ق10: : بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ:
=========================
: بحوثٌ قرآنيَّة مَعرِفيَّة :
==============================

بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاةُ والسلامُ على نبينا محمد وآله المعصومين

:القسم العاشر:
=========
: موانع تكامل الإنسان في منهاج القرآن :
========================

إنَّ الحديث عن موضوع التكامل الإنساني ليس هو حديث الترف العلمي والمعرفي.

بل هو حديثُ عن حكمة وقصد ومنهج وواقع شرّعَ له الله تعالى شرعةً ومنهاجا .

وحكتْ الآيات القرآنية عن أنموذج الإسوة الحسنة في ذلك.

وهذه ثنائية الشرعة والمنهاج لم تك خاصة بأمة دون أخرى بل عمّمها الله تعالى على كل الأمم والمجتمعات.

قال تعالى:


(( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ )) المائدة48

بمعنى:
فقد جعلنا لكل أمة شريعة ومنهاجا وطريقة واضحة يعملون بها.
ولو شاء الله لجعل شرائعكم واحدة
ولكنه تعالى خالف بينها ليختبركم
فيظهر المطيع من العاصي

فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين بالعمل بما في القرآن الكريم وسنّة النبي محمد وأهل بيته المعصومين:عليهم السلام:

فإنَّ مصيركم إلى الله فيخبركم بما كنتم فيه تختلفون ويجزي كلا بعمله.


وبما أنَّ الله تعالى قد جعل لنا شرعة ومنهاجا

لكنه قد جعل لذلك حكمة وقصدا وغاية تتعلق بمصير وخيار الإنسان في هذه الحياة الدنيا



وهنا يجب أن ندرك في ذلك كله موضوع تكامل الإنسان من خلال تعريضه للإختبار الرباني

بعد جعل الشرعة والمنهاج وبصورة بيِّنة.

والذي يحكي هنا أيضا عن موضوع تكامل الإنسان

هو فقرة:


فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ

ففي هذه الفقرة ما يشير إلى ضرورة تحرك الإنسان وتكامله في وجوده الحياتي بإتجاه كل خير وصلاح وصالح.

لاسيما والفقرة هذه قد إرتبطت بمصير الإنسان آخرويا



((إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ))

وبهذا قد حكتْ عن الهدف والحكمة من وجود الإنسان وهو التكامل بحسب الإمكان.


والتكامل الإنساني:

هو نوع إضافة كمية وكيفية تتحقق في مستوى العقل و العلم والمعرفة والسلوك والوعي بصورة دائمة في شخصية الإنسان.

تجعل طالب التكامل متوازنا في وجوده وقويما وصالحا في حياته .



إنَّ طلب الكمال والتكامل هو منزع فطري إنساني ينشده كل عاقل في هذه الحياة

لكن توجد ثمة موانع واقعيّة ومُفترضة أحيانا تجعل الإنسان في حيلولة من ذلك.

وممكن لنا تبويبها إختصارا للبحث بصورة نقاط رئيسة أهمها:




:1:

: إهمال الإنسان الإستفادة من قوى الخير والفطرة والعقل المودعة في كينونته :

علماً إنَّ الله تعالى قد زود الإنسان بطاقات كامنة وفيّاضة في فطرته وعقله ووجدانه

وقد ذكرنا هذه الحقيقة في البحوث السابقة
وقلنا إنَّ سورة الشمس قد إختزلت هذه الحقيقة مفهوميا


َونَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا{7}
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا{8}
قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا{9}
وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا{10}



فالطاقات أو القابليات أو الإستعدادات الذاتية هي كامنة في كينونة الإنسان بالجعل الإلهي.



ووظيفة الإنسان هنا تُختزل بتحريك هذه القوى أو الطاقات من وضع الركود والكمون إلى وضع الفعل والتحقق والإظهار.

وممكن إنجاز هذه الوظيفة بصورة التكامل التدريجي الممكن وجوديا.



لكن المعضل العملي يكمن في أنَّ الإنسان نفسه يهمل الإستفادة من طاقاته ذاتيا

بمعنى أنه لم يطلب التكامل بفعل تعجيز ذاته وتعطيل قواه إراديا.

في وقتٍ يتطلبُ من الإنسان أن يتكامل بفعل الإستفاده من فطرته وعقله ووجدانه


بإعتبار أنَّ التكامل الإنساني يتقوم بمقومات صلبه أهمها إحياء وظيفة العقل والفطرة والوجدان .

وإلى ذلك المعنى قد أشار الإمام علي:عليه السلام:


في قوله:

: قد أحيا عقله وأمات نفسه حتى دق جليله ولطف غليظه
وبرق له لامع كثير البرق


فأبان له الطريق وسلك به السبيل


وتدافعت به الأبواب إلى باب السلامة ودار - الإقامة ، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الامن والراحة


بما استعمل قلبه وارضى ربه :
: نهج البلاغة: خ 220 :


بمعنى على الإنسان الطالبُ للتكامل أن يتحرّك في تحصيل التكامل المعرفي والعلمي والأخلاقي

ويتحقق ذلك بطلب العلم والمعرفة والتقوى والعبادة

وإماتة النفس و هي تعبير كنائي عن قهر النفس الآمّارة بالسوء

وترغيبها بالعبادة وجعلها مُطمئنة بحيث لا يكون لها تصرف على حد طباعها
الاّ بتوجيه العقل .



إنَّ التخلّص من هذه المعضلة معضلة إهمال الطاقة الفطرية والعقلية

يتلخّص في الأخذ الإرادي والعملي عن أهل الكمال والتكامل الإنساني.

والقرآن الكريم قد أشار إلى ضرورة الأخذ ببصيرة
و وعي وفطنة عن ما تطرحه العقيدة والشريعة الحقة في أغراضها الحكيمة.

قال تعالى:


(( قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) يوسف108



((لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ )) الحاقة12





:2:

: تجاهل الإنسان الحكمةَ من وجوده
والتغافل عن المصير الذي ينتظره في النهاية الوجودية:


وهذا التجاهل للحكمة من وجود الإنسان في هذه الحياة الدنيا

إنما يأتي نتيجة الغرور الذي يُهيمن على واقع الإنسان
ويجعله في عزله عن إدراك ووعي وجوده
بصورة يفوت معها إمكان تكامله بالمرة



وإلى ذلك المعنى قد نبّه القرآن الكريم في قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ{6}
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ{7}
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ{8}
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ{ 9 :
سورة الإنفطار:



(( وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ )) الحديد14



والمعنى هو:


وشككتم في البعث بعد الموت وخدعتكم أمانيكم الباطلة وبقيتم على ذلك
حتى جاءكم الموت وخدعكم بالله الشيطان الرجيم..


والذي يُرجع الإنسان إلى صوابه في حال تجاهل الحكمة من وجوده
هو ضرورة إقتناعه ذاتيا بالغاية التي لأجلها خلقه الله تعالى.

قال تعالى:

َبلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ{14}
وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ{15 :سورة القيامة:


(( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ )) المؤمنون115





:3:
: إرتكاب الذنوب والمعاصي :

وهذا مانعٌ لا يكاد يَسلم منه أحدٌ إلاّ من عصمه الله تعالى.
ولا أريد الإسهاب في هذا المانع مع ما فيه من خطورة كبيرة جدا.
ذلك كونه مُدرك لكل إنسان في وجدانه

فإنّه حينما يذنب يجد نفسه في وادٍ غير صالح وبعيد



ومعلوم أيضاً أنَّ إرتكاب الذنوب يُفقد الإنسان عقله ووعيه وتجعله في غمرات الجهل والغفلة والتكذيب والإستهزاء.
وبالتالي يُحرِم الإنسان نفسه من التكامل وتزكية نفسه وسلوكه




قال تعالى:

{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون }الروم10




{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ }المطففين14

بمعنى:


إنما حجب قلوبهم عن التصديق بما جاء عن الله تعالى
هو ما غشاها من كثرة ما يرتكبون من الذنوب .






:4:
:مانع الأفكار والثقافات والسلوكيات الفاسدة :

إنَّ من أخطر ما يواجهه الإنسان هو الفكر الفاسد والثقافة المنحرفة والسلوك الخاطئ والتي تصدر جميعها عن الهوى البشري.


وهذه الثلاثية تضغط هي الآخرى بإتجاه الحيلولة دون تكامل الإنسان معنويا ومعرفيا وسلوكيا.

وقد تعرَّض القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة مرارا
وبيّن مدى تأثير الفكر والسوك الضال على مصير الإنسان سلبا
فضلا عن تفويت فرصة التكامل عليه .

قال تعالى:

(( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً
فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ )) الجاثية23


بمعنى :


أنَّ الإنسان إنما يضل حينما يتخذ هواه إلهًا له
فلا يهوى شيئًا إلا فَعَله
وأضلَّه الله بعد بلوغ العلم إليه وقيام الحجة عليه
فلا يسمع مواعظ الله ولا يعتبر بها

وطبع على قلبه فلا يعقل به شيئًا وجعل على بصره غطاء فلا يبصر به حجج الله ؟

فمَنْ يوفقه لإصابة الحق والرشد بعد إضلال الله إياه؟

أفلا تذكرون -أيها الناس- فتعلموا أنَّ مَن فَعَل الله به ذلك فلن يهتدي أبدًا
ولن يجد لنفسه وليًا مرشدًا؟



والآية أصل في التحذير من أن يكون الهوى هو الباعث للناس على أعمالهم.




وقد إختزل القرآن الكريم أيضا علاج ظاهرة الفكر الضال والسلوك المنحرف.


في قوله تعالى:



(( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً )) الكهف28

((فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا )) النجم29




ويتبعُ القسم الحادي عشر إن شاء اللهُ تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مرتضى علي الحلي : النجف الأشرف :