ولنعم ما قال ابن ابي الحديد في هذا الصدد منهيا كل علم حصل في الاسلام وفضيلة اليه :
أما فضائله عليه السلام ، فإنها قد بلغت من العظم والجلاله والانتشار والاشتهار مبلغا يسمج معه التعرض لذكرها ، والتصدي لتفصيلها ،وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل ، ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله ، فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الاسلام في شرق الارض وغربها ، واجتهدوا بكل حيله في إطفاء نوره ، والتحريض عليه ، ووضع المعايب والمثالب له ، ولعنوه على جميع المنابر ، وتوعدوا مادحيه ، بل حبسوهم وقتلوهم ، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيله ، أو يرفع له ذكرا ، حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه ، فما زاده ذلك إلا رفعه وسموا ، وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه ، وكلما كتم تضوع نشره ، وكالشمس لا تستر بالراح ، وكضوء النهار ان حجبت عنه عين واحدة ، أدركته عيون كثيره ! وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة ، وتنتهى إليه كل فرقة ، وتتجاذبه كل طائفة ، فهو رئيس الفضائل وينبوعها ، وأبو عذرها ، وسابق مضمارها ، ومجلى حلبتها ، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ ، وله اقتفى ، وعلى مثاله احتذى .
وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الالهى ، لان شرف العلم بشرف المعلوم ، ومعلومه أشرف الموجودات ، فكان هو أشرف العلوم . ومن كلامه عليه السلام اقتبس ، وعنه نقل ، وإليه انتهى ، ومنه ابتدأ فإن المعتزلة الذين هم أ هل التوحيد والعدل ، وأرباب النظر ، ومنهم تعلم الناس هذا الفن تلامذته وأصحابه ، لان كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبى هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ، وأبو هاشم تلميذ أبيه وأبوه تلميذه عليه السلام . وأما الاشعرية فانهم ينتمون إلى أبى الحسن على بن إسماعيل بن أبى بشر الاشعري ، وهو تلميذ أبى على الجبائى ، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة ، فالاشعرية ينتهون بأخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم وهو على بن أبى طالب عليه السلام . وأما الامامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر .
ومن العلوم : علم الفقه ، وهو عليه السلام أصله وأساسه ، وكل فقيه في الاسلام فهو عيال عليه ، ومستفيد من فقهه ، أما أصحاب أبى حنيفه كأبى يوسف ومحمد وغيرهما ، فأخذوا عن أبى حنيفة ، وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن ، فيرجع فقهه إيضا إلى أبى حنيفة ، وأما أحمد بن حنبل ، فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضا إلى أبى حنيفة ، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد عليه السلام ، وقرأ جعفر على أبيه عليه السلام ، وينتهى الامر إلى على عليه السلام . وأما مالك بن أنس ، فقرأ على ربيعة الرأى ، وقرأ ربيعة على عكرمة ، وقرأ عكرمه على عبد الله بن عباس ، وقرأ عبد الله بن عباس على على بن أبى طالب ، وإن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك ، فهؤلاء الفقهاء الاربعة . واما فقه الشيعة : فرجوعه إليه ظاهر وأيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا : عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس ، وكلاهما أخذ عن على عليه السلام . أما ابن عباس فظاهر ، وأما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التى أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة ، وقوله غير مرة : لو لا على لهلك عمر ، وقوله : لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن . وقوله : لا يفتين أحد في المسجد وعلى حاضر ، فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه . وقد روت العامة والخاصة قوله صلى الله عليه وآله : أقضاكم على ، والقضاء هو الفقه ، فهو إذا أفقههم . وروى الكل أيضا أنه عليه السلام قال له وقد بعثه إلى اليمن قاضيا : اللهم اهد قلبه وثبت لسانه قال : فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين وهو عليه السلام الذى أفتى في المرأة التى وضعت لسته أشهر ، وهو الذى أفتى في الحامل الزانية ، وهو الذى قال في المنبرية: صار ثمنها تسعا . وهذه المسأله لو فكر الفرضي فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب ، فما ظنك بمن قاله بديهة ، واقتضبه ارتجالا .
ومن العلوم : علم تفسير القرآن ، وعنه أخذ ، ومنه فرع . وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك ، لان أكثره عنه وعن عبد الله بن عباس ، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له ، وانقطاعه إليه ، وأنه تلميذه وخريجه . وقيل له : أين علمك من علم ابن عمك ؟ فقال : كنسبة قطره من المطر إلى البحر المحيط .
ومن العلوم : علم الطريقة والحقيقة ، وأحوال التصوف ، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الاسلام ، إليه ينتهون ، وعنده يقفون ، وقد صرح بذلك الشبلي ، والجنيد ، وسري ، وأبو يزيد البسطامى ، وأبو محفوظ معروف الكرخي ، وغيرهم . ويكفيك دلالة على ذلك الخرقة التى هي شعارهم إلى اليوم ، وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه عليه السلام .
ومن العلوم : علم النحو والعربية ، وقد علم الناس كافه أنه هو الذى ابتدعه وأنشأه ، وأملى على أبى الاسود الدؤلى جوامعه وأصوله ، من جملتها الكلام كله ثلاثة أشياء : اسم وفعل وحرف . ومن جملتها : تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة ، وتقسيم وجوه الاعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم ، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات ، لان القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر ، ولا تنهض بهذا الاستنباط .
وإن رجعت إلى الخصائص الخلقية والفضائل النفسانية والدينية وجدته ابن جلاها وطلاع ثناياها.
وأما الشجاعة : فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله ، ومحا اسم من يأتي بعده ، ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الامثال إلى يوم القيامة ، وهو الشجاع الذى ما فر قط ، ولا ارتاع من كتيبة ، ولا بارز أحدا إلا قتله ، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الاولى إلى ثانية ، وفي الحديث كانت ضرباته وترا ، ولما دعا معاوية إلى المبارزه ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما ، قال له عمرو : لقد أنصفك ، فقال معاوية : ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم ! أ تأمرني بمبارزه أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق ! أراك طمعت في إمارة الشام بعدي ! وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته ، فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنه عليه السلام قتلهم أظهر وأكثر ، قالت أخت عمرو بن عبد ود ثرثيه :
لو كان قاتل عمرو غير قاتله بكيته أبدا ما دمت في الابد
لكن قاتله من لا نظير له وكان يدعى أبوه بيضة البلد
وانتبه يوما معاوية ، فرأى عبد الله بن الزبير جالسا تحت رجليه على سريره ، فقعد ، فقال له عبد الله يداعبه : يا أمير المؤمنين ، لو شئت أن أفتك بك لفعلت ، فقال : لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر ، قال : وما الذي تنكره من شجاعتي وقد وقفت في الصف إزاء علي بن أبى طالب ! قال : لا جرم إنه قتلك وأباك بيسرى يديه ، وبقيت اليمنى فارغة ، يطلب من يقتله بها . وجملة الامر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهي ، وباسمه ينادى في مشارق الارض ومغاربها .
وأما القوة والايد : فبه يضرب المثل فيهما ، قال ابن قتيبه في( المعارف ): ما صارع أحدا قط إلا صرعه . وهو الذى قلع باب خيبر ، واجتمع عليه عصبه من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه ، وهو الذى اقتلع هبل من أعلى الكعبة ، وكان عظيما جدا ، وألقاه إلى الارض . وهو الذى اقتلع الصخره العظيمة في أيام خلافته عليه السلام بيده بعد عجز الجيش كله عنها ، وأنبط الماء من تحتها .
وأما السخاء والجود : فحاله فيه ظاهرة ، وكان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده ، وفيه أنزل ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) . وروى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم ، فتصدق بدرهم ليلا ، وبدرهم نهارا ، وبدرهم سرا ، وبدرهم علانية ، فأنزل فيه : (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ) . وروى عنه أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة ، حتى مجلت يده ، ويتصدق بالاجرة ، ويشد على بطنه حجرا . وقال الشعبى وقد ذكره عليه السلام : كان أسخى الناس ، كان على الخلق الذي يحبه الله : السخاء والجود ، ما قال : ( لا ) لسائل قط . وقال عدوه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبى سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبي لما قال له : جئتك من عند أبخل الناس ، فقال : ويحك ! كيف تقول إنه أبخل الناس ، لو ملك بيتا من تبر وبيتا من تبن ، لانفد تبره قبل تبنه . وهو الذى كان يكنس بيوت الاموال ويصلي فيها ، وهو الذي قال : يا صفراء ، ويا بيضاء ، غري غيري . وهو الذي لم يخلف ميراثا ، وكانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام .
وأما الحلم والصفح : فكان أحلم الناس عن ذنب ، وأصفحهم عن مسئ ، وقد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل ، حيث ظفر بمروان بن الحكم وكان أعدى الناس له ، وأشدهم بغضا فصفح عنه . وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رءوس الاشهاد ، وخطب يوم البصرة فقال : قد أتاكم الوغد اللئيم علي بن أبى طالب وكان علي عليه السلام يقول : ما زال الزبير رجلا منا اهل البيت حتى شب عبد الله فظفر به يوم الجمل ، فأخذه أسيرا ، فصفح عنه ، وقال : اذهب فلا أرينك ، لم يزده على ذلك . وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة ، وكان له عدوا ، فأعرض عنه ولم يقل له شيئا . وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره ، فلما ظفر بها أكرمها ، وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم ، وقلدهن بالسيوف ، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به ، وتأففت وقالت : هتك سترى برجاله وجنده الذين وكلهم بى فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن ، وقلن لها : إنما نحن نسوه . وحاربه أهل البصرة وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف ، وشتموه ولعنوه ، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم ، ونادى مناديه في أقطار العسكر : ألا لا يتبع مول ، ولا يجهز على جريح ، ولا يقتل مستأسر ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن تحيز إلى عسكر الامام فهو آمن . ولم يأخذ أثقالهم ، ولا سبى ذراريهم ، ولا غنم شيئا من أموالهم ، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل ، ولكنه أبى إلا الصفح والعفو وتقيل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة ، فإنه عفا والاحقاد لم تبرد ، والاساءة لم تنس . ولما ملك عسكر معاوية عليه الماء ، وأحاطوا بشريعة الفرات ، وقالت رؤساء الشام له
اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا ، سألهم علي عليه السلام وأصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء ، فقالوا : لا والله ، ولا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفان ، فلما رأى عليه السلام أنه الموت لا محالة تقدم بأصحابه ، وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة ، حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع ، سقطت منه الرؤوس والايدي ، وملكوا عليهم الماء ، وصار أصحاب معاوية في الفلاة ، لا ماء لهم ، فقال له أصحابه وشيعته : امنعهم الماء يا أمير المؤمنين ، كما منعوك ، ولا تسقهم منه قطرة ، واقتلهم بسيوف العطش ، وخذهم قبضا بالايدي فلا حاجه لك إلى الحرب ، فقال : لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم ، افسحوا لهم عن بعض الشريعة ، ففي حد السيف ما يغني عن ذلك . فهذه إن نسبتها إلى الحلم والصفح فناهيك بها جمالا وحسنا ، وإن نسبتها إلى الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله عليه السلام ! .
وأما الجهاد في سبيل الله : فمعلوم عند صديقه وعدوه أنه سيد المجاهدين ، وهل الجهاد لاحد من الناس إلا له ! وقد عرفت أن أعظم غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وأشدها نكاية في المشركين بدر الكبرى ، قتل فيها سبعون من المشركين ، قتل علي نصفهم ، وقتل المسلمون والملائكة النصف الآخر . وإذا رجعت إلى مغازي محمد بن عمر الواقدي وتاريخ الاشراف ليحيى بن جابر البلاذري وغيرهما علمت صحة ذلك ، دع من قتله في غيرها كأحد والخندق وغيرهما ، وهذا الفصل لا معنى للاطناب فيه ، لانه من المعلومات الضرورية ، كالعلم بوجود مكة ومصر ونحوهما .
وأما الفصاحة : فهو عليه السلام إمام الفصحاء ، وسيد البلغاء ، وفي كلامه قيل : دون كلام الخالق ، وفوق كلام المخلوقين . ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة ، قال عبد الحميد بن يحيى : حفظت سبعين خطبة من خطب الاصلع ، ففاضت ثم فاضت . وقال ابن نباتة: حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الانفاق الا سعة وكثرة ، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبى طالب . ولما قال محفن بن أبى محفن لمعاوية : جئتك من عند أعيا الناس ، قال له : ويحك ! كيف يكون أعيا الناس ! فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره ، ويكفى هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة ، ولا يبارى في البلاغة . وحسبك أنه لم يدون لاحد من فصحاء الصحابة العشر ، ولا نصف العشر مما دون له ، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب ( البيان والتبيين ) وفي غيره من كتبه .
وأما سجاحة الاخلاق ، وبشر الوجه ، وطلاقة المحيا ، والتبسم : فهو المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه ، قال عمرو بن العاص لاهل الشام : أنه ذو دعابة شديدة . وقال علي عليه السلام في ذاك : عجبا لابن النابغة ! يزعم لاهل الشام أن في دعابة ، وأني امرؤ تلعابة ، أعافس وأمارس! وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه : لله أبوك لولا دعابة فيك ! إلا أن عمر اقتصر عليها ، وعمرو زاد فيها وسمجها . قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه : كان فينا كأحدنا ، لين جانب ، وشدة تواضع ، وسهولة قياد ، وكنا نهابه مهابة الاسير المربوط للسياف الواقف على رأسه . وقال معاوية لقيس بن سعد : رحم الله أبا حسن ، فلقد كان هشا بشا ، ذا فكاهة ، قال قيس : نعم ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ويبتسم إلى أصحابه ، وأراك تسر حسوا في ارتغاء ، وتعيبه بذلك ! أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى ، تلك هيبة التقوى ، وليس كما يهابك طغام أهل الشام ! . وقد بقى هذا الخلق متوارثا متنافلا في محبيه وأوليائه إلى الآن ، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر ، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك .
وأما الزهد في الدنيا : فهو سيد الزهاد ، وبدل الابدال ، وإليه تشد الرحال ، وعنده تنفض الاحلاس ، ما شبع من طعام قط . وكان أخشن الناس مأكلا وملبسا ، قال عبد الله بن أبي رافع : دخلت إليه يوم عيد ، فقدم جرابا مختوما ، فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا ، فقدم فأكل ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، فكيف تختمه ؟ قال : خفت هذين الولدين أن يلتاه بسمن أو زيت . وكان ثوبه مرقوعا بجلد تارة ، وليف أخرى ، ونعلاه من ليف . وكان يلبس الكرباس الغليظ ، فإذا وجد كمه طويلا قطعه بشفرة ، ولم يخطه ، فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمة له ، وكان يأتدم إذا ائتدم بخل أو بملح ، فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الارض ، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الابل ، ولا يأكل اللحم إلا قليلا ، ويقول : لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان . وكان مع ذلك أشد الناس قوة وأعظمهم أيدا ، لا ينقض الجوع قوته ، ولا يخون الاقلال منته . وهو الذي طلق الدنيا وكانت الاموال تجبى إليه من جميع بلاد الاسلام إلا من الشام ، فكان يفرقها ويمزقها ، ثم يقول :
هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه
وأما العبادة : فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوما ، ومنه تعلم الناس صلاة الليل ، وملازمة الاوراد وقيام النافلة ، وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير ، فيصلي عليه ورده ، والسهام تقع بين يديه وتمر على صماخيه يمينا وشمالا ، فلا يرتاع لذلك ، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته ! وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده . وأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته ، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله ، وما يتضمنه من الخضوع لهيبته ، والخشوع لعزته والاستخذاء له ، عرفت ما ينطوي عليه من الاخلاص ، وفهمت من أي قلب خرجت ، وعلى أي لسان جرت ! . وقيل لعلي بن الحسين عليه السلام - وكان الغاية في العبادة : أين عبادتك من عبادة جدك ؟ قال : عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدى عند عبادة رسول الله صلى الله عليه وآله
وأما قراءته القرآن واشتغاله به : فهو المنظور إليه في هذا الباب ، اتفق الكل على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولم يكن غيره يحفظه ، ثم هو أول من جمعه ، نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبى بكر ، فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخر مخالفة للبيعة ، بل يقولون : تشاغل بجمع القرآن فهذا يدل على أنه أول من جمع القرآن ، لانه لو كان مجموعا في حياه رسول الله صلى الله عليه وآله لما احتاج إلى أن يتشاغل بجمعه بعد وفاته صلى الله عليه وآله . وإذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القراء كلهم يرجعون إليه ، كابي عمرو بن العلاء وعاصم بن أبي النجود وغيرهما ، لانهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمى القارئ ، وأبو عبد الرحمن كان تلميذه ، وعنه أخذ القرآن ، فقد صار هذا الفن من الفنون التى تنتهى إليه أيضا ، مثل كثير مما سبق .
وأما الرأي والتدبير : فكان من أسد الناس رأيا ، وأصحهم تدبيرا ، وهو الذي أشار على عمر بن الخطاب لما عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الروم والفرس بما أشار . وهو الذى أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها ، ولو قبلها لم يحدث عليه ما حدث . وإنما قال أعداؤه : لا رأي له ، لانه كان متقيدا بالشريعة لا يرى خلافها ، ولا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه . وقد قال عليه السلام : لو لا الدين والتقى لكنت أدهى العرب . وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوفقه ، سواء أ كان مطابقا للشرع أم لم يكن . ولا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده ، ولا يقف مع ضوابط وقيود يمتنع لاجلها مما يرى الصلاح فيه ، تكون أحواله الدنيوية إلى الانتظام أقرب ، ومن كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب .
وأما السياسة : فإنه كان شديد السياسة ، خشنا في ذات الله ، لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولاه إياه ، ولا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به . وأحرق قوما بالنار ، ونقض دار مصقلة بن هبيرة ودار جرير بن عبد الله البجلي ، وقطع جماعة وصلب آخرين . ومن جملة سياسته في حروبه أيام خلافته بالجمل وصفين والنهروان ، وفي أقل القليل منها مقنع ، فإن كل سائس في الدنيا لم يبلغ فتكه وبطشه وانتقامه مبلغ العشر مما فعل عليه السلام في هذه الحروب بيده وأعوانه .
فهذه هي خصائص البشر ومزاياهم قد أوضحنا أنه فيها الامام المتبع فعله ، والرئيس المقتفى أثره .
وما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة ،
وتصور ملوك الفرنج والروم صورته في بيعها وبيوت عباداتها ، حاملا سيفه ، مشمرا لحربه ،
أما فضائله عليه السلام ، فإنها قد بلغت من العظم والجلاله والانتشار والاشتهار مبلغا يسمج معه التعرض لذكرها ، والتصدي لتفصيلها ،وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل ، ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله ، فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الاسلام في شرق الارض وغربها ، واجتهدوا بكل حيله في إطفاء نوره ، والتحريض عليه ، ووضع المعايب والمثالب له ، ولعنوه على جميع المنابر ، وتوعدوا مادحيه ، بل حبسوهم وقتلوهم ، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيله ، أو يرفع له ذكرا ، حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه ، فما زاده ذلك إلا رفعه وسموا ، وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه ، وكلما كتم تضوع نشره ، وكالشمس لا تستر بالراح ، وكضوء النهار ان حجبت عنه عين واحدة ، أدركته عيون كثيره ! وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة ، وتنتهى إليه كل فرقة ، وتتجاذبه كل طائفة ، فهو رئيس الفضائل وينبوعها ، وأبو عذرها ، وسابق مضمارها ، ومجلى حلبتها ، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ ، وله اقتفى ، وعلى مثاله احتذى .
وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الالهى ، لان شرف العلم بشرف المعلوم ، ومعلومه أشرف الموجودات ، فكان هو أشرف العلوم . ومن كلامه عليه السلام اقتبس ، وعنه نقل ، وإليه انتهى ، ومنه ابتدأ فإن المعتزلة الذين هم أ هل التوحيد والعدل ، وأرباب النظر ، ومنهم تعلم الناس هذا الفن تلامذته وأصحابه ، لان كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبى هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ، وأبو هاشم تلميذ أبيه وأبوه تلميذه عليه السلام . وأما الاشعرية فانهم ينتمون إلى أبى الحسن على بن إسماعيل بن أبى بشر الاشعري ، وهو تلميذ أبى على الجبائى ، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة ، فالاشعرية ينتهون بأخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم وهو على بن أبى طالب عليه السلام . وأما الامامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر .
ومن العلوم : علم الفقه ، وهو عليه السلام أصله وأساسه ، وكل فقيه في الاسلام فهو عيال عليه ، ومستفيد من فقهه ، أما أصحاب أبى حنيفه كأبى يوسف ومحمد وغيرهما ، فأخذوا عن أبى حنيفة ، وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن ، فيرجع فقهه إيضا إلى أبى حنيفة ، وأما أحمد بن حنبل ، فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضا إلى أبى حنيفة ، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد عليه السلام ، وقرأ جعفر على أبيه عليه السلام ، وينتهى الامر إلى على عليه السلام . وأما مالك بن أنس ، فقرأ على ربيعة الرأى ، وقرأ ربيعة على عكرمة ، وقرأ عكرمه على عبد الله بن عباس ، وقرأ عبد الله بن عباس على على بن أبى طالب ، وإن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك ، فهؤلاء الفقهاء الاربعة . واما فقه الشيعة : فرجوعه إليه ظاهر وأيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا : عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس ، وكلاهما أخذ عن على عليه السلام . أما ابن عباس فظاهر ، وأما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التى أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة ، وقوله غير مرة : لو لا على لهلك عمر ، وقوله : لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن . وقوله : لا يفتين أحد في المسجد وعلى حاضر ، فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه . وقد روت العامة والخاصة قوله صلى الله عليه وآله : أقضاكم على ، والقضاء هو الفقه ، فهو إذا أفقههم . وروى الكل أيضا أنه عليه السلام قال له وقد بعثه إلى اليمن قاضيا : اللهم اهد قلبه وثبت لسانه قال : فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين وهو عليه السلام الذى أفتى في المرأة التى وضعت لسته أشهر ، وهو الذى أفتى في الحامل الزانية ، وهو الذى قال في المنبرية: صار ثمنها تسعا . وهذه المسأله لو فكر الفرضي فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب ، فما ظنك بمن قاله بديهة ، واقتضبه ارتجالا .
ومن العلوم : علم تفسير القرآن ، وعنه أخذ ، ومنه فرع . وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك ، لان أكثره عنه وعن عبد الله بن عباس ، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له ، وانقطاعه إليه ، وأنه تلميذه وخريجه . وقيل له : أين علمك من علم ابن عمك ؟ فقال : كنسبة قطره من المطر إلى البحر المحيط .
ومن العلوم : علم الطريقة والحقيقة ، وأحوال التصوف ، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الاسلام ، إليه ينتهون ، وعنده يقفون ، وقد صرح بذلك الشبلي ، والجنيد ، وسري ، وأبو يزيد البسطامى ، وأبو محفوظ معروف الكرخي ، وغيرهم . ويكفيك دلالة على ذلك الخرقة التى هي شعارهم إلى اليوم ، وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه عليه السلام .
ومن العلوم : علم النحو والعربية ، وقد علم الناس كافه أنه هو الذى ابتدعه وأنشأه ، وأملى على أبى الاسود الدؤلى جوامعه وأصوله ، من جملتها الكلام كله ثلاثة أشياء : اسم وفعل وحرف . ومن جملتها : تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة ، وتقسيم وجوه الاعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم ، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات ، لان القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر ، ولا تنهض بهذا الاستنباط .
وإن رجعت إلى الخصائص الخلقية والفضائل النفسانية والدينية وجدته ابن جلاها وطلاع ثناياها.
وأما الشجاعة : فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله ، ومحا اسم من يأتي بعده ، ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الامثال إلى يوم القيامة ، وهو الشجاع الذى ما فر قط ، ولا ارتاع من كتيبة ، ولا بارز أحدا إلا قتله ، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الاولى إلى ثانية ، وفي الحديث كانت ضرباته وترا ، ولما دعا معاوية إلى المبارزه ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما ، قال له عمرو : لقد أنصفك ، فقال معاوية : ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم ! أ تأمرني بمبارزه أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق ! أراك طمعت في إمارة الشام بعدي ! وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته ، فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنه عليه السلام قتلهم أظهر وأكثر ، قالت أخت عمرو بن عبد ود ثرثيه :
لو كان قاتل عمرو غير قاتله بكيته أبدا ما دمت في الابد
لكن قاتله من لا نظير له وكان يدعى أبوه بيضة البلد
وانتبه يوما معاوية ، فرأى عبد الله بن الزبير جالسا تحت رجليه على سريره ، فقعد ، فقال له عبد الله يداعبه : يا أمير المؤمنين ، لو شئت أن أفتك بك لفعلت ، فقال : لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر ، قال : وما الذي تنكره من شجاعتي وقد وقفت في الصف إزاء علي بن أبى طالب ! قال : لا جرم إنه قتلك وأباك بيسرى يديه ، وبقيت اليمنى فارغة ، يطلب من يقتله بها . وجملة الامر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهي ، وباسمه ينادى في مشارق الارض ومغاربها .
وأما القوة والايد : فبه يضرب المثل فيهما ، قال ابن قتيبه في( المعارف ): ما صارع أحدا قط إلا صرعه . وهو الذى قلع باب خيبر ، واجتمع عليه عصبه من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه ، وهو الذى اقتلع هبل من أعلى الكعبة ، وكان عظيما جدا ، وألقاه إلى الارض . وهو الذى اقتلع الصخره العظيمة في أيام خلافته عليه السلام بيده بعد عجز الجيش كله عنها ، وأنبط الماء من تحتها .
وأما السخاء والجود : فحاله فيه ظاهرة ، وكان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده ، وفيه أنزل ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) . وروى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم ، فتصدق بدرهم ليلا ، وبدرهم نهارا ، وبدرهم سرا ، وبدرهم علانية ، فأنزل فيه : (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ) . وروى عنه أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة ، حتى مجلت يده ، ويتصدق بالاجرة ، ويشد على بطنه حجرا . وقال الشعبى وقد ذكره عليه السلام : كان أسخى الناس ، كان على الخلق الذي يحبه الله : السخاء والجود ، ما قال : ( لا ) لسائل قط . وقال عدوه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبى سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبي لما قال له : جئتك من عند أبخل الناس ، فقال : ويحك ! كيف تقول إنه أبخل الناس ، لو ملك بيتا من تبر وبيتا من تبن ، لانفد تبره قبل تبنه . وهو الذى كان يكنس بيوت الاموال ويصلي فيها ، وهو الذي قال : يا صفراء ، ويا بيضاء ، غري غيري . وهو الذي لم يخلف ميراثا ، وكانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام .
وأما الحلم والصفح : فكان أحلم الناس عن ذنب ، وأصفحهم عن مسئ ، وقد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل ، حيث ظفر بمروان بن الحكم وكان أعدى الناس له ، وأشدهم بغضا فصفح عنه . وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رءوس الاشهاد ، وخطب يوم البصرة فقال : قد أتاكم الوغد اللئيم علي بن أبى طالب وكان علي عليه السلام يقول : ما زال الزبير رجلا منا اهل البيت حتى شب عبد الله فظفر به يوم الجمل ، فأخذه أسيرا ، فصفح عنه ، وقال : اذهب فلا أرينك ، لم يزده على ذلك . وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة ، وكان له عدوا ، فأعرض عنه ولم يقل له شيئا . وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره ، فلما ظفر بها أكرمها ، وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم ، وقلدهن بالسيوف ، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به ، وتأففت وقالت : هتك سترى برجاله وجنده الذين وكلهم بى فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن ، وقلن لها : إنما نحن نسوه . وحاربه أهل البصرة وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف ، وشتموه ولعنوه ، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم ، ونادى مناديه في أقطار العسكر : ألا لا يتبع مول ، ولا يجهز على جريح ، ولا يقتل مستأسر ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن تحيز إلى عسكر الامام فهو آمن . ولم يأخذ أثقالهم ، ولا سبى ذراريهم ، ولا غنم شيئا من أموالهم ، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل ، ولكنه أبى إلا الصفح والعفو وتقيل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة ، فإنه عفا والاحقاد لم تبرد ، والاساءة لم تنس . ولما ملك عسكر معاوية عليه الماء ، وأحاطوا بشريعة الفرات ، وقالت رؤساء الشام له
اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا ، سألهم علي عليه السلام وأصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء ، فقالوا : لا والله ، ولا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفان ، فلما رأى عليه السلام أنه الموت لا محالة تقدم بأصحابه ، وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة ، حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع ، سقطت منه الرؤوس والايدي ، وملكوا عليهم الماء ، وصار أصحاب معاوية في الفلاة ، لا ماء لهم ، فقال له أصحابه وشيعته : امنعهم الماء يا أمير المؤمنين ، كما منعوك ، ولا تسقهم منه قطرة ، واقتلهم بسيوف العطش ، وخذهم قبضا بالايدي فلا حاجه لك إلى الحرب ، فقال : لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم ، افسحوا لهم عن بعض الشريعة ، ففي حد السيف ما يغني عن ذلك . فهذه إن نسبتها إلى الحلم والصفح فناهيك بها جمالا وحسنا ، وإن نسبتها إلى الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله عليه السلام ! .
وأما الجهاد في سبيل الله : فمعلوم عند صديقه وعدوه أنه سيد المجاهدين ، وهل الجهاد لاحد من الناس إلا له ! وقد عرفت أن أعظم غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وأشدها نكاية في المشركين بدر الكبرى ، قتل فيها سبعون من المشركين ، قتل علي نصفهم ، وقتل المسلمون والملائكة النصف الآخر . وإذا رجعت إلى مغازي محمد بن عمر الواقدي وتاريخ الاشراف ليحيى بن جابر البلاذري وغيرهما علمت صحة ذلك ، دع من قتله في غيرها كأحد والخندق وغيرهما ، وهذا الفصل لا معنى للاطناب فيه ، لانه من المعلومات الضرورية ، كالعلم بوجود مكة ومصر ونحوهما .
وأما الفصاحة : فهو عليه السلام إمام الفصحاء ، وسيد البلغاء ، وفي كلامه قيل : دون كلام الخالق ، وفوق كلام المخلوقين . ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة ، قال عبد الحميد بن يحيى : حفظت سبعين خطبة من خطب الاصلع ، ففاضت ثم فاضت . وقال ابن نباتة: حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الانفاق الا سعة وكثرة ، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبى طالب . ولما قال محفن بن أبى محفن لمعاوية : جئتك من عند أعيا الناس ، قال له : ويحك ! كيف يكون أعيا الناس ! فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره ، ويكفى هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة ، ولا يبارى في البلاغة . وحسبك أنه لم يدون لاحد من فصحاء الصحابة العشر ، ولا نصف العشر مما دون له ، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب ( البيان والتبيين ) وفي غيره من كتبه .
وأما سجاحة الاخلاق ، وبشر الوجه ، وطلاقة المحيا ، والتبسم : فهو المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه ، قال عمرو بن العاص لاهل الشام : أنه ذو دعابة شديدة . وقال علي عليه السلام في ذاك : عجبا لابن النابغة ! يزعم لاهل الشام أن في دعابة ، وأني امرؤ تلعابة ، أعافس وأمارس! وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه : لله أبوك لولا دعابة فيك ! إلا أن عمر اقتصر عليها ، وعمرو زاد فيها وسمجها . قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه : كان فينا كأحدنا ، لين جانب ، وشدة تواضع ، وسهولة قياد ، وكنا نهابه مهابة الاسير المربوط للسياف الواقف على رأسه . وقال معاوية لقيس بن سعد : رحم الله أبا حسن ، فلقد كان هشا بشا ، ذا فكاهة ، قال قيس : نعم ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ويبتسم إلى أصحابه ، وأراك تسر حسوا في ارتغاء ، وتعيبه بذلك ! أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى ، تلك هيبة التقوى ، وليس كما يهابك طغام أهل الشام ! . وقد بقى هذا الخلق متوارثا متنافلا في محبيه وأوليائه إلى الآن ، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر ، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك .
وأما الزهد في الدنيا : فهو سيد الزهاد ، وبدل الابدال ، وإليه تشد الرحال ، وعنده تنفض الاحلاس ، ما شبع من طعام قط . وكان أخشن الناس مأكلا وملبسا ، قال عبد الله بن أبي رافع : دخلت إليه يوم عيد ، فقدم جرابا مختوما ، فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا ، فقدم فأكل ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، فكيف تختمه ؟ قال : خفت هذين الولدين أن يلتاه بسمن أو زيت . وكان ثوبه مرقوعا بجلد تارة ، وليف أخرى ، ونعلاه من ليف . وكان يلبس الكرباس الغليظ ، فإذا وجد كمه طويلا قطعه بشفرة ، ولم يخطه ، فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمة له ، وكان يأتدم إذا ائتدم بخل أو بملح ، فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الارض ، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الابل ، ولا يأكل اللحم إلا قليلا ، ويقول : لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان . وكان مع ذلك أشد الناس قوة وأعظمهم أيدا ، لا ينقض الجوع قوته ، ولا يخون الاقلال منته . وهو الذي طلق الدنيا وكانت الاموال تجبى إليه من جميع بلاد الاسلام إلا من الشام ، فكان يفرقها ويمزقها ، ثم يقول :
هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه
وأما العبادة : فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوما ، ومنه تعلم الناس صلاة الليل ، وملازمة الاوراد وقيام النافلة ، وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير ، فيصلي عليه ورده ، والسهام تقع بين يديه وتمر على صماخيه يمينا وشمالا ، فلا يرتاع لذلك ، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته ! وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده . وأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته ، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله ، وما يتضمنه من الخضوع لهيبته ، والخشوع لعزته والاستخذاء له ، عرفت ما ينطوي عليه من الاخلاص ، وفهمت من أي قلب خرجت ، وعلى أي لسان جرت ! . وقيل لعلي بن الحسين عليه السلام - وكان الغاية في العبادة : أين عبادتك من عبادة جدك ؟ قال : عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدى عند عبادة رسول الله صلى الله عليه وآله
وأما قراءته القرآن واشتغاله به : فهو المنظور إليه في هذا الباب ، اتفق الكل على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولم يكن غيره يحفظه ، ثم هو أول من جمعه ، نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبى بكر ، فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخر مخالفة للبيعة ، بل يقولون : تشاغل بجمع القرآن فهذا يدل على أنه أول من جمع القرآن ، لانه لو كان مجموعا في حياه رسول الله صلى الله عليه وآله لما احتاج إلى أن يتشاغل بجمعه بعد وفاته صلى الله عليه وآله . وإذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القراء كلهم يرجعون إليه ، كابي عمرو بن العلاء وعاصم بن أبي النجود وغيرهما ، لانهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمى القارئ ، وأبو عبد الرحمن كان تلميذه ، وعنه أخذ القرآن ، فقد صار هذا الفن من الفنون التى تنتهى إليه أيضا ، مثل كثير مما سبق .
وأما الرأي والتدبير : فكان من أسد الناس رأيا ، وأصحهم تدبيرا ، وهو الذي أشار على عمر بن الخطاب لما عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الروم والفرس بما أشار . وهو الذى أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها ، ولو قبلها لم يحدث عليه ما حدث . وإنما قال أعداؤه : لا رأي له ، لانه كان متقيدا بالشريعة لا يرى خلافها ، ولا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه . وقد قال عليه السلام : لو لا الدين والتقى لكنت أدهى العرب . وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوفقه ، سواء أ كان مطابقا للشرع أم لم يكن . ولا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده ، ولا يقف مع ضوابط وقيود يمتنع لاجلها مما يرى الصلاح فيه ، تكون أحواله الدنيوية إلى الانتظام أقرب ، ومن كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب .
وأما السياسة : فإنه كان شديد السياسة ، خشنا في ذات الله ، لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولاه إياه ، ولا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به . وأحرق قوما بالنار ، ونقض دار مصقلة بن هبيرة ودار جرير بن عبد الله البجلي ، وقطع جماعة وصلب آخرين . ومن جملة سياسته في حروبه أيام خلافته بالجمل وصفين والنهروان ، وفي أقل القليل منها مقنع ، فإن كل سائس في الدنيا لم يبلغ فتكه وبطشه وانتقامه مبلغ العشر مما فعل عليه السلام في هذه الحروب بيده وأعوانه .
فهذه هي خصائص البشر ومزاياهم قد أوضحنا أنه فيها الامام المتبع فعله ، والرئيس المقتفى أثره .
وما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة ،
وتعظمه الفلاسفة على معاندتهم لاهل الملة ،
وتصور ملوك الفرنج والروم صورته في بيعها وبيوت عباداتها ، حاملا سيفه ، مشمرا لحربه ،