الغيبة لماذا؟ والى اين يرجع الناس في زمانها؟
لقد أفادت الروايات الواردة عن النبي(ع) والأئمة(ع) عللاً متعدّدة تـُـشير إلى علّتين اساسيتين منها:العلــّـة الاولى: على الإمام الذي يتحدّى الطغاة ويخرج عليهم أن لا يكون في عنقه بيعة لطاغيه زمانه عند خروجه بالسيف، فعن الإمام أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) أنه قال: (يبعث القائم وليس في عنقه بيعة لأحد).
العلّــة الثانية: إنّ التآمر على المهدي بالقتل والتصفية الجسدية بعد الحصار الشامل لجده وأبيه كان يفرض عليه ـ لأجل المحافظة على نفسه من أيدي الطغاة المتربصّين له ـ التخلص من هذا التآمر بالغيبة فقط، إذن تكون العلة في غيبته هي الخوف من القتل وهو بعدُ لم يحقق الهدف من وجوده فإنه هو المؤمّل للقضاء على الظلم والظالمين وإقامة العدل الشامل من خلال دولة الحق المجيدة.
فعن زرارة قال: سمعت أبا جعفر الباقر يقول: (إن للقائم غيبة قبل أن يقوم،قال: قلت: ولِمَ؟ قال: يخاف ـ وأومأ بيديه إلى بطنه) أي يخاف القتل.وفي حديث للإمام الحسن العسكري(عليه السلام) بعد استعراضه لمحاولة فرعون قتل موسى(عليه السلام) وحفظ الله تبارك وتعالى لموسى(عليه السلام) تشبيه دقيق لظروف غيبة النبي الكريم بغيبة الوصي المنتظر(عليه السلام) قال الإمام العسكري(عليه السلام): (كذلك بنو أمية وبنو العباس لمّا وقفوا على أن زوال ملك الاُمراء والجبابرة منهم على يد القائم منّا، ناصبونا العداوة ووضعوا سيوفهم في قتل آل الرسول(صلى الله عليه وآله) وإبادة نفسه طمعاً منهم في الوصول إلى القائم ويأبى الله عزّ وجلّ أن يكشف أمره لواحد من الظلمة إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره المشركون.والغيبة الصغرى بشكل خاص هي تمهيد طبيعي ومنطقي للغيبة الكبرى التي تتحقق فيها الغيبة التامّة التي تفوّت الفرصة على الظالمين من التعرف عليه وكشف سرّه.وقد سلك الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) في اخفائه وتعريف شيعته به وإقامة الحجة عليهم بوجوده سلوكاً دقيقاً جمع فيه بين وجوب حفظه من أعدائه ووجوب إتمام الحجة عليهم بوجوده.حتى أن عمّ الإمام المهدي(عليه السلام) جعفر بن علي الهادي لم يعلم بولادته ولا بوجوده، وعليه فلابدّ من غيبة صغرى كي يُعرف خلالها ميلاده(عليه السلام) ووجوده ويعرض على خواصّ أصحاب الإمام العسكري(عليه السلام) كما فعل هو حيث عرضه على خواصّ أصحابه وأعلن لهم عن ولادته، ثم عقّ عنه وتباشر الشيعة بذلك وكتموه عن من سواهم.وهناك علّة اُخرى يمكن فهمها من خلال الواقع التاريخي تتلخّص في ضرورة تحقق الاستعداد اللازم من قبل أتباعه الذين تعوّدوا درك حضور الإمام فلابد من مرحلة تمهدية ليتسنّى تقبّـل هذه الغيبة الطويلة حيث يتكامل خلالها الكيان الشيعي ليستقل بادارة شؤونه دون حاجة كبيرة إلى الارتباط المباشر بالإمام المعصوم بعد أن سعى أهل البيت(ع) لرفع المستوى العلمي لشيعتهم; تمهيداً لمرحلة الغيبة الكبرى حيث يكون اعتمادهم على رواة أحاديث الأئمة(عليهم السلام) العارفين بالحلال والحرام، كما ورد في التوقيع الشريف الصادر عن الإمام المهدي(عليه السلام) إلى أحمد بن إسحاق عندما سأله عن مسائل إذ قال له: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله).
وهذا دليل آخر على ضرورة فتح باب الاجتهاد كما هو مفتوح في مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، لا سيما في فترة غيبة الإمام المعصوم(عليه السلام) وذلك، بعد أن عمل الأئمة(عليهم السلام) في تربية الذهنية الشيعية وارتفعوا بها إلى مستويات عليا متجاوزين أوّليات كثيرة كانت تتطلبها عملية الاجتهاد هذه، ويقتضيها التعامل الصحيح مع النصوص.