في ذكرى استشهاد الامام الجواد (ع)
سنوات معدودة وخطوات كبيرة في المسيرة الرسالية
عند الحديث عن سيرة بعض الائمة نرى ان الحديث يطول الى درجة لا يستطيع الانسان ان يجمعه في بحث واحد، وقد يتحول الحديث عن الامام علي (ع) فقط الى كتب ومجلدات وكذلك مثلا الحديث عن الامام الصادق (ع)، لكننا حين نراجع حياة امام اخر كالامام الجواد (ع) فاننا نجد ان مادة الحديث قليلة الى درجة نعجز معها عن التوسع في حياة هذا الامام فهل يدل ذلك على ان بعض الائمة كانوا اثرى من غيرهم علميا وفقهيا واجتماعيا؟!
وهذه الظاهرة انما تدل على ان هناك تقصيراً فادحاً من العلماء والباحثين في استقصاء حياة الائمة المعصومين (عليهم السلام) او انهم ركزوا على جوانب من شخصيتهم واهملوا جوانب اخرى لعدم استيعابهم لتلك الجوانب ولكن مع هذا الشيء الوجيز الذي وصلنا عن سيرة الامام الجواد (ع) نرى انه قد جعل لنا منهاجا لهذه الحياة متكاملا في كل جوانبها الفكرية والسياسية والاجتماعية.
مثلا لو تكلمنا عن جانب العبادة عند الامام الجواد (ع) لوجدناها تمثل التكامل والاقتراب الى الله تبارك وتعالى وبنفس الوقت تفيض على الناس بركة وعطاء، فكان امامنا الجواد كثير النوافل يصلي ركعتين يقرأ في كل ركعة الفاتحة وسورة الاخلاص سبعين مرة وكان كثير الصيام، بل كان يأمر بعض اصحابه المقربين ومن في بيته من الجواري والنساء ان يصوموا في ايام الاستحباب وهكذا يروي عنه الرواة افعاله العبادية في الحج وادعيته واحرازه المشهورة وقد سجل الامام الجواد درسا رائعا في سجل الانسانية عندما اعرض وهو في ريعان الشباب عن الاموال الطائلة التي كان يبعثها اليه المأمون فهو الدرس للزاهدين ونهج للمتقين ان لا يغتروا بالمال والمتاع وقد رآه (الحسين المكاري) في بغداد وكان الامام محاطا بالتعظيم والتكريم من قبل الاوساط الرسمية والشيعية فحدث نفسه انه لا يرجع الى وطنه بل يقيم عند الامام في ظل هذه الاجواء، فعرف الامام قصده فانعطف وقال له: "يا حسين خبز الشعير وملح الجريش في حرم جدي رسول الله (ص) أحب إليّ مما تراني فيه".
وأما عن علم الامام (ع) فانه من الشيء الملفت للنظر هو كثرة الاسئلة التي وجهت الى الامام محمد الجواد في فترة حياته القصيرة وكان الامام الجواد (ع) يجيب عن المئات من الاسئلة في اليوم الواحد وكانت هذه الاسئلة تنطلق من حب معرفة الامام وامتحانه وحاول المخالفون ان يسخروا من امامنا الجواد لانه صبي فجالسه كبار علمائهم وناظروه على مختلف الاصعدة فوجدوه بحرا لا ينفذ وعطاءا علميا لا ينضب.
وروي ان الامام الجواد صعد المنبر في مسجد النبي (ص) بعد رحيل والده فقال: "أنا محمد بن علي الرضا أنا الجواد، أنا العالم بانساب الناس في الاصلاب، انا أعلم بسرائركم وظواهركم وما أنتم صائرون اليه؛ عِلمٌ منحناه به من قِبَل خالق الخلق اجمعين وبعد فناء السماوات والارضين ولولا تظاهر أهل الباطل ودولة اهل الضلال ووثوب اهل الشك لقلت قولا يتعجب منه الاولون والاخرون".
وهناك الكثير من المناظرات العقائدية التي اجريت مع الامام الجواد والتي افاض فيها من ذلك العلم الغزير والثقافة التي نبعت عن قلب ملهم وفؤاد مفعم، وأما جانب المعجزة عنده فهي حضوره من المدينة الى خراسان عبر طي الارض ليحضر مراسم وفاة والده الامام الرضا (ع)، يقول أبو الصلت الهروي وكان اكثر المقربين للامام الرضا (ع): عندما تناول الامام السم دخلت معه الى البيت وأمرني أن أغلق الباب ففعلت وعدت الى وسط الدار فرأيت غلاما عليه وفرة ظننته، أبن الرضا ولم أك قد رأيته من قبل ذلك، فجلس مع الرضا مدة تناجيا فيها ثم ضمه الى صدره بعدها تمدد الامام الرضا على السرير وغطاه ابنه محمد بالرداء وقال: "يا أبا الصلت عظم الله اجرك فقد مضى"، فبكيت، فقال: "لا تبك هات الماء لنقوم في تغسيله" ثم أمرني بالخروج فقام بتغسيله وحده وكفنه وحنطه الى أن قام الامام بجميع مراسيم الوفاة ثم عاد في نفس الليلة الى المدينة.
هذه كانت أحد معاجز الامام (ع) وايضا وضع لنا منهاجا يبين ويؤكد فيه قداسة آبائه المعصومين ومظلومية الزهراء (عليهم السلام).
وكانت مأساة سيدتنا الزهراء في طليعة هموم وغموم الائمة الكرام، وذات مرة دخل على الامام الجواد (ع) رجل فقال له: اني طفت يوما نيابة عن الرسول (ص) ويوما عن امير المؤمنين ويوما عن الحسن ويوما عن الحسين ويوما عن السجاد وهكذا بقية الائمة الى أن قال: وطفت يوما عنك ويوما طفت عن امك فاطمة (ع) فقال له الجواد (ع): "اذا والله تدين الله بالدين الذي لا يقبل من العباد غيره، استكثر من هذا فإنه افضل ما أنت عامله ان شاء الله".
أما على صعيد الحركة الرسالية فقد ورث الامام الجواد (ع) تركة والده الامام الرضا (ع) السياسية منها والاجتماعية، فقد كان الامام الرضا (ع) يقيم في خراسان منذ بدايات يزوع نجم المأمون العباسي الذي اتخذ من خراسان مركزا للدولة الاسلامية، وذلك بعد قرار الاخير باحضاره بغير رغبته من مدينة جده رسول الله (ص)، وكان الهدف واضحا وهو اضفاء المشروعية على حكمه اللاشرعي، ويؤكد لنا التاريخ المديات الواسعة التي استفاد فيها الامام الرضا (ع) من فرصة ولاية العهد المفروضة في دعم ومساندة الحركة الرسالية، فلم يتمكن المأمون من الاساءة او التضييق على اصحاب الامام وعموم الموالين لاهل البيت (ع)، هذا الحال استمر بعد استشهاده (ع) كما إن المأمون العباسي اعتبر أن لا مناص من الاعتماد على اهل البيت (ع) لاستمرار حكمه، فكرر بنفس النهج مع الامام الجواد (ع) وكان حينها المأمون قد بلغ الكبر عتياً، فعرض على الامام الزواج من ابنته فوافق (ع) استنادا الى النهج الذي سار عليه والده الامام الرضا (ع).
لقد عاصر الامام الجواد بقية ملك المأمون الذي تعامل مع امامنا الجواد بكل ليونه واعطاه مطلق الحرية مما ساعد الامام على التبليغ وتوسيع رفعة التشيع وازدياد القواعد الشيعية، ثم بعد المأمون جاء المعتصم العباسي الذي كان تركي الطباع الا انه تعامل مع الامام بكل قسوة وظلم، فقد ضيق الخناق عليه وأمره ان يهاجر من المدينة الى بغداد ويستقر فيها مكرها، بعد ان رأى المعتصم العباسي اتساع قاعدة الشيعة وعلم الامام ومناظراته معهم التي كانت تحز في نفس المعتصم مما جعله يخطط لقتل الامام الجواد (ع) لانه كان يهدد دولته وحكومته، فجلس المعتصم مع جعفر بن المأمون يديران ويعملان الحيلة في التخلص من أبي جعفر الجواد (ع) فاتصل جعفر بن المأمون باخته ام الفضل فوضعت له السم في الطعام ويقال انه وضعه في العنب، الامر الذي ادى الى استشهاد الامام (ع) وذهب الى جوار ربه الكريم في اواخر شهر ذي القعدة سنة 220 للهجرة.
ومن أقوال الامام محمد بن علي الجواد (عليه السلام): "الجمال في اللسان والكمال في العقل"، وقال الامام أيضا(ع): "لو سكت الجاهل ما اختلف الناس"، وقال ايضا (ع): من استغنى لله افتقر الناس اليه، ومن اتقى الله احبه الناس وإن كرهوا".
فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا..........