أهلا وسهلا بكم في منتدى الكـــفـيل
إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التفضل بزيارة صفحة
التعليمات
كما يشرفنا أن تقوم
بالتسجيل ،
إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
وأمّا ميراث المؤمنين من سلفهم ؛ من الأنبياء ، والصدّيقين ، والصالحين ، فهو : العبودية ، ومنطلقاتها ، وأحكامها ، وقيمها ، وأخلاقها ، وهذا الميراث ينتقل من جيل ليسلّمه إلى الجيل الذي يأتي من بعده ، والقرآن الكريم يشير في أكثر من موضع إلى هذا الميراث الحضاري ، يقول تعالى :
( ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) ، [ فاطر : 32 ] .
( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ) ، [ غافر : 53 ] .
إنّ هذا الميراث ليس ميراث المال والسلطان ، وإنّما هو ميراث الهدى ، والبيّنات ، والكتاب ، والعبودية ، والقيم ، والأخلاق ، ميراثٌ يحفظه قوم ويضيّعه قوم آخرون ، وليس بقليل الأقوام الذين ضيّعوا هذا الميراث واستبدلوا بالصلاة الشهوات ، يقول تعالى :
( أُولئِكَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِنَ النّبِيّينَ مِن ذُرّيّةِ آدَمَ وَمِمّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمنِ خَرّوا سُجّداً وَبُكِيّاً * فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصّلاَةَ وَاتّبَعُوا الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ) ، [ مريم : 58 - 59 ] .
وحدة المسيرة الربّانية على وجه الأرض :
ولا يتكوّن هذا الميراث الحضاري مرّة واحدة ، وإنّما يتكوّن ويقوى ويتسع تيارها ، ويتأصّل أكثر في الأرض ، وفي نفوس المؤمنين ، كلّما يمرّ به جيل أو يمتدّ به الزمن .
وهذا الميراث العقائدي والحضاري الكبير يشمل الإيمان بالله ، والرسول ، والقيم ، والولاء لله وللرسول ولأوليائه ، والأخلاق ، والقيم ، والسلوك ، والحبّ ، والبغض ، والأعراف والتقاليد ، وحتى المصطلحات ، والشعارات ... وهي تنتظم في حقول من حياة الإنسان .
وليس من الممكن ـ إطلاقاً ـ أن تتكوّن كل هذه الكنوز العقائدية والحضارية في حياة الجيل مرّة واحدة ، وإنّما تتحوّل من جيل إلى جيل ، يستلّمها كل جيل ليسلّمها إلى الجيل اللاحق ، وخلال هذا الانتقال والعبور عبر الأجيال يزداد هذا الميراث عمقاً وأصالةً ورسوخاً ووضوحاً.
ونحن نلاحظ في القرآن هذا التماسك والارتباط بين أجزاء ومراحل هذه المسيرة العقائدية والحضارية الكبرى ، ونلاحظ تأكيد القرآن على الارتباط بهذه المسيرة ، بشكل عام ومن دون تفرقة ، وأنّ هذه المسيرة بمجموعها هي الإسلام، ولن يقبل الله تعالى غيره من الإنسان .
( قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْناَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنّبِيّونَ مِن رَبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ، [ آل عمران : 84-85 ] .
( قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النّبِيّونَ مِن
منه شيء ، ولا يصيبانه بسوء .
فقد يلتبس أمر الطريق على الإنسان إذا كان يسير وحده ، أمّا حينما يشعر أنّه يقتدي بهدي الأنبياء ، ويسير على طريقهم ، يضع خطاه بثقةٍ ، واطمئنانٍ ، على طريق ذات الشوكة .
فقد أُخطئ أنا الطريق لوحدي ، ولكن لا يمكن أن يُخطئ الطريق هذا الحشد الهائل ، والمسير الطويل من الصفوة الصالحة من عباد الله ، من الأنبياء والمرسلين ، والصدِّيقين والشهداء ؛ فهم المعالم على الطريق ، وعندما تحتفّ الطريق بمثل هذه المعالم والإشارات فلا يمكن أن يضيع الإنسان ، أو يلتبس عليه الأمر .
ولأمر ما ، إذا دعونا الله تعالى في الصلاة أن يرزقنا الهداية إلى الصراط المستقيم : ( اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، نعقّب ذلك مباشرة بتشخيص الصراط المستقيم تشخيصاً عينيّاً خارجاً ، فهؤلاء الذين أنعم الله عليهم من عباده الصالحين ، ولم يغضب عليهم ، ولم يضلّوا : ( صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضّآلّينَ ) .
وفي سورة الأنعام بعد ما تستعرض السورة المباركة ذكر عدد من الأنبياء ( عليهم السّلام ) ، منذ عهد إبراهيم أبي الأنبياء ( سلام الله عليه ) إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، يخاطب الله تعالى نبيه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بقوله : ( أُولئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) ، [ الأنعام : 90 ] .
العقبة الثانية ( العوائق ) :
ولا تَقلّ خطورة العقبة الثانية عن العقبة الأولى ، ولا تقلّ ضحاياها عنها .
إنّ قضية هذه العقبة هي العوائق التي تعيق حركة العاملين ، وتسبّب لهم التخلّف عن الحركة والتساقط أثناء الطريق ، وهذه العوائق على قسمين : منها ، عوائق موضوعية مبثوثة على الطريق .
ومنها ، عوائق ذاتيّة كامنة في نفوس الناس ، وكلتاهما تعيقان حركة العاملين في سبيل الله ، وإذا التقتا كان تأثيرهما تأثيراً قوياً بالغاً في نفوس العاملين .
فمن العوائق الموضوعية : طول الطريق ، وبعد الشقّة والمتاعب التي يحفل بها هذا الطريق من البأساء والضرّاء ، والدعاة إلى الله يعجبهم أن يكون الطريق قصيراً مُريحاً ، آمناً من المخاوف والأخطار ، ولكن الله تعالى يريد لعباده أن يسلكوا إليه طريق ذات الشوكة : ( وَتَوَدّونَ أَنّ غَيْرَ ذَاتِ الشّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقّ الْحَقّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ) ، [ الأنفال : 7 ] .
فالطريق إلى الله إذا كان قصيراً مُريحاً ، آمناً ، سهلاً ، لن يحقّق الحقّ ، ولن يقطع دابر الكافرين ، ولن تتمّ السيادة والسلطان لدين الله على وجه الأرض إلاّ حينما يسلك الدعاة طريق ذات الشوكة إلى الله
وليست هذه البأساء والضراء خاصّة بهذه الأمّة ، فهي سنة الله في حياة العاملين جميعاً ، لم يشذّ منهم أحدٌ عن هذه السنّة الإلهية الصعبة : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ مَسّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضّرّاءُ ) ، [ البقرة : 214 ] .
ولو كان أمر هذا الطريق يسير ، والمسافة قريبة ، لم يتخلّف عن الطريق أحدٌ من الناس ، ولكن طول المسافة ، وبُعد الشقّة ، جعل الناس يتفرّقون من حول الدعوة ، ويتخلّفون عن المسيرة : ( لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتّبَعُوكَ وَلكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشّقّةُ ) ، [ التوبة : 42 ] .
وهناك عوائق ذاتية في داخل النفوس ، وهي أخطر بكثير وأكثر بكثير من العوائق الموضوعية القائمة على الطريق ، ومن خصائص هذه العوائق أنّها تختفي ساعات اليسر وتبرز ساعات العسر والشدّة ، ولنقرأ هذه الآيات المباركات من سورة الأحزاب عن العوائق الكامنة في نفوس المؤمنين ، والتي تبرز في ساعات الشدّة ولحظات العسر :
( اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَآءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ) ، [ الأحزاب : 9-11 ] .
وفي نفس السياق :
( قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاّ قَلِيلاً * أَشِحّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً ) ، [ الأحزاب : 18-19 ] .
ولا تخصّ هذه العوائق ونقاط الضعف نفوس المنافقين والصغار من المؤمنين فقط ، وإنّما تشمل المؤمنين الذين امتحن الله قلوبهم للإيمان أحياناً .
فقد أثَّرت نكسة ( أُحُد ) في نفوس المؤمنين الأشدّاء الذين امتحن الله قلوبهم ونصرهم الله ببدر ، إلاّ القليل منهم ، الذين ثبتت نفوسهم في نكسة ( أُحد ) ولم يضعفوا ولم يتزلزلوا ، وعن هؤلاء يقول تعالى بعد معركة أُحد :
( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ ) ، [ آل عمران : 139-140 ] .
وهذه بعض الأمثلة والشواهد من نقاط الضعف والعوائق الكامنة في نفوس الناس ، والتي تختفي ساعات اليسر والإقبال ، وتبرز بروزاً قوياً ساعات العسر والشدّة .
وإنّ هذه العوائق لتحيط الدعاة إلى الله ، تعيق سيرهم ، وتدفعهم إلى صفوف المتخلّفين والمنافقين والضعفاء ، ولابدّ للدعاة من أن يروّضوا أنفسهم كثيراً لاجتياز هذه العوائق ، ما كان منها على الطريق أو في داخل نفوسهم ، وأن يدعوا الله تعالى ليمدّهم من عنده بقوّة وصبرٍ وثباتٍ ، يستطيعون به أن يواجهوا هذه العقبات والفتن على طريق ذات الشوكة .
( وَلَمّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) ، [ البقرة : 250 ] .
كيف نعالج الخوف والضعف ؟
تعميق الإحساس بوراثة الأنبياء والصديقين يمنح الإنسان مثل هذا الثبات والثقة والقوّة لمواجهة التحديات والنكسات التي تحدث أحياناً في صفوف المؤمنين ، ويَحول دون أن تتحوّل النكسة إلى هزيمة نفسية . وهذا إجمال لابدّ له من تفصيل ، وإشارة لابدّ لها من تحديد وتشخيص ، وإليك هذا التفصيل :
1ـ قد تثير قوّة العدو وضخامة إمكاناته ، وكثرة عدده ، وضعف إمكانات القلّة المؤمنة إحساسا بالضعف والنقص في نفوس المؤمنين ، ولكن الأمر يختلف كثيراً عندما ينظر المؤمنين إلى أنفسهم من خلال موقعهم الحضاري من التاريخ ، ويعرفون أنّهم جزء لا يتجزّأ من هذه المسيرة الربانية الممتدّة على امتداد التاريخ كلّه .
فإنّ هذا الخط هو الدين القيّم الذي قوّم مسيرة البشرية وحركة التاريخ منذ اليوم الأوّل إلى اليوم الحاضر ، ولم يزل هذا الخط منذ نشأته في عمق الفطرة البشرية ـ إلى أن تولاه أنبياء الله بالرعاية ـ قائماً في حياة البشرية ، وقيّماً على حياة الإنسان وسلوكه وتاريخه .
وليست المعاناة ، والعذاب ، والتشريد ، والتهجير ، والقتل ، والضغينة ، التي يجدها الداعية في حياته الرسالية من جانب أئمّة الكفر وأتباعهم شيئاً جديداً في حياتهم ، بل هي جزء من ميراثهم الضخم الذي يرثونه كابراً عن كابر .
ومن هذا التراث الكبير يجد المؤمن دعماً وسنداً روحياً يخرجه عن الشعور بالوحشة والانفراد والضعف ، ويجد في معاناة سلفه الذين سبقوه في الإيمان والدعوة عزاء وسلوة ، ويرى فيهم قدوة صالحة لنفسه .
كلّ ذلك يبعث في نفوس المؤمنين العاملين الإحساس بالقوّة والعمق والامتداد ، ويشعرهم بالعزاء والسلوى فيما يلقَونه من عذاب ، ويشعرهم بتأييد الله تعالى للمسيرة كلِّها .
رحلة الدعوة والمعاناة في سورة هود :
وسورة هود سورة عجيبة ٌفي هذا المضمار ، ولقد وددت أن أتلو السورة كلّها على القرّاء ؛ ففي هذه السورة ينعكس خط الدعوة إلى الله : ( أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ اللّهَ إِنّنِي لَكُم مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ* وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ ) ، ممّا يعكس خط الإعراض والجحود : ( أَلاَ إِنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخفُوا مِنْهُ ) .
ثمّ تبين السورة المباركة استدراج الله تعالى لهؤلاء المعرضين والمشركين وإمهالهم وتماديهم في غيّهم وطغيانهم : ( وَلَئِنْ أَخّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ) .
ولعل صدر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كان يضيق وسط هذا الإعراض والطغيان ، وتمادي القوم في غيّهم وضلالهم : ( فَلَعَلّكَ تَارِكُ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقُ بِهِ صَدْرُكَ ) .
لولا أن الله تعالى يذكِّر نبيه أنّ هؤلاء على كثرة عددهم وقوّتهم وطغيانهم لم يكونوا ليُعجزوا الله تعالى. ، وأنّ الله إن أمهلهم استدراجاً لهم فلن ينساهم ، ولن يفلتوا من قبضة قدرته وسلطانه تعالى : ( أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ) .
ثمّ ترسم السورة المباركة صورة حيّة لهذين الامتدادين والمعسكرين : الحضارة الإلهية ، والحضارة الجاهلية : ( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمّ وَالْبَصيرِ وَالسّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ) .
فمهما كَثُر عددهم ، وزادت قوّتهم ، فلا يزيدون على أن يكونوا كتلةً مهملةً من العمى والصمّ في مسار التاريخ ، وأنّ الجبهة الأخرى هي الجبهة الواعية ذات الإحساس والإدراك ( السمع والبصر ) ومهما كانت قوّة هذه الكتلة وحجمها فلن يكون لها شأن ولن يكون لها قيمة في مضمار التاريخ .
ثمّ تبدأ السورة باستعراض المسيرة الإلهية الكبيرة في التاريخ في مقاطع متعدّدة وبشيء من التفصيل ، وما لاقاه أنبياء الله ورسله خلال هذه المسيرة من عناءٍ ، وعذابٍ ، وجحودٍ ، وتكذيبٍ واستهزاء من أقوامهم .
فتذكر السورة معاناة نوح ( عليه السّلام ) في دعوة قومه إلى الله ، وتذكّر السورة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) :
بمعاناة هود ( عليه السّلام ) في دعوة ( عاد ) .
بمعاناة صالح ( عليه السّلام ) في دعوة ( ثمود ) .
بمعاناة إبراهيم ( عليه السّلام ) في دعوة قومه.
ومعاناة لوط ومعاناة شعيب ( عليه السّلام ) في دعوة ( أهل مدين ) إلى الله .
ومعاناة موسى ( عليه السّلام ) في دعوة قومه إلى الله .
وتسترسل الآيات المباركة في شرح هذه المعاناة ورسمها .
ثمّ بعد هذه الجولة في تاريخ الإنسان وحضارته ، ومعاناة الأنبياء وعذابهم ، وعناد المشركين ، ورفضهم وتعنتّهم ولجاجهم ، وصبر الأنبياء وجَلَدِهم واستقامتهم ، تخاطب السورة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، الذي قد كان يضيق صدره بما يراه من تعنّت قومه وعنادهم ، قوله تعالى : ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .
وتحذر الآية الكريمة المسلمين من أن يمسّهم ضعف في خضم الصراع ومرارته إلى الذين ظلموا ، فتقول لهم :
( وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمْ النّارُ وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمّ لاَ تُنصَرُونَ ) .
يقول ابن عبّاس : ما نُزِّل على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) آيةٌ كانت أشدّ عليه ولا أشقّ من قوله تعالى : ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ) ، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له :
( أسرع إليك الشيب يا رسول الله ) ، قال : ( شيّبتني هودٌ والواقعة ) (1) .
ثمّ يعلِّم الله تعالى نبيه أمرين يشدّان أزره ، ويربطان على قلبه ، ويثبِّتان فؤاده في هذه المسيرة الصعبة الشائكة ، وهما :
ـــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار 52 : 336 ، ح 71 .
في كتاب الله نجد ثلاثة أنواع من المواريث لعباد الله الصالحين : ميراثين في الدنيا ، وميراثاً في الآخرة .
أمّا الميراث في الآخرة فهو الجنّة ، يورثها عباده الصالحين والمتّقين من عباده بما عملوا . وإنّما يسمّيه القرآن ( إرثاً ) لأنّ الله تعالى خَلَق الجنّة لعباده جميعاً إذا آمنوا وعملوا صالحاً .
ولَمّا حُرم الكفّار والمشركون من الجنّة ؛ بكفرهم وإفسادهم في الأرض ، فإنّ الله تعالى خصّ المؤمنين فقط بالجنّة ، دون الكفّار المشركين ، وأورثهم الجنّة التي كان يستحقّها أولئك لو كانوا يؤمنون ويعملون صالحاً .
وقد روي عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( ما منكم مِن أحدٍ إلاّ وله منزِلان : منزلٌ في الجنّة ، ومنزلٌ في النار، فإن مات ودخل النار ، ورث أهل الجنّة منزِله ) ، والإرث هو الجنّة ، والوارثون هم المؤمنون الذي يرثون الفِردوس .
والآيات المباركة ، في بداية سورة ( المؤمنون ) ، تعطي صورةً واضحةً للوارثين الذين يرثون الجنّة ، يقول تعالى :
( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالّذِينَ هُمْ عَنِ اللّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لِلزّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ) . [ المؤمنون : 1 - 11 ]
إذن ، وِراثة الجنّة لا تتم إلاّ بالخشوع في الصلاة ، والإعراض عن اللغو ، والزكاة ، والصلاة ، وحفظ الفروج عن الحرام ، وأداء الأمانات والعهود .
وفي سورة ( مريم : 63 ) ورد ذكر التقوى في الأسباب التي تورث الجنّة : ( تِلْكَ الجنّة الّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ) . وفي مواضع أُخرى يقرّر القرآن الكريم أنّ الجنّة يرثها المؤمنون بأعمالهم : ( وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الجنّة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [ الأعراف : 43 ] ، ( وَتِلْكَ الجنّة الّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) . [ الزخرف : 72
فلا ينال المؤمنون الجنّة إلاّ بما قدّموا من عملٍ صالحٍ في الدنيا ، والعمل الصالح هو الذي يورث المؤمنين الجنّة ، وهذا هو ميراث الصالحين في الآخرة ، أمّا في الدنيا فقد جعل الله تعالى للصالحين ميراثين : ميراثاً من الظالمين والجبابرة الطغاة ، وميراثاً من الأنبياء المرسلين ، والصالحين من عباد الله .
وفي كتاب الله تعالى إيضاحٌ وتفصيل لهذين الميراثين اللذين يرثهما الصالحون من عباد الله في الدنيا ، وفي هذه الرسالة نتحدّث عن هذين الميراثين في كتاب الله .
اترك تعليق: