قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِالَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}البقرة/190
الآية الكريمة تحدد مسار الحروب والفتوحاتالإسلامية وذلك من خلال القيم والمبادئ العملية التي تبناها الإسلام وأعد عليها القائدالإسلامي قبل الحرب وفي أثنائها وتتلخص هذه المبادئ والأخلاق في الأمور التالية:
الأول: إن أي حرب أو فتح إسلامي لا يتمإلا بعد أن يشكل الطرف الآخر- غير المسلم- خطراً حقيقياً على الإسلام والمسلمين ويتحولإلى غدة تفرز الأذى وتتربص الفرص للوقيعة بالدين والمجتمع.
{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِعَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَاأَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} التوبة:12.
الثاني: إنه لا يتم اتخاذ أي إجراء عسكريإلا بعد الإنذار والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِوَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ* وَإِنْعَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَخَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} النحل125/126.
وقد حدث لرسول الله (صلى الله عليه وآلهوسلم) مع (رعية) الذي كان متمرداً على الإسلام. وقد دعاه رسول الله (صلى الله عليهوآله وسلم) في كتاب كتبه له على قطعة أو أديم قائلاً له: {أسلم تسلم} فأخذ (رعية) الكتابورقّع به دلوه مخالفاً بذلك أدب المعاملة خصوصاً مع رسول الله (صلى الله عليه وآلهوسلم) وكانت ابنته قد أسلمت وتزوجت في بني هلال، فلما رأت ذلك منه قالت له: أهكذا تفعلبكتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ والله ما أراك إلا أن يصيبك بقارعةٍ منعنده.
ولما بلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليهوآله وسلم) أرسل له سرية من جيشه، فدخلت القرية وأخذت أمواله واحتجزت عائلته.. وعندهاجاء (رعية) إلى المدينة مرتدياً سملة كان إذا سحبها على رأسه بدت سوأته وبالعكس فدخلالمدينة ليلاً وسأل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقيل له: يأتي صباحاً فلماأصبح الصباح جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقدم إليه (رعية) ليقبل يدهفسحبها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: من أنت؟
قال: (رعية). قال (صلى الله عليه وآله وسلم):أنت الذي رقعت دلوك بالكتاب؟
قال: نعم.. قال: ما عندك؟
قال: أريد أموالي وولدي.. قال (صلى اللهعليه وآله وسلم): أما أموالك فقسمت ولو أدركتها قبل التقسيم لرجعت إليك وأما أهلك وولدكفإنهم لك ثم أشار إلى بلال ليأخذه إلى أهله وولده فأخذه وسلمهم له.
فناهيك عن صورة الأدب واللين التي تجسدتفي أسلوب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تجاه (رعية)، من دعوته إلى الإسلام إلىالإجراء العسكري الذي لم يكلف (رعية) إلا خسارة مالية، في مقابل تكبره واستخفافه برسولالله (صلى الله عليه وآله وسلم).
الثالث: وضع الإسلام في منهجه العسكري مسلماتأخلاقية ثابتة تدعو إلى قصر الحرب على ساحة المعركة وعدم التعدي إلى غيرها من المساحاتلأن الهدف ليس هو الاحتلال أو اقتطاع الأراضي من مالكيها وضمها إلى دار الإسلام.
ولو كان المسلمون يطمعون في جمع المال واحتلالالأراضي فكيف يلتزمون غالباً بإبقاء الأراضي المفتوحة خصوصاً المحياة بشرياً على ملكأصحابها يستثمرونها ويستفيدون منها؟ ولماذا يقرون حريتهم باختيار دينهم وممارسة عباداتهمولم يجعلوهم عبيداً لهم؟
وكما قصر الإسلام الحرب على ساحة المعركة، فأنه قصرها على المقاتلين، ولم يتعدإلى غيرهم من الناس. وإليك ما جاء في تحديد تلك المسلمات فقد روي:
ان النبي (ص) كان إذا بعث أميراً على سرية،أمره بتقوى الله عز وجل في خاصة نفسه ثم أصحابه عامة، ثم يقول: (اغزوا بسم الله وفيسبيل الله، قاتلوا من كفر بالله ولا تغدروا، ولا تغلـّوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً،ولا متبتلاً في شاهق، ولا تحرقوا النخل، ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرة،ولا تحرقوا زرعاً، لأنكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه، ولا تعقروا من البهائم مما يؤكللحمه إلا ما لا بدّ لكم من أكله، وإذا لقيتم عدواً للمسلمين فادعوهم إلى إحدى ثلاث،فإن أجابوكم إليها فاقبلوا منهم وكفـّوا عنهم:
ادعوهم الى الإسلام، فإن دخلوا فيه فاقبلوامنهم وكفـّوا عنهم، وادعوهم إلى الهجرة بعد الإسلام، فإن فعلوا فاقبلوا منهم وكفواعنهم، وإن أبوا أن يهاجروا واختاروا ديارهم وأبوا أن يدخلوا في دار الهجرة، كانوا بمنزلةأعراب المؤمنين، يجري عليهم ما يجري على أعراب المؤمنين، ولا يجري لهم في الفيء، ولافي القسمة شيء، إلا أن يهاجروا في سبيل الله، فإن أبوا عن هاتين فادعوهم إلى إعطاءالجزية عن يد وهم صاغرون، فإن أعطوا الجزية فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن اللهعز وجل عليهم، وجاهدهم في الله حق جهاده.
وإن حاصرت أهل حصن فأرادوك على أن ينزلواعلى حكم الله عز وجل، فلا تنزل لهم، ولكن أنزلهم على حكمكم، ثم اقض فيهم بعد ما شئتم،فإنكم إن أنزلتموهم على حكم الله لم تدروا تصيبوا حكم الله فيهم أم لا. وإذا حاصرتمأهل حصن فإن آذنوك على أن تنزلهم على ذمة الله وذمة رسوله فلا تنزلهم، ولكن أنزلهمعلى ذممكم وذمم آبائكم وإخوانكم، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم آبائكم وإخوانكم، أيسرعليكم يوم القيامة من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وآله) الوسائل15/ 59-60 وورد مثله في سنن ابن ماجة 2/953-954.
وتلوح من خلال هذه المقالة لرسول الله(ص) طبيعة التعامل الذي رسمه الإسلام مع العدو وفق المبادئ الأخلاقية والضوابط الإنسانيةالتي من أهمها:
1. ماذكرناه من قصر الحرب على ساحة المعركة وعلى المقاتلين من أهل الحصون فقط.
2. دعوتهمإلى الإسلام قبل كل شيء فإن قبلوا ُدعون بعدها إلى دار الهجرة، فإن أبوا الهجرة كانواكأعراب المؤمنين تُصان كرامتهم وحرمة دمهم ومالهم.
3. إنأبو الإسلام والهجرة معاً، أقروا على دينهم مقابل دفع الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
4. إنأبو واحصروا بالحرب في حصونهم، فأرادوا النزول عند حكم الله عز وجل، فلا ينزل بهم إلاعند حكمهم خوفاً من أن لا يُصاب فيهم حكم الله تعالى. وإن طلبوا النزول على ذمة اللهورسوله فلا ينزل بهم إلا على ذمم المقاتلين وآبائهم وإخوانهم احتراماً لذمة الله ورسولهمن أن تنقض وتخرق.
هذا هو مبدأ الحرب وأخلاقيتها في الإسلامالتي تجمع بين مصلحة الإسلام العليا وحرمة مقدساته، وبين إنسانيته في التعامل مع العدومن خلال التدرج معه في المواقف والإجراءات. لا كما نلاحظ في عصرنا الحاضر... حتى دُعاةالإنسانية ودعاة حقوق الإنسان لم يعد عندهم قتل الإنسان الأعزل والشيخ الكبير والمرأةالمرمّلة والطفل البريء أمراً مستنكراً، ولدينا دليل علمي وتطبيق يومي ثابت على ساحةفلسطين، يؤشر إلى هذه النزعة الحاقدة ضد المسلمين، ونلاحظ الصمت الدولي المطبق تجاهما يرتكب في حق هذا الشعب ومقدساته من عمليات الإبادة والتشريد، وتهديم الدور والمساكن،وحرق وتخريب المزارع ومصادر العيش والحياة.
وفوق هذا كله - والأمرّ من ذلك - إن قوةالعدو وغطرسته الموهومة، ودعم الاستعمار الأمريكي له، كمّت الأفواه العربية عن المطالبةوالدعم لهذا الشعب، واصمّت الآذان عن سماع نداءات الاستغاثة، وصرخات الثكالى والأطفال،وغشت الأبصار عن النظر إلى مشاهد وفظائع المأساة، وأزكمت الأنوف عن تحسس رائحة الدمالبريء الذي يُراق في أرض فلسطين.
لا شيء سوى أنه شعب يطالب بحقه الإنسانيوالديني واستقلاله على أرضه ومقدساته، وهو منظار دعاة حقوق الإنسان مطلب مشروع. فأيننظرية الحق الإنساني التي تدّعيها دول الغرب وهي تستعظم حقوقها وتستهين بحقوق الآخرين؟وأين واقعهم من واقع الإسلام وتهذيبه لطريقة أخذ الحق؟