الإمام الحسن بن علي العسكري هو المعصوم الثالث عشر والإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت عليهم السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.

نشأ وتربّى في ظلّ أبيه الذي فاق أهل عصره علماً وزهداً وتقوىً وجهاداً.
وصحب أباه اثنين أو ثلاثاً وعشرين سنة وتلقّى خلالها ميراث الإمامة والنبوّة فكان كآبائه الكرام علماً وعملاً وقيادةً وجهاداً وإصلاحاً لاُمّة جدّه محمد صلى الله عليه وآله.
وقد ظهر أمر إمامته في عصر أبيه الهادي عليه السلام وتأكّد لدى الخاصة من أصحاب الإمام الهادي والعامة من المسلمين أنه الإمام المفترض الطاعة بعد أبيه عليه السلام.
تولّى مهامّ الإمامة بعد أبيه واستمرّت إمامته نحواً من ست سنوات، مارس فيها مسؤولياته الكبرى في أحرج الظروف وأصعب الأيّام على أهل بيت الرسالة بعد أن عرف الحكّام العباسيون -
وهم أحرص من غيرهم على استمرار حكمهم -
أن المهدي من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله ومن ولد علي ومن ولد الحسين عليه السلام فكانوا يترصّدون أمره وينتظرون أيّامه كغيرهم، لا ليسلّموا له مقالد الحكم بل ليقضوا على آخر أمل للمستضعفين.
لقد كان الإمام الحسن العسكري عليه السلام استاذ العلماء وقدوة العابدين وزعيم المعارضة السياسية والعقائدية في عصره،
وكان يشار إليه بالبنان وتهفو إليه النفوس بالحبّ والولاء كما كانت تهفو الى أبيه وجدّه اللذين عُرف كل منهما بابن الرضا عليهما السلام،
كل هذا رغم معاداة السلطة لأهل البيت عليهم السلام وملاحقتها لهم ولشيعتهم.
وقد فرضت السلطة العباسيّة الاقامة الجبرية على الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام وأجبرته على الحضور في يومين من كل اسبوع في دار الخلافة العباسية.
وقد وُصِفَ حُضور الناس يوم ركوبه الى دار الخلافة بأن الشارع كان يغصّ بالدوابّ والبغال والحمير، بحيث لا يكون لأحد موضع مشي ولا يستطيع أحد أن يدخل بينهم فاذا جاء الإمام هدأت الأصوات وتوسّد له الطريق حين دخوله وحين خروجه.
لقد كان جادّاً في العبادة طيلة حياته ولا سيّما حين كان في السجن
حيث وكل به رجلان من الأشرار،
فاستطاع أن يحدث تغييراً أساسياً في سلوكهما وصارا من العبادة والصلاة
الى أمر عظيم،
وكان اذا نظر إليهما ارتعدت فرائصهما وداخلهما ما لا يملكان.
وقد لاحقت السلطة العباسية الإمام العسكري عليه السلام وأحاطته بالرقابة وأحصت عليه كلّ تحرّكاته لتشلّ نشاطه العلمي والسياسي وتحول بينه وبين ممارسة دوره القيادي في أوساط الاُمة.
ومن هنا كان الإمام مهتمّاً كآبائه عليهم السلام بالعمل السرّي غاية الاهتمام بالاضافة الى إحكامه لجهاز الوكلاء ليكون قادراً على أداء دوره القيادي بشكل تام وفي ظل تلك الظروف العصيبة حتى استطاع أن يقضي على محاولات الإبادة لِنهج
أهل البيت عليهم السلام.
لقد خاض الإمام الحسن العسكري عليه السلام كآبائه الكرام عليهم السلام ملحمة الكفاح السياسي لمواجهة الظلم والارهاب والتلاعب بالسلطة ومقدرات الاُمة
ومصالحها فحافظ على اُصول الشريعة والقيم الرسالية،
ومهّد بذلك خير تمهيد لعصر الغيبة الذي أخبر النبي صلى الله عليه وآله والأئمة
من أهل بيته عليهم السلام عن حتميّته وضرورته.
وقد زخرت مدرسة أهل البيت عليهم السلام في عصر الإمام العسكري بالعلم
والدعوة الى خطّ أهل البيت والدفاع عن الشريعة الإسلامية من خلال كوكبة أصحاب الإمام ورواة حديثه وطلاّب مدرسته.
وكان الإمام الحسن العسكري عليه السلام -
بالرغم من حراجة ظروفه السياسية -
جادّاً في الدفاع عن الشريعة ومحاربة البدع وهداية المترددين والشاكّين
وجذبهم الى حضيرة الدين.
وعاصر الإمام عليه السلام مدة إمامته القصيرة جدّاً كلاً من المعتز والمهتدي
والمعتمد العباسي ولاقى منهم أشدّ العنت والتضييق والملاحقة والارهاب،
كما تعرّض للاعتقال عدّة مرّات.
وازداد غيض المعتمد من إجماع الاُمة - سنّة وشيعة -
على تعظيم الإمام عليه السلام وتبجيله وتقديمه بالفضل على جميع العلويين والعباسيين في الوقت الذي كان المعتمد خليفةً غير مرغوب فيه لدى الاُمّة.
فأجمع رأيه على الفتك بالإمام واغتياله فدسّ له السمّ.
وقضى نحبه صابراً شهيداً محتسباً، وعمره دون الثلاثين عاماً.
فسلام عليه يوم ولد ويوم اهد في سبيل رسالة ربّه ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً.

اسمه ونسبه وألقابه (ع)
اسمه ونسبه

هو: الامام الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السلام.
اتفق جميع المؤرخين على ان اسمه الشريف هو الحسن بن علي عليهما السلام،
لكن صاحب كتاب جنات الخلود قال: كان للامام العسكري اسمان
أحدهما الحسن والآخر عبدالله. (1)
ولكن لم أعثر على مصدر تاريخي شيعي يشهد بذلك،
بل التحقيق خلاف ذلك، فإننا نرى أن اسمه الشريف هو الحسن في كل الروايات الواردة عنهم وحتى في خبر اللوح الذي فيه اسماء الائمة‌ عليهم السلام(2)
ولعل من أدعى ذلك استند الى قول بعض المؤرخين كالساباطي(3)،
أو اعتمد على جملة «اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي» الواردة في الرواية المشهورة عن النبي صلى الله عليه وآله في اسم ونسب الامام المهدي عليه السلام، حيث ينطبق الاسم واسم الأب لهما صلوات الله عليهما في (محمد بن عبدالله).
غير أن أكثر من روى هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله،
روى جملة (اسمه اسمي) فقط ولم يرو الجملة الثانية (اسم أبيه اسم أبي). قال:القاضي جواد الساباطي في البراهين الساباطية:
فأصحابنا من أهل السنة قالوا انه-الحجة المنتظر-
من أولاد فاطمة واسمه محمد واسم أبيه عبدالله
وقال الامامية انه محمدبن الحسن العسكري.
قال الكنجي الشافعي بعد ذكره لهذا الحديث:
«قلت: وقد ذكر الترمذي الحديث ولم يذكر
قوله: (واسم أبيه اسم أبي) وذكره أبوداود، وفي معظم روايات الحفاظ والثقات من نقلة الأخبار (اسمه اسمي) فقط، والذي رواه- واسم أبيه اسم أبي-
فهو زايدة، وهو يزيد في الحديث» (4).
وأضاف بعد ذلك قائلاً: «ويحتمل أنه
قال: اسم أبيه اسم ابني، أي الحسن، ووالد المهدي عليه السلام اسمه الحسن، فيكون الراوي قد توهم قوله: ابني فصحفه
فقال: «أبي»، فوجب حمله على هذا جمعاً بين الروايات وهذا تكلف في تأويل هذه الرواية، والقول الفصل في ذلك: أن الامام احمد،
مع ضبطه واتقانه روى هذا الحديث في مسنده عدة ‌مواضع واسمه اسمي»
(5).وقال في آخر كلامه:
«ورواه غير عاصم عن زر وهو عمرو بن مرة عن زر:
كل هؤلاء رووا (اسمه اسمي) الا ما كان من عبيد الله بن موسى،
عن زائدة، عن عاصم، فانه قال فيه (واسم ابيه اسم أبي) ولا يرتاب اللبيب ان هذه الزيادة لا اعتبار بها مع اجتماع هؤلاء الائمة على خلافها والله أعلم» (6).

القابه عليه السلام
للامام الحسن العسكري عليه السلام القاب كثيرة جاءت بها النصوص المأثورة
عن أهل العصمة عليهم السلام والقاب اطلقها عليه الراوون عنه،
ووردت في كتب الرجال.
ومما جاءت به النصوص عن أهل العصمة عليهم السلام من ألقابه عليه السلام:
العسكري
روى الحر العاملي عن الفضل بن شاذان في كتاب الرجعة بسند عن
أبي خالد الكابلي،
قال: دخلت على‌ مولاي علي بن الحسين عليه السلام وفي يده صحيفة...
فقلت ما هذه الصحيفة؟
فقال: «هذه نسخة‌ اللوح الذي أهداه الله تعالى الى رسول الله صلى الله عليه وآله، وفيه اسم الله تعالى ورسوله الله صلى الله عليه وآله
و... ابنه الحسن العسكري...». (7)
الرفيق
جاء هذا اللقب في ما تضمنه اللوح المقدس الذي كان محفوظاً
عند الزهراء عليها السلام،
وقد رآه جابر بن عبدالله الانصاري(ره) عند سيدة‌ النساء عليها السلام:
قال جابر: فقرأت فإذا فيها «... ابومحمد الحسن بن علي الرفيق،
امه جارية اسمها سمانة». (8)
الزكي
ورد هذا اللقب في الحديث الذي رواه الشيخ الصدوق (ره)
بسنده عن النبي (ص) حيث قال صلى الله عليه وآله:
«..حدثني جبرئيل عن رب العزة جل جلاله أنه
قال: من علم أنه لا اله الا أنا وحدي..»
فقام جابر بن عبدالله الانصاري فقال: يا رسول الله، ومن الائمة من ولد علي
قال: «.. ثم الزكي الحسن بن علي ثم..» (9).
الفاضل
روى الشيخ الطوسي (ره) في كتاب الغيبة بسند عن أمير المومنين انه
قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله في الليلة التي كانت فيها
وفاته لعلي: يا أبا الحسن أحضر صحيفة ودواة،
فأملأ رسول الله صلى الله عليه وآله وصيته حتى انتهى الى‌هذا الموضع
فقال: «يا علي انه سيكون بعدي اثنا عشر اماماً...
فاذا حضرتك الوفاة فسلمها الى ابني الحسن...
فاذا حضرته الوفاة فليسلمها الى ابنه الحسن الفاضل....»(10)
الأمين
روى الخزاز القمي في كفاية الأثر بسنده عن جابر بن عبدالله الانصاري انه:
«دخل جندل بن جنادة اليهودي من خيبر على رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا محمد أخبرني ... بالاوصياء بعدك لاتمسك بهم؟ فقال:
«ياجندل أوصيائي من بعدي بعدد نقباء بني اسرائيل..
فاذا انقضت مدة علي قام بالامر بعده الحسن ابنه يدعى بالامين..»
(11)
الميمون، ‌النقي، الطاهر، الناطق عن الله
وفيه أيضاً بسند عن أبي هريرة قال:
كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وأبوبكر وعمر والفضل بن العباس وزيد
بن حارثة وعبدالله بن مسعود،
اذ دخل الحسين بن علي فاخذه وقبله...
وقال: «اللهم اني احبه فاحبه واحب من يحبه،
يا حسين انت الامام ابن الامام ابو الائمة، تسعة من ولدك أئمة أبرار...
ويخرج من صلب علي الحسن الميمون النقي الطاهر،
الناطق عن الله وابو حجة الله...».(12)
المؤمن بالله، المرشد الى الله
وروى أيضاً بسند عن عائشة
قالت: كان لنا مشربة وكان النبي صلى‌ الله عليه وآله إذا أراد لقاء جبرئيل لقيه فيها.. فدخل عليه الحسين بن علي عليهما السلام فقال جبرئيل من هذا؟
فقال رسول الله صلى‌ الله عليه وآله: إبني فأخذه النبي فأجلسه على‌ فخذه...
فقال رسول الله: «حبيبي جبرئيل ومن قائمنا اهل البيت؟
قال هو التاسع من ولد الحسين،
كذا أخبرني ربي جل جلاله: أنه سيخلق من صلب الحسين ولداً وسماه عنده علياً... ثم يخرج من صلبه ابنه وسماه الحسن مؤمن بالله، مرشد الى الله ويخرج
من صلبه كلمة الحق..». (13)
الصادق
وروى ايضاً بسند عن سلمان الفارسي
قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله
فقال: «...إذا افتقدتم الفرقدين فتمسكوا بالنجوم الزاهرة...
وأما النجوم الزاهرة فهم الأئمة التسعة من صلب الحسين...
والصادقان علي والحسن...».(14)
الصامت، الأمين على سر الله
وروى البحراني في الانصاف عن هداية الخصيني بسند عن سلمان الفارسي
قال: دخلت على رسول الله صلى‌ الله عليه وآله،
فلما نظر إلي قال: «يا سلمان ان الله تبارك لم يبعث نبياً ولا رسولاً
‌الا جعل له اثني عشر نقيباً...
ثم خلق منا ومن صلب الحسين تسعة أئمة...
ثم الحسن بن علي الصامت الأمين على سرالله...» (15)
عن مسند فاطمة وروى أيضاً عن كمال الدين بسند عن مجاهد
قال: قال ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
يقول: أن لله تبارك وتعالى ملكاً يقال له دردائيل...
ثم قال: والائمة بعدي الهادي والمهتدي والناصر والمنصور والشفاع والنفاع والأمين والمؤتمن والامام والفعال والعلام ومن يصلي خلفه عيسى بن مريم..» (16).
ولي الله
روى الحر العاملي عن مصباح الشيخ الطوسي بسنده عن عاصم بن حميد
قال: قال أبو عبدالله عليه السلام:
«إذا حضرت أحدكم الحاجة‌ فليصم يوم الأربعاء...
فيصلي ركعتين ثم يمد يده الى‌ السماء ويقول:...
وأتقرب اليك بوليك الحسن بن علي..»(17).
سراج أهل الجنة
روى الكراجكي بسند عن علي بن أبي طالب عليه السلام
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أنا واردكم على الحوض..
والحسن بن علي سراج اهل الجنة يستضيئون به...»(18).
خزانة الوصيين
روى‌ ابن طاووس بسند عن جابر بن يزيد الجعفي
قال: قال أبو جعفر عليه السلام: من دعا بهذا الدعاء-
دعاء العهد- مرة واحدة في دهره كتب في رق، ودفع في ديوان القائم..
وأدع به وأنت طاهر تقول: اللهم ياإله يا واحد...
وبالحسن بن علي الطاهر الزكي خزانة الوصيين...» (19).
ألقابه المشهورة في الكتب
واشتهر أيضاً‌ بألقاب شريفة،
كل لقب يمثل صفة‌ بارزة من صفاته الحميدة عليه السلام:
كالهادي والمهتدي (20) والمضيء والشافي والمرضي (21)
والخالص (22) والخاص والتقي (23)
والشفيع والموفي والسخي والمستودع.
(24) لكننا لم نعثر في الروايات على أصل روائي لهذه الألقاب.
واشتهر أيضاً هو وأبوه وجده عليهم السلام بابن الرضا (25)
كما صرح بذلك المخالف والمؤالف.

ألقابه في الكتب الرجالية
وله عليه السلام ألقاب تعارفت عليها كتب الرجال فيما ورد في أسانيد الروايات وإن اطلق بعض هذه على بعضهم عليهم السلام، منها:
الفقيه
قال الأردبيلي في خاتمة جامع الرواة:
«وقد يطلق الفقيه ويراد منه القائم عليه السلام...
وقد يطلق ويراد منه العسكري عليه السلام،
كما صرح به في التهذيب في باب صلاة المضطر».(26)
الرجل
وأضاف الأردبيلي:
«وكلما ورد عن الرجل فالظاهر أنه العسكري عليه السلام».(27)
الأخير
ومنها أيضاً: الأخير، كما ورد في بعض أسانيد الكيني في الفروع.(28)
العالم
واما لقب العالم فقد أطلقه عليه اسحاق بن اسماعيل النيسابوري،
حيث قال: ان العالم كتب اليه يعني الحسن بن علي (29)
ولاشك أن اسحاق بن اسماعيل من أصحاب العسكري عليه السلام. (30)
المودّة في القربى
لم يلبث عليه الصلاة والسلام بعدها إلاّ قليلاً، فارتحل إلى جوار ربّه،
دون أن يطلب على عمله من أمّته جزاءً ولا شكوراً،
غير وصيّة تمثّل بها بقوله تعالى:
(قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى).

نعم، لم يطلب منّا سوى المودّة في حقّ أهل بيته عليهم السلام.
عليك الصلاة والسلام يا رسول الله،
لكم كنت متواضعاً مقلاّ في مطالبك.
لقد قدّمت للبشرية فضلاً لا يدانيه فضل،
وقدت الأمّة إلى طريق فيه فوزها وسعادتها ونجاتها،
بعد أن خلّصتها من مهاوي الرذيلة والانحطاط والشرّ،
وسموت بها في الطريق الصاعدة إلى الله،
وعلى كلّ هذا لم تطلب منها سوى المودة في القربى فهل
قدّمت لك أمّتك هذا المطلب الوحيد؟

أبداً لقد مرّ معنا في قصص القادة الأبرار كم كانت الأمّة جاحدة
لفضل نبيّها، متنكّرة لجميله معها،
فقست مع أهل بيته، وعاملتهم بالجحود والقسوة،
ونبذت وصيّته وعملت بنقيضها،
وجهدت على تسليم قيادها إلى غير أهل البيت،
ممّا أوصل حكم الأمّة الإسلامية إلى أيدٍ عدوّةٍ للإسلام والمسلمين،
في موجة انحرافٍ إثر موجة،
جرفت في طريقها كلّ المعاني السّامية التي أتى بها خاتم النبيّين، وكادت تقضي على الإسلام نفسه لولا أن تصدّى لها أئمّة الحقّ الأطهار، وقدّم كلّ منهم - كما رأينا - حياته ثمناً لهذا التصدّي.
وفداءً لحفظ بيضة الإسلام.
وصل بنا الحديث فيما سبق إلى الإمام العاشر عليّ الهادي عليه السلام، الذي عهد بالإمامة لابنه الحسن العسكري، الإمام الحادي عشر (ع).
الذي هو موضع قصّتنا هذه.

الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)
ولد الإمام الحادي عشر أبو محمد الحسن العسكري عليه السلام بالمدينة المنوّرة في الثامن من ربيع الثاني سنة 232 للهجرة،
ولمّا بلغ السنة الثانية من عمره،
رافق أباه الإمام الهادي (ع) مع الأهل إلى سامرّاء،
تلبيةً لدعوة المتوكل العباسيّ له،
وقد أنزلهم المتوكّل في بيتٍ تحيط به معسكرات الجيش،
كي يأمن جانبهم ويراقب تحرّكاتهم،
لذلك لقب الإمام الهادي وابنه الحسن بالعسكريين.

حين بلغ الإمام العشرين من عمره توفّي أبوه الإمام الهادي
عليهما السلام، فصلّى عليه وقام بدفنه،
ثمّ أعلن إمامته بعده،
دون أن يجرؤ المعتزّ العباسيّ على مدّ يد الأذى إليه،
رغم أنّه كان يتحين الفرص لذلك.
ولم يطل به الأمر حتى ثار عليه جماعة من الأتراك وقتلوه
سنة 254 للهجرة.

كان المعتزّ قد دعا حاجبه إليه - واسمه سعيد الحاجب -
وأمره أن يرتّب انتقال الإمام إلى الكوفة،
وفي الطريق يتخلّص منه دون أن يعلم أحد من الذي قتله،
ولمّا علم أنصار الإمام بعزمه على الانتقال إلى الكوفة خافوا عليه،
وازداد قلقهم حين عرفوا أنّ انتقاله كان بترتيب من المعتزّ،
وهم يعرفونه ويعرفون مقاصده،
لكنّ الإمام قبل سفره ترك لهم كتاباً يطمئنهم فيه،
ويقول لهم بأنّ الغمّ الذي نزل بهم سرعان ما سينحسر
إن شاء الله تعالى.
ولم يمض على ذلك غير أيّام ثلاثةٍ حين ثار الأتراك على المعتزّ وقتلوه، ولقي سعيد الحاجب جزاءه؛ وخلفه في الحكم المهتدي العباسي.

كان المهتدي يتطلّع إلى إقامة العدل والسّير على سنّة الخلفاء الرّاشدين، ومع ما قام به من أعمالٍ حسنةٍ فقد كان لا يخفي بغضه وعداءه للإمام، وكان لا يتأخّر عن قتل أنصاره أو طرحهم في السجون،
كما كان يضيّق على الإمام ويمنع الناس من التّوافد إليه.
لكنّ فترة حكمه كانت قصيرة،
فلم تمض عليه سنة حتى عدا عليه الأتراك وخلعوه،
ونصّبوا مكانه أخاه المعتمد، ثمّ عملوا على قتله فيما بعد.

كان المعتمد رجلاً معتدلاً، انشغل بأمور الحكم ومشاكله عن الإمام،
وفي عهده وبعيداً عن عيون جواسيس بني العباس ولد الإمام الثاني عشر، المهدي الموعود، حجّة الله على خلقه،
وأمل المستضعفين والمظلومين.
وكانت ولادته في الخامس عشر من شعبان سنة 255 للهجرة،
من أمّ روميّة تدعى نرجس،
ورغم علم أعوان الحاكم بمولده، ومحاولتهم الوصول إليه،
فقد كفّت العناية الإلهيّة أيديهم عنه،
وحفظت إمام الزمان (عج) من مكرهم.

عصر الإمام العسكريّ (عليه السلام)
كان الإمام الحسن العسكري عليه السلام هدفاً لظلم بني العباس وطغيانهم، ورغم شدّة ضغوطهم وتضييقهم عليه فقد ازداد التفاف الناس حوله، بعد أن رأوا على يديه من المعجزات ما جعلهم أحد فريقين:
إمّا فريقٍ محبٍ عاشقٍ، أو فريقٍ مرعوبٍ خائفٍ،
فقد كان عليه السلام يكشف للناس أفكارهم و مقاصدهم،
فإذا وفد عليه أحد في حاجةٍ كشف له عن حاجته وقضاها له بعد أن
تركه في حيرةٍ وتعجّبٍ شديدين، وإن قصده أحد بسوءٍ،
كشف له عن سريرته وفضح أمره،
وتركه في رعبٍ وفزع، كما جرى له مع أحد جلاّدي الحاكم ويدعى
«علي بن أوتامش» الذي كان يريد بالإمام سوءاً،
لكنّه انقلب إلى رجل آخر يطلب السماح والمغفرة من الإمام،
بعد أن رأى قدر الإمام ونبله وعظمته.

لكنّ الحكّام رغم كلّ هذا نجحوا في منع الناس من التّوافد إليه.
وشدّدوا الضغط على أعوانه، فاقتصر الاتّصال بينهم على الرسائل،
وبعد أن صارت الرسائل تفتح على يد أعوان الحكّام،
صار اتّصال الناس بالإمام يتمّ عن طريق وكلائه فحسب.

ورغم كلّ هذا فقد انتشر الشيعة في عصره عليه السلام في
كلّ مكان من بلاد الإسلام،
ينشرون تعاليمه وأحاديثه،
وحقّقوا الفوز والغلبة على خصومهم من المنحرفين والملحدين.
وكانت جموعهم تتقاطر إلى «قمّ» و «نيسابور» حيث يتحلّق الناس
حول العلماء والرّواة والمحدّثين،
يأخذون عنهم أحاديث الإمام عليه السلام،
ويتباحثون معهم في تعاليمه،
ويذرفون الدّموع حنيناً إلى لقياه.

كان للإمام الحسن العسكري (ع) أخ يدعى جعفراً،
وكان جعفر هذا إنساناً جاهلاً غير صالح،
ممّا دفع الحكام إلى تقريبه منهم وذلك لاستخدامه ضدّ أخيه وأنصاره، فكان ينقل إليهم أخباره وما يجري في بيته.

وكان الحكّام يترقّبون ولادة ابن للإمام العسكري عليه السلام،
ويشدّدون الرّقابة عليه، وحين ولد المهدي المنتظر عليه السلام،
ورأى جعفر تكتم أخيه الإمام في هذا الأمر،
وإخفاؤه لخبر مولده خيفةً عليه،
كتم بدوره هذا الخبر عن المعتمد العباسي،
وذلك لأنّه كان يطمع في وراثة أخيه،
وإخفاء خبر مولد المهدي عليه السلام،
يساعده في تنفيذ أطماعه وتحقيق مآربه الخبيثة.

الشهادة
لم تطل إمامة الحسن العسكري أكثر من ستّ سنوات،
فقد نجح أعوان المعتمد العباسيّ في دسّ السمّ للإمام في طعامه، فوقع صريع المرض من تأثير السمّ،
وحين انتشر خبر مرضه أوفد إليه المعتمد مجموعةً من الأطبّاء
وأمرهم بأن يلازموا فراشهليلاً ونهاراً،
كما توافد لعيادته لفيف من كبار القوم.
كذلك كان ممّن اهتمّوا به قاضي القضاة في ذلك الحين،
وقد أراد المعتمد بموقفه الذي وقفه من الإمام خلال فترة مرضه
أن يدفع التّهمة عن نفسه.

بقي الإمام طريح الفراش ثمانية أيّام،
أسلم بعدها الروح والتحق بالرّفيق الأعلى،
وكانت وفاته سنة 260 للهجرة،
وأصدر الأطبّاء والقضاة كالعادة شهاداتهم بأنّه عليه السلام
مات حتف أنفه. والله أعلم.
كما أعلنوا أنّه توفّي دون أن يترك وراءه ابناً أو ذرّيّةً.
وتقدّم الناس من أخيه جعفر يعزّونه،
وبعد أن تمّ تجهيز الجثمان الشريف ووضع على النعش وتهيّأ
المعزّون للصلاة عليه،
تقدّم أخوه جعفر المصلّين وهمّ بالتكبير.
. وإذا بصبيّ أسمر اللّون يتقدّم من جعفر ويمسك بثوبه قائلاً:

تأخّر يا عمّ، أنا أحقّ منك بالصلاة على أبي».
بهت جعفر، لكنّه تأخّر وقد اربدّ وجهه،
فتقدّم الصبيّ فصلّى عليه،
ودفن إلى جانب قبر أبيه الهادي، عليهما السلام.
ومشهدهما اليوم كعبة للوافدين يتبرّكون به،
ويتوسّلون إلى الله سبحانه أن يجمعهم معهما على الحقّ والهدى، ويوفّقهم للسّير على خطى أهل البيت الذين أذهب الله عنهم
الرّجس وطهّرهم تطهيراً.

أمّا الصبيّ . . فبعد أن صلّى على أبيه خرج من بين الناس كما ظهر،
دون أن يتمكّن أحد من الإمساك به.
وقد أدرك العدوّ والصديق أنّه المهدي صاحب الزمان،
الإمام الثاني عشر، عجّل الله فرجه وسهّل مخرجه،
وجعلنا من أعوانه وأنصاره والمستشهدين بين يديه.

ونختتم قصّتنا الموجزة عن الإمام العسكريّ عليه السلام ببعضٍ
من أقواله وكلماته القصار:

جاء عنه أنّه كان يقول: أعرف الناس بحقوق إخوانه،
وأشدّهم لها قضاءً، أعظمهم عند الله شأناً.
ومن تواضع في الدنيا لإخوانه، فهو عند الله من الصدّيقين،
ومن شيعة عليّ بن أبي طالب حقّاً.

وقال لجماعةٍ من أنصاره: أوصيكم بتقوى الله،
والورع في دينكم، وصدق الحديث،
وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برٍّ أو فاجر، وطول السّجود،
وحسن الجوار، فبهذا جاء محمّد صلى الله عليه وآله وسلم . .

وقال: ليس العبادة كثرة الصلاة والصيام،
وإنّما هي كثرة التّفكر في أمر الله.
بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين،
يطري أخاه شاهداً ويأكله غائباً . .
الغضب مفتاح كلّ شرٍّ.
وأقلّ الناس راحةً الحقود. وأزهد الناس من ترك الحرام.
من يزرع خيراً يحصد غبطةً، ومن يزرع شرّاً يحصد الندامة،
قلب الأحمق في فمه، وفم الحكيم في قلبه.

وقال عليه السلام: خصلتان ليس فوقهما شيء:
الإيمان بالله ونفع الإخوان.

إلى غير ذلك من وصاياه ونصائحه،
التي كان يوجّهها إلى الناس لبيان ما يجب أن يكون عليه
المسلم من الأخلاق والصّفات.

وكانت سيرته عليه السلام كسيرة من سبقه من أهل البيت الأطهار، سيرةً حميدةً برزت في أخلاقهم كما برزت في أعمالهم،
فكانوا هداةً لسواء السبيل، دعاةً مخلصين للحقّ،
حماةً لنقاء الإسلام وصفائه من الزّيف.
وفّقنا الله للسّير على خطاهم، والاقتداء بسيرتهم،
وذلك هو السبيل إلى مرضاته. والسلام.

المصادر:
1. اعلام الهداية، المؤلف: لجنة التأليف،
تاريخ النشر: 1422هـ، الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع
العالمي لأهل البيت(ع)
2. حياة الامام العسكري، المؤلف: الشيخ محمد جواد الطبسي،
تاريخ النشر: 1413هـ. 1371 هـ ش، الناشر: مركز النشر-
مكتب الاعلام الاسلامي

1. راجع جنات الخلود الجدول الثامن
2. انظر كمال الدين ج1 ص307
3. انظر النجم الثاقب ص137
4. البيان ص483
5. نفس المصدر
6. البيان ص485، وعنه الشيعة والرجعة ج1،ص88
7. اثبات الهداة ج 1، ص 651.
وجاء أيضاً في حديث جابر قال:
دخل جندل بن جنادة بن جبير اليهودي على رسول الله.
قال: أخبرني عن أوصيائك من بعدك لاتمسك بهم،
قال: أوصيائي اثنا عشر... وبعده ابنه الحسن، يدعى بالعسكري...
طرق حديث الائمة من قريش ص 12، وانظر البحار ايضاً ج 36،
ص 296، ح 125 ففيه: «فليتول الحسن العسكري»
8. كمال الدين ج 1، ص 307 وعنه الانصاف ص 87،
ورواه في العيون ج 1، ص 40 وعنه اثبات الهداة ج 1، ص 469.
9.البحار ج36، ص251 عن كمال الدين ص258، ح3
وعنه الانصاف ص239
10. الغيبة ص96-97 وعنه البحار ج 36،
ص260-261 والانصاف ص131 وفيه (الفاصل)
بدل (الفاضل) واثبات الهداة ج1، ص550
11. كفاية الاثر ص57 وص218 وعنه البحار ج36،
ص305 والانصاف ص236 و 307 واثبات الهداة ج1، ص578
12. كفاية الاثر ص81 وعنه البحار ج36، ص312
13.كفاية الأثر ص187 وعنه البحار ج36 ص348
14.كفاية الأثر ص40 وعنه البحار ج36، ص289
والانصاف ص261 واثبات الهداة ج1 ص576
15.الانصاف ص141 عن الهداية، ص338
16. الإنصاف ص276عن كمال الدين ص284
وعنه اثبات الهداة ج1 ص512
17. اثبات الهداة ج1 ص554
18.الاستنصار ص23 وعنه اثبات الهداة‌ ج1، ص700
19. مهج الدعوات ص334-335
20. دلائل الامامة ص223
21. مناقب ابن شهراشوب ج 4، ص421
22.مطالب السؤول ج2، ص78
23. حياة الامام العسكري ص20
24. الهداية الكبرى ص327،
25.تاج المواليد ص133
26. جامع الرواة ج2، ص461-462، وانظر الفقيه ج3،
ص163 ب76 ح14 وناسخ التواريخ ج1، ص34
27. نفس المصدر، وانظر الفروع ج5، ص139، ح9
28. فروع الكافي ج4، ص124، ح5
29. ناسخ التواريخ ج1 (من الأجزاء المتعلقة بالامام الهادي (ع)، ص36
30. انظر ترجمته في اصحاب الامام عليه السلام