى مواسم العبادة ليتطلّب فيها درجات مرضاته تبارك وتعالى.
ختامه مسك العبادة
وينصرم الشهر الكريم، فيلاحقه المؤمن بقلب كئيب يعتصر حزناً، وعيونٍ دامعة تقطر شوقاً، ولكنّه لا يغفل في أواخر اليوم الآخر، الذي هو يوم عرض أعمال الشهر، أن يبادر إلى تجديد التوبة، والسجود لله تعالى وهو طاوٍ جوعاً، خاضعاً لربّه يرجوه عفوه وقبول ذلّته وطاعته.. حتّى يختم شهره وهو ساجد جائع، ويدخل إلى ليلة العيد وهو ساجد جائع، يأمل كرامة الله ورحمته.
وإذا رفع رأسه راقب هلال شوّال، فإذا علمه نهض من جديد في العبادة، فهذه الليلة هي من الليالي الشريفة، وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل العبادة فيها وإحيائها. ولها أعمال عدّة، منها:
الغُسل المندوب، المشتمل على غَسل الأجساد من الأدران بالماء، وغسل القلوب من الذنوب بالتوبة، ويكون الغسل بعد غروب الشمس من آخر يوم من أيّام شهر رمضان أو أواخر ليلة العيد.
فإذا فرغ العبد من فريضة المغرب ونافلته، رفع يديه إلى السماء وقال: ياذا المَنِّ والطَّول، ياذا الجود، يا مُصطفيَ محمّدٍ وناصرَه، صلّ على محمّدٍ وآل محمّد، واغفر لي كلّ ذنْبٍ أحصيتَه وهو عندك في كتابٍ مُبين. ثمّ يسجد ويقول في سجوده مئة مرّة: أتوب إلى الله، ثمّ يسأل اللهَ تعالى ما يشاء.
ولا يغفل في ليلته هذه عن الصلاة والدعاء والاستغفار، وأن يبدأ بالتكبيرات في أعقاب صلاة المغرب والعشاء والصبح وعقيب صلاة العيد، وهي: اللهُ أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله والله أكبر، الله أكبرُ ولله الحمد، الحمدُ لله على ما هدانا، وله الشكر على ما أولانا.
ولا ينسى هذا المؤمن وقلبه مفعَم بالولاء لآل المصطفى صلّى الله عليه وآله أن يزور حبيبه الإمامَ الحسين عليه السّلام بالزيارة المخصوصة في العيدين: الفطر والأضحى.
ويتلو هذا الدعاء الذي ورد في أعمال ليلة الجمعة، وهو: يا دائمَ الفضل على البريّة، يا باسط اليدينِ بالعطيّة، يا صاحب المواهب السَّنيّة، صلِّ على محمّدٍ وآله خيرِ الورى سجيّة، واغفرْ لنا ياذا العُلى في هذه العشيّة.
هذا.. بعد أن يكون العبد قد ودّع شهر رمضان بالدعوات المأثورة عن الإمام السجّاد عليه السّلام وعن الإمام الصادق عليه السّلام، كما هي مدرجة في محلّها من كتب الأدعية والأعمال. (3)
وأخيراً.. لابدّ للعبد أن يعرف قدْر منّة الله جلّ جلاله، كيف عرّفه ما عرف، وكيف أدخله في شهر الصيام تحت ظلّه، ووصل حبله بحبله، ووفّقه للإقبال عليه، والتشرّف بالمثول بين يديه، وشغله بالشكر والثناء عليه، عن طلب كثير من الحوائج إليه، حتّى يوشك أن يقضيها الله تعالى له دون أن يذكرها بلسانه، إذ كان لسانه مشغولاً بهذه العبارات يلهج بها في ليالي القدر الشريفة:
يا خيرَ الغافرين، يا خير الحامدين، يا خير المحسنين..
يا مُقلّبَ القلوب، يا طبيب القلوب، يا منوّر القلوب، يا أنيس القلوب..
يا دليلَ المتحيّرين، يا غياث المستغيثين، يا ملجأ العاصين..
يا خيرَ المرهوبين، يا خير المرغوبين، يا خير المطلوبين، يا خير المقصودين، يا خير المذكورين، يا خير المشكورين، يا خير المحبوبين، يا خير المدعوّين.
يا من إليه يفزع المذنبون، يا من إليه يقصد المنيبون، يا من إليه يرغب الزاهدون، يا من إليه يلجأ المتحيّرون، يا من به يستأنس المريدون، يا من به يفتخر المحبّون، يا من في عفوه يطمع الخاطئون..
يا نعم الحسيب، يا نعم الطبيب، يا نعم الحبيب، يا نعم المولى..
يا سرور العارفين، يا مُنى المحبّين، يا أنيس المريدين، يا حبيب التوّابين، يا رجاء المذنبين، يا قرّة عين العابدين..
يا من يعلم مراد المريدين، يا من يعلم ضمير الصامتين، يا من يرى بكاء الخائفين، يا من يقبل عذر التائبين، يا من لا يبعُد عن قلوب العارفين..
يا خير معروف عُرف، يا أفضلَ معبود عُبد، يا أجلّ مشكور شُكر، يا أعزّ مذكور ذُكر، يا أكرم مسؤول سُئل، يا أشرف محبوب عُلم..
يا خير داعٍ ومدعوّ، يا خير مُجيبٍ ومُجاب، يا خير مؤنس وأنيس، يا خير صاحب وجليس، يا خير مقصود ومطلوب، يا خير حبيب ومحبوب..
يا من هو لمن دعاه مجيب، يا من هو لمن أطاعه حبيب، يا من هو إلى من أحبّه قريب..
يا من هو غاية مراد المريدين، يا من هو منتهى هِمم العارفين، يا من هو منتهى طلب الطالبين..
في الصوم تكاملٌ للنفس، إذ يخلق حالات من الصبر والإرادة والمقاومة الداخلية أمام المغريات، ويكسر جُماحَ الشهوات حتّى يمكن السيطرة عليها وتوجيهها بشكلٍ شرعيّ مهذّب. وإلى ذلك، يزيل الصيام حالة البَطَر والجَشَع، ونَزوةَ الشرّ وطُغيان النفس، وينمّى مكانَ ذلك الرحمةَ والشفقةَ والسخاء والخشوع لله تعالى.
وإذا كان الإكثار من تناول الطعام يولّد خمولاً في الفكر، وثقلاً في البدن إلى حدّ الكسل، وتشوّشاً في القلب.. ففي الصيام يصفو الفكر والقلب، وتهدأ النفس، فإذا ألِفَ المرءُ الصومَ استغنى قليلاً عن الحاجة الملحّة، وابتعد عن التُّخمة وعن الهمّ المتفاقم نحو الأكل والشرب.
والصوم ـ مع أنّه تكليف شرعيّ ـ نجده تشريفاً من الله عزّوجلّ إلى عباده، وهذا يوجب الشكر؛ إذ أصبحوا موضعَ خطاب الله تعالى وندائه، ومحلَّ تكليفه ودعوته:
يا أيُّها الذينَ آمَنوا كُتِبَ عليكُمُ الصيامُ كما كُتبَ على الذينَ مِن قبلِكُم لَعلّكُم تتّقون
وأيّ شرف عظيم للإنسان أن تتوجّه إليه العناية الربّانيّة فتدعوه إلى ضيافته الخاصّة، ووفادته المكرّمة! وأيّة كرامة له ـ إذا كان مؤمناً ـ أن يُخَصّ بالنداء الشريف كي ينهض بتكليف أُعِدّ بعده الخير والسعادة والإكرام! قال الإمام جعفر الصادق عليه السّلام يوماً: إنّ شهر رمضان لم يَفرضِ اللهُ صيامَه على أحد من الأُمم قبلَنا. فقال له أحد الحاضرين: فقول الله عزّوجلّ... كما كُتب على الذين مِن قبلِكم ؟! فقال عليه السّلام: إنّما فَرضَ اللهُ صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الأُمم، ففضّل اللهُ به هذه الأمّة، وجعل صيامه فرضاً على رسول الله صلّى الله عليه وآله وعلى أُمّته.
ومِن هنا يخاطب الإمام السجّاد سلام الله عليه ربَّه جلّ وعلا بلسان الشكر والثناء، فيقول:
«اللهمّ وأنت جعلتَ مِن صَفايا تلك الوظائف، وخصائصِ تلك الفروض.. شهرَ رمضان الذي اختصَصتَه من سائر الشهور، وتخيّرتَه مِن جميع الأزمنة والدُّهور، وآثَرْتَه على كلِّ أوقات السنةِ بما أنزلتَ فيه من القرآن والنور، وضاعَفتَ فيه من الإيمان، وفَرَضتَ فيه من الصيام، ورَغّبتَ فيه من القيام، وأجلَلتَ فيه من ليلة القَدْر التي هي خيرٌ من ألف شهر.
ثمّ آثَرْتَنا به على سائر الأمم، واصطفَيْتَنا بفضلِه دون أهلِ المِلل، فصُمْنا بأمرِكَ نهارَه، وقُمنا بعَونِكَ ليلَه؛ مُتعرِّضين بصيامه وقيامه لِما عَرّضْتَنا له من رحمتك، وتَسَّبْبنا إليه من مَثُوبتك ».
• ويبلغ الصيام من الشرف مَحلاًّ أنّ الله تعالى يخصُّه لنفسه، فيقول جلّ وعلا في حديث قدسيّ مبارك: الصوم لي، وأنا أجزي به.
وفي رواية أُخرى، قال تبارك وتعالى: كلُّ عملِ ابن آدمَ هو له، غيرَ الصيام، هو لي وأنا أجزي به. والصيام جُنّة العبدِ المؤمن يوم القيامة، كما يَقي أحدَكُم سلاحُه في الدنيا... والصائم يفرح بفرحتَين: حين يُفطِر فيَطعم ويَشرب، وحين يلقاني فأُدخِلُه الجنّة.
وهذا يدعو الصائم إلى التعرّف على أدب الصيام أوّلاً، ثمّ العمل بهذا الأدب تجاه بارئه جلّ وعلا ثانياً.
أدب الصائم
قبل أن يحلّ الشهر المبارك، شهر الله الحبيب، شهر رمضان الخير والبركة.. ينبغي تقديمُ التوبة والإقلاع عن المحرّمات، والإكثار من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم، والصلاة، والاجتهاد في العبادة وكثرة الصدقة وأفعال البِرّ والإحسان إلى المحتاجين والمحرومين.
ويَجمُل بالصائم أن يخلّص ذمّتَه من سائر الحقوق، فينزع الحقد على المؤمنين من قلبه، ويكفّ عن المعاصي، ويترك التنازع والتحاسد، ويتجنّب الإيذاء، ويلزم الصمت عن اللغو والمراء والجدال الباطل فضلاً عن الغِيبة وغيرها من آفات اللسان. ويَحسُن به أن يوجّه جوارحه إلى الطاعات، ويهيّئ قلبه للعبادة، مستحضراً التوجّه والإخلاص، ومنصرفاً عن كلّ ما يشغله عن ذلك من الخصومات وملاهي الدنيا.
فإذا صام المرء الواعي علم أنّه لابدّ له أن يَقرِن انقطاعَه عن الطعام والشراب والمُفطرات، بانقطاعه عن القبائح والدنايا والخطيئات.. وإلاّ لم يَصُم كما أُريد له، ولم يبلغ حكمة الصيام وغايته المُثلى، ولا وُفّق لمقتضيات الصوم الحقيقيّ.
• كان الإمام عليّ بن الحسين عليه السّلام إذا دخل شهر رمضان دعا:
« اللهمّ صَلِّ على محمّدٍ وآله، وألِهمْنا معرفةَ فضله وإجلالَ حُرمته، والتحفّظَ ممّا حظَرْتَ فيه، وأعِنّا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك، واستعمالِها فيه بما يُرضيك.. حتّى لا نُصغيَ بأسماعنا إلى لَغْو، ولا نُسرِعَ بأبصارنا إلى لَهْو، وحتّى لا نبسطَ أيديَنا إلى محظور، ولا نخطوَ بأقدامنا إلى محجور ».
• وقد أوصى الإمام أبو عبدالله الصادق عليه السّلام، فقال:
« إذا أصبحتَ صائماً فلْيصُمْ سمعُك وبصرك من الحرام، وجارحتُك وجميعُ أعضائك من القبيح. ودع عنك الهذيَ وأذى الخادم، وليكُنْ عليك وَقارُ الصيام، والزَمْ ما استطعت من الصمت والسكوت إلاّ عن ذِكر الله. ولا تجعل يومَ صومِك كيوم فِطرك ».
ومن أدب الصائم: صرف النفس عن التلهّي، والتوجّه إلى اللذائذ الروحيّة شوقاً إلى نوال مرضاة الله جلّ وعزّ، بقلبٍ مُقبل على بارئه الرحيم، ولسان ذاكر، ونفس جانحة إلى التزكية، ويد معطاء للخير، وفكر يَقظٍ من مداخل الرياء وشوائب العُجب.
ومن أدب الصائم أيضاً أن يتهيّأ لاستقبال شهر الله المبارك، ويستعدّ للقائه وهو شاكرٌ لله تعالى أن مَدّ في عمره حتّى أدرك أيّام الطاعة في شهر رمضان، وكان من ضيوف الرحمن.
ومن التهيّؤ ـ أيّها الأصدقاء ـ أن يترقّب الحبيبَ القادم، فيستهلّ مُقلِّباً طَرْفَه في آفاق السماء.. حتّى إذا رأى هلال شهر رمضان انتعش قلبه، وتوجّه إلى القِبلة الشريفة رافعاً يديه إلى ربّه عزّوجلّ، مخاطباً الهلال:
ربّي وربُّكَ اللهُ ربُّ العالمين. ثمّ مخاطباً الحقّ المتعال: اللهمّ أهِلَّه علينا بالأمنِ والإيمان، والسلامةِ والإسلام، والمسارعةِ إلى ما تُحبّ وترضى. اللهمّ بارِكْ لنا في شهرنا هذا، وارزُقنا خيرَه وعونه، واصرِف عنّا ضُرَّه وشرّه وبلاءه وفتنتَه.
مهمّات الصيام
من مهمّات الصائم في هذا الشهر العظيم ـ أيّها الإخوة ـ معرفة حقّ شهر رمضان، وأنّه مَنزِلٌ أكرَمَ اللهُ فيه السائرين إليه جلّ وعلا بالدعوة إلى ضيافته. وهذا الشهر المبارك هو دار ضيافة الله تعالى.
وجميلٌ حقّاً أن يعرف الصائم معنى الصوم، ومناسبته، ومعنى ضيافة الله سبحانه لعباده، وأن يسعى بعد المعرفة في تحصيل الإخلاص وطلب وجه الله تعالى ورضاه.
وإذا كان صوم العوامّ بترك الطعام والشراب وما قرّره الفقهاء من الواجبات تركه والمحرّمات، فإنّ صوم الخواصّ يكون بترك ذلك كلِّه مع حفظ الجوارح من المخالفات ومن معاصي الجوارح.. فيما يكون صوم خواصّ الخواصّ هو ترك كلّ ما هو شاغل عن الله عزّ شأنه.
وإذا كان المرء منصرفاً بعد جوعه إلى إشباع معدته، فإنّ الصائم يرى من مهمّاته إفطارَ الصائمين وإكرامهم واستضافتهم على مائدة الأُخوّة والمحبّة في الله تعالى.
وإذا كان الإنسان مشغولاً في الأشهر السالفة بمحاسبة شريكه في العمل، فإنّه في هذا الشهر يرى من مهمّاته أن يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه، ويلاحظ رأس ماله في شهر رمضان.. وهو عمره وإيمانه، وأنوار هذا الشهر الشريف وأنواره ـ هل أُفيض فيه عليه البركات والفضائل والخيرات؟ وكيف غدَتْ أخلاقه ومعارفه، وإلى أيّ شيء صار قلبه وجَنَحت نفسه؟ وهل صلحت حاله وكفّ عن المحرّمات، ومالت روحه إلى الطاعات؟ وما هي حالته حين ودّع شهر رمضان؟ أَكما يودّع عزيزاً حبيباً سيفارقه إلى عام قادم.. وقد لا يدركه إذا فاجأه الأجل؟!
وقفة.. على أعتاب الرحيل (في وداع شهر الله الأكبر)
خاطرة كئيبة
حزّ في النفس أن أقف مودِّعاً عزيزاً لا يزورني إلاّ مرّةً واحدة في العام كلّه، فيغدق علَيّ فضائله السخيّة ويغمرني بلطفه وحنانه، ويخلق لي أجواء الأُنس والرحمة حتّى ينسيَني أنه سيرحل عنّي. فأستفيق فجأة مذعور القلب مهموم النفس كئيب الخاطر حيث أراه يجمع أطراف إزاره استعداداً للسفر الجديد، فأشدّ على يديه الكريمتين أن يبقى، فيأبى، وعذره أنّ أمره بيد الله تبارك وتعالى، وقد قدّر له أن يمضي بعد هذه السويعات، بل كانت لحظات سعيدة لا ندري كيف انصرمت وفرّت من بين أيدينا.
وأغالط عقلي إذ أتوسّل إليه أن يبقى قليلاً أو يتأنى، ولا جدوى، إذ هو جارٍ مجرى الزمان، وسائر في تعاقب الليل والنهار.. إلاّ أنّه رأف بحالي فأمّلني أن يعود مرّة أُخرى في العالم القادم، ففرحت وكانت فرحتي ممزوجةً بتلقين النفس بالصبر وتوطينها عليه، فسنةٌ كاملة ليست بالقليل، فالفراق وحشة تعتصر القلب، ولكن لابدّ من التسليم لأمر الله وقضائه. فدعني أفرح وأنتظر، وأنا أعيش الأمل الجميل والموعد العزيز، حيث لقاء ولو بعد عام من الوجد.
ثمّ أستفيق على كدر من النفس، تنبّهني قائلةً لي: يا عبدالله، كيف ضمنتَ أن تبقى سنةً أُخرى حتّى يكون اللقاء ؟! ومن أين علمت أنّك في العام القابل من الأحياء، لا من الأموات ؟! أجَل والله، فلعلّي بعد ساعة أو أقلّ أكون في عِداد الراحلين عن الدنيا، فلا أُدرك ذلك الموعد المؤنس مع الحبيب الراحل!
وتغتمّ نفسي مرّة أخرى، وكادت أن تنفجر بالبكاء والنحيب، أو أن تبوح بصرخة حزن عميق، إلاّ أنّ المودِّع العزيز عاد يؤمّلها أن يكون لها الأنيس الشفيع إن هي تابت توبة نصوحاً، وهجرت الذنوب هجرة قاطعة، وسارت نحو الله جلّ وعلا، ولازمت حبّ آل الله، محمّدٍ وأهل بيته أحبّاء الله.
إنّه شهر رمضان الحبيب، ها هو يودّعنا، بعد أن زارنا فنعِمْنا بنفحاته القدسيّة، وعشنا معه ساعاتٍ كريمةً طيّبة، فكان أنيسنا المبارك، إذ شغلَنا بذكْر الله جلّ وعلا في تلاوةٍ لأيات شريفات، وترتيلٍ لأدعية مأثورات، وصرفَنا عن كثير من الذنوب، وستر علينا جملة من العيوب، وأطلَعنا على آفاق مشرقة من الغيوب.. من معانٍ سامية في كتاب الله، وحالات روحية في عبادة الله.
فسلام عليك يا شهر الله، يا عيد الروح، ويا أبرّ الأصحاب وإن رحلْت، ويا أعزّ مودَّع من أيّام العمر، يا من أدخل البهجة بلقياه، وترك الوحشة والحزن بفراقه.. نرجوك ألاّ تغيب عنا وإن كان منك سفر، دَعْك تعيش في ضمائرنا وقلوبنا حتّى نلقاك أو تلقانا ونحن على العهد، فإن عدتَ وكنّا من الأحياء وجدتَنا على وفائنا منتظرين لك مفترشين أيدينا لاستقبالك، واستهلال هلالك.. وإن عدت ولم نكن من الأحياء، فأملنا أن تلفانا مرحومين لا محرومين، راجين لا يائسين، فقد علّمتْنا مناجاتُك أن نعقد الآمال على رحمة الله ولطفه، لا على أعمالنا.
نحو الأبلغ
ومهما كانت ألسنتنا تنطق بالبلاغة والبيان، لتعبّر عن لوعتنا بفراق شهر الله وحرماننا من بركاته وأوقاته الشريفة، فإنّها تَلكنُ أمام عبارات الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام، حيث كان له في وداع شهر رمضان دعاء، غاية في التعبير الصادق عن لواعج المحبّ وأشجانه وأحزانه وهو يودّع العزيز بقلب يبكي وروح تتألق، فكان منه هذه العبارات الجليلة:
وقد أقام فينا هذا الشهر مُقامَ حمْد، وصحِبنا صُحبةَ مبرور، وأربَحنا أفضل أرباح العالَمين، ثمّ قد فارقَنا عند تمام وقته، وانقطاع مدّته، ووفاءِ عدده.
فنحن مودِّعوه وِداعَ مَن عزّ فراقُه علينا، وغمّنا وأوحشَنا انصرافه عنّا، ولزِمَنا له الذِّمامُ المحفوظ، والحرمة المَرْعيّة، والحقُّ المقضيّ، فنحن قائلون:
السّلام عليك يا شهرَ الله الأكبر، ويا عيدَ أوليائه.
السّلام عليك يا أكرمَ مصحوب من الأوقات، ويا خير شهرٍ في الأيّام والساعات.
السّلام عليك من شهر قرُبت فيه الآمال، ونُشرت فيه الأعمال.
السّلام عليك من قرين جلّ قدْرُه موجودا، وأفجع فقْدُه مفقودا، ومرجوٍّ آلمَ فراقه.
السّلام عليك من أليفٍ آنسَ مقْبِلاً فسَرّ، وأوحش منقضياً فمضّ.
السّلام عليك من مُجاورٍ رقّت فيه القلوب، وقلّت فيه الذنوب.
السّلام عليك من ناصرٍ أعان على الشيطان، وصاحبٍ سهّل سبُلَ الإحسان...
السّلام عليك، ما كان أمحاكَ للذنوب وأسترك لأنواع العيوب!...
السّلام عليك كما وفدتَ علينا بالبركات، وغسلتَ عنّا دنَسَ الخطيئات.
السّلام عليك غيرَ مودَّعٍ برَما، ولا متروكٍ صيامُه سأَما.
السّلام عليك من مطلوبٍ قبل وقته، ومحزونٍ عليه قبل فوته.
السّلام عليك، كم من سوءٍ صُرف بك عنّا، وكم من خيرٍ أُفيض بك علينا!
السّلام عليك، ما كان أحرصَنا بالأمس عليك، وأشدَّ شوقَنا غداً إليك!
السّلام عليك وعلى فضلك الذي حُرِمناه، وعلى ماضٍ من بركاتك سُلِبناه...
اللهمّ صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد، واجبرْ مصيبتَنا بشهرنا، وباركْ لنا في يوم عيدنا وفِطْرنا، واجعله من خير يومٍ مرّ علينا، أجْلَبَه لعفو، وأمحاه لذنب، واغفر لنا ما خفيَ من ذنوبنا وما عَلَن.
اللهمّ اسلَخْنا بانسلاخ هذا الشهر من خطايانا، وأخرِجْنا بخروجه من سيّئاتنا، واجعلنا من أسعدِ أهله به، وأجزلِهم قِسْماً فيه، وأوفرِهم حظّاً منه...
اللهمّ ارزقنا خوفَ عقابِ الوعيد، وشوقَ ثوابِ الموعود، حتّى نجد لذّة ما ندعوك به، وكآبةَ ما نستجيرك منه، واجعلنا عندك من التوّابين الذين أوجبتَ لهم محبّتك، وقبِلتَ منهم مراجعة طاعتك، يا أعدلَ العادِلين..
قبيل الفراق
يقول أهل المعرفة والمعنى في مراقبات شهر رمضان المبارك: من مهمّات هذا الشهر الكريم أن يحاسب العبد نفسه في عمل الشهر كما يحاسب الشريك شريكه في آخر العمل، ويلاحظ رأس ماله الذي هو عمره وإيمانه وبركاتُ شهر مضان وأنواره، هل ازداد إيمانه ؟ وكيف أخلاقه المنبعثة عن معارفه، من الخوف والرجاء، والصبر والزهد والتجرّد لذكْر الله، والتفكّر في أمر الله، والرضى والتوكّل والتسليم، وانفساح القلب في تحمّل البلايا، وكيف تجافيه عن دار الغرور، وإنابته إلى دار الخلود؟ وهل كان لشهر رمضان وأعماله تأثير في ذلك؟
ويحاسب العبد نفسه في آخر الشهر.. في أفعاله وحركات جوارحه، هل بقيت على حالها أم ازدادت مراقبته لها على ضوء أحكام الله؟ لا سيّما بالنسبة إلى حركات لسانه في: التكلّم بما لا يعينه، والخوض في الباطل، والكذب، والغيبة والافتراء، والتعرّض لأعراض المؤمنين، والفحش والإيذاء.. وغيرها. فليكنْ وجلاً خائفاً أن يكون مغبوناً، فإنّه من انسلخ عنه شهر رمضان ولم يُغفرْ له فلا غفرَ الله له ـ كما دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله، فإنّ ذلك من أعظم المصائب، لذا عليه أن يعمد إلى إصلاح حاله ملتجئاً إلى رحمة الله سبحانه، وهو يتعوّذ كما كان يتعوّذ كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان: أعوذ بجلال وجهك الكريم، أن ينقضيَ عنّي شهرُ رمضانَ أو يطلُعَ الفجرُ من ليلتي هذه ولك قِبَلي تبِعةٌ أو ذنب تعذّبني عليه.
ومن علامات صلاح الحال أن يكون على العبد سِمةُ مذلّة الخاطئين، ووجَل قلوب المذنبين.
ومن المهمّات أيضاً، أن يودّع العبد شهر رمضان وهو متأثر لمفارقته، والأهمّ من ذلك أن يكون صادقاً في وداعه فيما يُظهره من الحزن عند التوديع، لئلاّ يختم شهره بالكذب والنفاق. وإنّما يكون محزوناً لفراقه إذا كان محبّاً لمصاحبة مَن يودّعه، مطيعاً له مشتاقاً إلى عودته ولقائه، مراقباً للإتيان بالأعمال التي جاء بها هذا المودَّع العزيز، مُجِدّاً في ذلك، معتقداً لكرامته وفضله.. فهنا يعزّ عليه رحيله، ويستوحش من فراقه، ويحزن في وداعه.
ثمّ لابدّ للعبد الذي راقب شهره شهر الله، أن يختمه بالصدق في الإنابة، وأن لا يرجع إلى ما كان فيه من مخالفة مراد ربّه ومولاه، بل يقف على العهد، ويفي ويُخلص الطاعة له، ويرجوه أن يمدّ في عمره ما كان بِذلةً في طاعته، فيوصله إلى مواسم العبادة ليتطلّب فيها درجات مرضاته تبارك وتعالى.
ختامه مسك العبادة
وينصرم الشهر الكريم، فيلاحقه المؤمن بقلب كئيب يعتصر حزناً، وعيونٍ دامعة تقطر شوقاً، ولكنّه لا يغفل في أواخر اليوم الآخر، الذي هو يوم عرض أعمال الشهر، أن يبادر إلى تجديد التوبة، والسجود لله تعالى وهو طاوٍ جوعاً، خاضعاً لربّه يرجوه عفوه وقبول ذلّته وطاعته.. حتّى يختم شهره وهو ساجد جائع، ويدخل إلى ليلة العيد وهو ساجد جائع، يأمل كرامة الله ورحمته.
وإذا رفع رأسه راقب هلال شوّال، فإذا علمه نهض من جديد في العبادة، فهذه الليلة هي من الليالي الشريفة، وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل العبادة فيها وإحيائها. ولها أعمال عدّة، منها:
الغُسل المندوب، المشتمل على غَسل الأجساد من الأدران بالماء، وغسل القلوب من الذنوب بالتوبة، ويكون الغسل بعد غروب الشمس من آخر يوم من أيّام شهر رمضان أو أواخر ليلة العيد.
فإذا فرغ العبد من فريضة المغرب ونافلته، رفع يديه إلى السماء وقال: ياذا المَنِّ والطَّول، ياذا الجود، يا مُصطفيَ محمّدٍ وناصرَه، صلّ على محمّدٍ وآل محمّد، واغفر لي كلّ ذنْبٍ أحصيتَه وهو عندك في كتابٍ مُبين. ثمّ يسجد ويقول في سجوده مئة مرّة: أتوب إلى الله، ثمّ يسأل اللهَ تعالى ما يشاء.
ولا يغفل في ليلته هذه عن الصلاة والدعاء والاستغفار، وأن يبدأ بالتكبيرات في أعقاب صلاة المغرب والعشاء والصبح وعقيب صلاة العيد، وهي: اللهُ أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله والله أكبر، الله أكبرُ ولله الحمد، الحمدُ لله على ما هدانا، وله الشكر على ما أولانا.
ولا ينسى هذا المؤمن وقلبه مفعَم بالولاء لآل المصطفى صلّى الله عليه وآله أن يزور حبيبه الإمامَ الحسين عليه السّلام بالزيارة المخصوصة في العيدين: الفطر والأضحى.
ويتلو هذا الدعاء الذي ورد في أعمال ليلة الجمعة، وهو: يا دائمَ الفضل على البريّة، يا باسط اليدينِ بالعطيّة، يا صاحب المواهب السَّنيّة، صلِّ على محمّدٍ وآله خيرِ الورى سجيّة، واغفرْ لنا ياذا العُلى في هذه العشيّة.
هذا.. بعد أن يكون العبد قد ودّع شهر رمضان بالدعوات المأثورة عن الإمام السجّاد عليه السّلام وعن الإمام الصادق عليه السّلام، كما هي مدرجة في محلّها من كتب الأدعية والأعمال. (3)
وأخيراً.. لابدّ للعبد أن يعرف قدْر منّة الله جلّ جلاله، كيف عرّفه ما عرف، وكيف أدخله في شهر الصيام تحت ظلّه، ووصل حبله بحبله، ووفّقه للإقبال عليه، والتشرّف بالمثول بين يديه، وشغله بالشكر والثناء عليه، عن طلب كثير من الحوائج إليه، حتّى يوشك أن يقضيها الله تعالى له دون أن يذكرها بلسانه، إذ كان لسانه مشغولاً بهذه العبارات يلهج بها في ليالي القدر الشريفة:
يا خيرَ الغافرين، يا خير الحامدين، يا خير المحسنين..
يا مُقلّبَ القلوب، يا طبيب القلوب، يا منوّر القلوب، يا أنيس القلوب..
يا دليلَ المتحيّرين، يا غياث المستغيثين، يا ملجأ العاصين..
يا خيرَ المرهوبين، يا خير المرغوبين، يا خير المطلوبين، يا خير المقصودين، يا خير المذكورين، يا خير المشكورين، يا خير المحبوبين، يا خير المدعوّين.
يا من إليه يفزع المذنبون، يا من إليه يقصد المنيبون، يا من إليه يرغب الزاهدون، يا من إليه يلجأ المتحيّرون، يا من به يستأنس المريدون، يا من به يفتخر المحبّون، يا من في عفوه يطمع الخاطئون..
يا نعم الحسيب، يا نعم الطبيب، يا نعم الحبيب، يا نعم المولى..
يا سرور العارفين، يا مُنى المحبّين، يا أنيس المريدين، يا حبيب التوّابين، يا رجاء المذنبين، يا قرّة عين العابدين..
يا من يعلم مراد المريدين، يا من يعلم ضمير الصامتين، يا من يرى بكاء الخائفين، يا من يقبل عذر التائبين، يا من لا يبعُد عن قلوب العارفين..
يا خير معروف عُرف، يا أفضلَ معبود عُبد، يا أجلّ مشكور شُكر، يا أعزّ مذكور ذُكر، يا أكرم مسؤول سُئل، يا أشرف محبوب عُلم..
يا خير داعٍ ومدعوّ، يا خير مُجيبٍ ومُجاب، يا خير مؤنس وأنيس، يا خير صاحب وجليس، يا خير مقصود ومطلوب، يا خير حبيب ومحبوب..
يا من هو لمن دعاه مجيب، يا من هو لمن أطاعه حبيب، يا من هو إلى من أحبّه قريب..
يا من هو غاية مراد المريدين، يا من هو منتهى هِمم العارفين، يا من هو منتهى طلب الطالبين..