لقد سجلت رسالتي بعنوان (فقه العتبات المقدسة) وتوجَّب عليّ تنقيح صغريات العنوان، وذلك لتعدد معاني ألفاظه، أو ما قد يورد من إشكالات على تبديل العتبات بالمشاهد أو المراقد أو غيرهما.
● أولاً : الفقه:
في اللغة : الفهم.
وفي الاصطلاح : «هـو العـلم بالأحكـام الشرعيـة الفـرعية عن أدلتهـا التفصيلية»(1).
فلما كان الفقه بمعناه هذا، كانت دراستنا للعلم بالأحكام التي تبرز وجه القداسة لتلك الأماكن، وما يتعامل معه الزائر لتلك البقعة الشريفة من عبادة أو سلوك، مستندين إلى دليل شرعي يصحح ذلك الفعل، بل ويثاب عليه .
● ثانياً : العتبات :
جمع عَتَبَة، وهي أسكفة الباب، والاسكفة: هي خشبة الباب التي يوطأ عليها بالقدم السفلى أو العليا، وإنما سميت بذلك لارتفاعها عن المكان المطمئن السهل، لذا فهي تطلق على مراقي الدرجة، وما يكون في الجبل من مراقي يصعد عليها(2). وإطلاق لفظ العتبة من حيث الاصطلاح، قد تحكّم به العرف، فصار يُطلق على أبواب قصور الملوك أو زعماء العشائر ومداخل بيوتهم، لما لهم من المكانة التي بها تقضى حوائج الناس على أيديهم من عطاء أو عفوٍ أو غيرهما، جعلت بعض ذوي الفاقة أو الحاجة، ولغرض قضاء حاجته يعمد إلى باب مُضّيفه أو داره فيشد نفسه إليه ويقبّل عتبتُه(3).
وإذا كانت أبواب الملوك وزعماء القبائل تحظى عتباتهم بهذه المنزلة، فمن باب أولى أن تحظى مراقد الأنبياء والأولياء والصالحين بهذه المكانة بعد أن صار مصطلح العتبة يطلق على ضرائحهم، حتى استقر عرفاً من حيث الإطلاق على أضرحة المعصومين (ع) وذلك لما حظوا به من نور القداسة، وما امتاز به من مُثل وقيم يكفيهم فخراً أن القرآن الكريم امتدح خصالهم، وأبان فضل منزلتهم فجعلهم في بيوت عبر عنها بقوله تعالى : ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ))(4).
ولتحديد العتبة من حيث بيان الأحكام المتوخاة بحثها ضمن فصول الرسالة، ينبغي تنقيح الكلام لمعرفة إطلاقها على مكان الضريح أو الروضة أو المشهد أو الحرم، أو أوسع من ذلك لتشمل الرواق فضلاً عن شمولها للصحن الشريف سواء بحدوده الحالية أو ما يُرافقه من توسعات مُستقبلية .
فالكلام على وفق أسلوبين :
الأسلوب الأول: لو تتبعنا كلمات الفقهاء من حيث استبيانهم لحكم شرعي متعلق بالطهارة أو النذر أو الوقف أو الدفن أو غيرها، نجدهم في الأعم الأغلب يرد تعبيرهم بالمشهد أو المشاهد، أو التعبير بالمراقد أو الحضرات أو الحرم أو الضريح أو الروضة، وكذلك بالتعبير بلفظ العتبة أو العتبات، ولعل الشيخ كاشف الغطاء (ره) أول من أطلق لفظ العتبات عند بيانه لأحكام الحائض من حيث حرمة دخولها لذلك المكان المقدس او عدمه(5) .
فهل هذه الألفاظ لمعنى واحد، أو إنها ألفاظ مختلفة باختلاف اللحاظ ؟
ولمعرفة ذلك ينبغي معرفة معاني تلك الألفاظ الواردة، فمن المعلوم أن لفظ:
المشهد هو : المجمع من الناس، أو محضر الناس، فيقال مشاهد مكة : المواطن التي يجتمعون بها(6).
والـمَرقد: بالفتح : المضجع، وهو موضع القبر(7).
والحضرة : مأخوذة من الحضور الذي هو نقيض المغيب، ويرجع بالأخير من حيث المعنى إلى المشهد فتقول: بمحضر منه أي بمشهد منه(8).
والـحَرَمُ ـ بفتح الحاء والراء وضم الميم ـ المأخوذ من الحرام الذي هو ضد الحلال، ومن الحرمة التي بمعنى ما لا يحل انتهاكه أو بمعنى المهابة، إذا أطلق هذا اللفظ يراد به مكة، كما جاء في اللغة: «الحرم: حرم مكة، وما أحاط إلى قريب من الحرم» (9).
وقد حدد بحدود سميت بحدود الحرم حددها الفقهاء وجعلوا لمن ينتهكها بصيد أو قتل أو دخول من دون إحرام كفارة معينة(10) لما فيه من الأمن قال تعالى : ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ))(11).
والضريح: المأخوذ من الضَّرْح بمعنى: التنحية تقول: ضرّحه أي نحاه ودفعه، والضريح: هو الشق في وسط القبر، وقيل : القبر كله، وقيل : هو قبرٌ بلا لحد(12).
والروضة : مفرد روضات ورياض، وهي الأرض ذات الخضرة، أو البستان الـحَسَنْ، وقوله (ص) : «ما بين منبري وقبري، روضة من رياض الجنة»(13) معناه : إن المقيم في هذا المكان فكأنه أقام في روضة من رياض الجنة(14).
وهذه المفردات من الألفاظ لم يتقيد الفقهاء في إطلاق أي مفردة عند الحكم بها على ذلك المكان المقدس، إلا ما استوجب بيانه مثل حرمة دخول الجنب فإنهم يفصلون بين المشهد والرواق والصحن كما سيمر علينا .
الأسلوب الثاني : إن مما لا شك فيه أن المفهوم اللغوي أو الشرعي، مرة قد يتدخل الشرع في تحديد مصاديقه أو طريقة نطقه، فيكون تطبيق ذلك المفهوم على المصداق بمادته أو هيئته تطبيقاً تعبدياً كما في لفظ الطلاق الذي لا يصح إلا بلفظ معين.
ومرة أخرى، لا يتدخل الشرع في ذلك بل يتركه إلى العرف، كما في قضايا الاحترام أو الشعائر ومن ذلك مفهوم العتبة فان تعبير أهل اللغة فيه شمول من حيث الإطلاق على كل مرتفع عن مستواه السهل، ولم يتدخل الشرع لتحديد ضابطة المكان، فكان إطلاق اللفظ على معناه موكول إلى العرف، وأهل العرف توسعوا في هذا المعنى ليشمل ما كان دخوله عبر المفهوم اللغوي الشامل لكل ما يحيط بالقبر أو الضريح أو الروضة أو الرواق أو الصحن باعتبارية الباب الداعية إلى أن تكون بداية حريم المكان من هذه النقطة المكانية، وهي عتبة المكان المدخول إليه .
وعن تلك التوسعة الاصطلاحية العرفية ذكر الخليلي في موسوعته :
«ولما كانت أضرحة الأئمة مقدسة... فأقبل عليها الموالون والعارفون بقدسيتها على ما نعتقد وأولوها عناية أكبر وقدسية انبعثت من أعماق نفوسهم وإيمانهم، ثم توسعوا في عرفهم فسموا الأضرحة كلها باسم العتبات، وأصبح اسم العتبة أكثر شمولاً وأعم، بمقتضى ما جرى عليه الاصطلاح والعرف»(15).
من خلال هذين الأسلوبين يمكن التمسك بالثاني وإطلاق لفظ العتبة للأسباب الآتية :
اولاً : لا اختلاف في الاصطلاح :
إن تعبير الفقهاء وان كان الأكثر ما يرد على ألسنتهم بالمشهد، ولكن يرد في قولهم ايضاً بالمراقد أو الأضرحة والضرايح والأماكن المقدسة وكذلك بالعتبة أو العتبات، فلو كان للفظ معنى حقيقي لوقفوا عليه وأشاروا إلى الخلاف الحاصل بينه وبين غيره من الألفاظ كما هو شأنهم عند تقنينهم للقواعد والأحكام من خلال تعريفاتهم، فالتعريف والتحديد ينطوي على جهة لفظية أكثر مما ينطوي على جهة حُكمية.
ثانياً : إن الألفاظ المتقدمة الوارد ذكرها على العتبات المقدسة لا تحمل سمة تحديدية معينة لمكان ثابت، بل على العكس، هي على الإجمال اقرب منها إلى التحديد، فان محضر الناس الذي حمل معنى المشهد ليس له ضابطة معينة في تحديده، فما كان قريباً من القبر يسمى محضراً للناس، وكذا يطلق على مكان الروضة أو الصحن بل يمتد في أوقات المواسم والزيارات حتى يشمل البلدة بأكملها، وهو اليوم يطلق على مدينة النجف، مشهد الإمام علي (ع) ومدينـة طـوس في خـراسـان بمشهد الإمــام الرضا(ع)(16). فعليه لا يكون التحديد بلفظ المشهد جامعاً لأفراده .
وكذا الحرم : فان كان حرم الرسول (ص) حدوده معلومة بحدود معينة فالإجمال قائم بالنسبة إلى غيره من المشاهد، وحيث أن لكل شيء حرماً أو حريماً، فان كان للدار حريم وللبستان حريم وللبئر حريم، فالأماكن المقدسة مشمولة بهذا الحريم ايضاً، وأول أماكن تعيين حريمها هو ما كان مدخلاً لها عن طريق الأبواب التي أمرنا الله سبحانه وتعالى بالدخول منها .
قال تعالى : ((وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا))(17).
وحيث أن الباب مشتمل على العتبة، فعليه :إن للعتبة حرما وحريما، فحرمها ما اشتمل عليها السور الخارجي، وحريمها ما احتاج إليه زواره وعمّاره .
ثالثاً : وإما التحديد بلفظ الضريح أو الروضة أو المرقد فهذه ألفاظ أخص من المدعى ولا تكون مانعة من دخول غيرها ممن يتناوله الحكم .
فالفقهاء عندما ينقلون حكماً متعلقاً بالمشاهد مثل حرمة دخول الجنب الى المشاهد المشرفة، يلحقون بعد ذلك تلك الحرمة إلى ابعد من تلك المساحة لتشمل الرواق والصحن الشريف ولو باختلاف الحكم، وما يُنذر أو يُوهب للمشاهد، فهل يقتصر على تلك البقعة المشرفة أم يمتد مصرف تعمير الرواق والصحن إليه ؟
الفقهاء بالإجماع وكما سيمر علينا لم يمنعوا ذلك، وتعامل البنية معاملة واحدة من حيث التقديس ويرتبون لكل موقع مكاني حكماً بحسب الدليل .
فإطلاق لفظ العتبة فيه نوع من الشمول تطلق على عتبة باب الصحن وباب الرواق وباب الروضة وكل ما له باب، عكس لفظ المشهد فالأعم الأغلب من إطلاقه وكما يفهمه العرف إطلاقه على مكان الضريح وما حوله يراد به ما يراد من معنى العتبة.
فمن هذا يتبين : إن إطلاق العتبة على كل أجزاء ما دار عليه سور الصحن الشريف يمكن إطلاقه مسامحة بالمشهد ايضاً وذلك لما تقدم من عدم المشاحة بالاصطلاح، وان الفقهاء لم يقفوا موقف المتشدد، حيث انه يمكن بإطلاقهم المشهد أن يراد به العتبة وإطلاق العتبة وإرادة المشهد بها، وهذا ما أشار إليه علماء البيان ايضاً من إطلاق الجزء وإرادة الكل وبالعكس. ولكن مع هذا فالأقربية إلى العتبة أكثر من المشهد موافقةً للعرف .
● ثالثاً : المقدّسة :
إن عبارة التقديس والقدس، والقدوس، والمقدّس كلها جاءت من حيث اللغة على معنى واحد وهو التنزيه وهو التطهير عن العيوب والنقائص، ولكن اختلفوا من حيث إطلاقها على الأرض أو المكان هل بمعنى :
1 ـ الأرض المطهّرة كما ذهب إليه الفراء : هي التي يتطهر بها الإنسان من الذنوب .
2 ـ أو الأرض المباركة كما ذهب إليه قتادة(18).
3 ـ أو الأرض الموجبة للاحترام، وذلك لشرف المدفون فيها والمنزَّه عن مساوئ الأقوال والسلوكيات .
وعلى الجميع يمكن حمل أماكن العتبات المقدسة وذلك لأمرين :
الأمر الأول: إن العتبة لما حملت صفة القداسة كان لابد لها من معنى يلحظ به الجانب الوجودي المناسب لتلك البقعة من التعظيم، لا أن يلحظ الجانب التنزيهي المنطوي على التنزيه بما يحمله من المعاني السلبية، وبمعنى آخر إبراز الصفات الكمالية لتلك المشاهد لا إبراز الصفات الجلالية. وناسب أن يكون معنى التقديس للعتبات إبراز معنى المكان المطهَّر الذي يتطهّر به الإنسان من ذنوبه، وفي الوقت نفسه كان من المناسب لمثل ذلك المطهر أن يكون مباركاً أو غيرها .
الأمر الثاني: فقد دلت الموروثات الشرعية والعقلية على أن هناك ارتباطاً بين عالم التكوين وعالم التشريع، وخير ما يتجلى في هذا الارتباط بين العالمين، ربط بعض العبادات بأوقات معينة، وأمكنة محددة، فلا تكاد تترتب على تلك العبادات آثارها المتوقفة منها إلا إذا وقعت في ذلك الزمان وذلك المكان، فالصيام مثلاً لا يكاد يترتب عليه آثاره إلا إذا أوقع في ذلك الشهر المحدد الكريم وهو شهر رمضان، ولهذا من تعمد إفطار يوم منه لم يجز عنه صيام الدهر، وكذلك صلاة الصبح لا تترتب عليها آثارها إلا إذا أوقعت في ذلك الزمان المعين إلى غير ذلك من العبادات الزمانية، ومثله المكان فان لله سبحانه أماكن يحب أن يدعوا بها الإنسان أو يتعبد بها، وقد دعت الروايات الشريفة الواردة عن أهل البيت (ع) إلى زيارة تلك الأماكن والتعبد فيها وأوضحت العلة من ذلك بأنها قطعة من قطع الجنة(19) .
وتتجلى عظمة الأئمة (ع)باعتبارهم الوجود الامتدادي لرسول الله (ص) ذلك الوجود المكاني الذي يظهر منه أثر الارتباط بين العالمين التشريعي والتكويني .
-منقول من كتاب التوطئة
● أولاً : الفقه:
في اللغة : الفهم.
وفي الاصطلاح : «هـو العـلم بالأحكـام الشرعيـة الفـرعية عن أدلتهـا التفصيلية»(1).
فلما كان الفقه بمعناه هذا، كانت دراستنا للعلم بالأحكام التي تبرز وجه القداسة لتلك الأماكن، وما يتعامل معه الزائر لتلك البقعة الشريفة من عبادة أو سلوك، مستندين إلى دليل شرعي يصحح ذلك الفعل، بل ويثاب عليه .
● ثانياً : العتبات :
جمع عَتَبَة، وهي أسكفة الباب، والاسكفة: هي خشبة الباب التي يوطأ عليها بالقدم السفلى أو العليا، وإنما سميت بذلك لارتفاعها عن المكان المطمئن السهل، لذا فهي تطلق على مراقي الدرجة، وما يكون في الجبل من مراقي يصعد عليها(2). وإطلاق لفظ العتبة من حيث الاصطلاح، قد تحكّم به العرف، فصار يُطلق على أبواب قصور الملوك أو زعماء العشائر ومداخل بيوتهم، لما لهم من المكانة التي بها تقضى حوائج الناس على أيديهم من عطاء أو عفوٍ أو غيرهما، جعلت بعض ذوي الفاقة أو الحاجة، ولغرض قضاء حاجته يعمد إلى باب مُضّيفه أو داره فيشد نفسه إليه ويقبّل عتبتُه(3).
وإذا كانت أبواب الملوك وزعماء القبائل تحظى عتباتهم بهذه المنزلة، فمن باب أولى أن تحظى مراقد الأنبياء والأولياء والصالحين بهذه المكانة بعد أن صار مصطلح العتبة يطلق على ضرائحهم، حتى استقر عرفاً من حيث الإطلاق على أضرحة المعصومين (ع) وذلك لما حظوا به من نور القداسة، وما امتاز به من مُثل وقيم يكفيهم فخراً أن القرآن الكريم امتدح خصالهم، وأبان فضل منزلتهم فجعلهم في بيوت عبر عنها بقوله تعالى : ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ))(4).
ولتحديد العتبة من حيث بيان الأحكام المتوخاة بحثها ضمن فصول الرسالة، ينبغي تنقيح الكلام لمعرفة إطلاقها على مكان الضريح أو الروضة أو المشهد أو الحرم، أو أوسع من ذلك لتشمل الرواق فضلاً عن شمولها للصحن الشريف سواء بحدوده الحالية أو ما يُرافقه من توسعات مُستقبلية .
فالكلام على وفق أسلوبين :
الأسلوب الأول: لو تتبعنا كلمات الفقهاء من حيث استبيانهم لحكم شرعي متعلق بالطهارة أو النذر أو الوقف أو الدفن أو غيرها، نجدهم في الأعم الأغلب يرد تعبيرهم بالمشهد أو المشاهد، أو التعبير بالمراقد أو الحضرات أو الحرم أو الضريح أو الروضة، وكذلك بالتعبير بلفظ العتبة أو العتبات، ولعل الشيخ كاشف الغطاء (ره) أول من أطلق لفظ العتبات عند بيانه لأحكام الحائض من حيث حرمة دخولها لذلك المكان المقدس او عدمه(5) .
فهل هذه الألفاظ لمعنى واحد، أو إنها ألفاظ مختلفة باختلاف اللحاظ ؟
ولمعرفة ذلك ينبغي معرفة معاني تلك الألفاظ الواردة، فمن المعلوم أن لفظ:
المشهد هو : المجمع من الناس، أو محضر الناس، فيقال مشاهد مكة : المواطن التي يجتمعون بها(6).
والـمَرقد: بالفتح : المضجع، وهو موضع القبر(7).
والحضرة : مأخوذة من الحضور الذي هو نقيض المغيب، ويرجع بالأخير من حيث المعنى إلى المشهد فتقول: بمحضر منه أي بمشهد منه(8).
والـحَرَمُ ـ بفتح الحاء والراء وضم الميم ـ المأخوذ من الحرام الذي هو ضد الحلال، ومن الحرمة التي بمعنى ما لا يحل انتهاكه أو بمعنى المهابة، إذا أطلق هذا اللفظ يراد به مكة، كما جاء في اللغة: «الحرم: حرم مكة، وما أحاط إلى قريب من الحرم» (9).
وقد حدد بحدود سميت بحدود الحرم حددها الفقهاء وجعلوا لمن ينتهكها بصيد أو قتل أو دخول من دون إحرام كفارة معينة(10) لما فيه من الأمن قال تعالى : ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ))(11).
والضريح: المأخوذ من الضَّرْح بمعنى: التنحية تقول: ضرّحه أي نحاه ودفعه، والضريح: هو الشق في وسط القبر، وقيل : القبر كله، وقيل : هو قبرٌ بلا لحد(12).
والروضة : مفرد روضات ورياض، وهي الأرض ذات الخضرة، أو البستان الـحَسَنْ، وقوله (ص) : «ما بين منبري وقبري، روضة من رياض الجنة»(13) معناه : إن المقيم في هذا المكان فكأنه أقام في روضة من رياض الجنة(14).
وهذه المفردات من الألفاظ لم يتقيد الفقهاء في إطلاق أي مفردة عند الحكم بها على ذلك المكان المقدس، إلا ما استوجب بيانه مثل حرمة دخول الجنب فإنهم يفصلون بين المشهد والرواق والصحن كما سيمر علينا .
الأسلوب الثاني : إن مما لا شك فيه أن المفهوم اللغوي أو الشرعي، مرة قد يتدخل الشرع في تحديد مصاديقه أو طريقة نطقه، فيكون تطبيق ذلك المفهوم على المصداق بمادته أو هيئته تطبيقاً تعبدياً كما في لفظ الطلاق الذي لا يصح إلا بلفظ معين.
ومرة أخرى، لا يتدخل الشرع في ذلك بل يتركه إلى العرف، كما في قضايا الاحترام أو الشعائر ومن ذلك مفهوم العتبة فان تعبير أهل اللغة فيه شمول من حيث الإطلاق على كل مرتفع عن مستواه السهل، ولم يتدخل الشرع لتحديد ضابطة المكان، فكان إطلاق اللفظ على معناه موكول إلى العرف، وأهل العرف توسعوا في هذا المعنى ليشمل ما كان دخوله عبر المفهوم اللغوي الشامل لكل ما يحيط بالقبر أو الضريح أو الروضة أو الرواق أو الصحن باعتبارية الباب الداعية إلى أن تكون بداية حريم المكان من هذه النقطة المكانية، وهي عتبة المكان المدخول إليه .
وعن تلك التوسعة الاصطلاحية العرفية ذكر الخليلي في موسوعته :
«ولما كانت أضرحة الأئمة مقدسة... فأقبل عليها الموالون والعارفون بقدسيتها على ما نعتقد وأولوها عناية أكبر وقدسية انبعثت من أعماق نفوسهم وإيمانهم، ثم توسعوا في عرفهم فسموا الأضرحة كلها باسم العتبات، وأصبح اسم العتبة أكثر شمولاً وأعم، بمقتضى ما جرى عليه الاصطلاح والعرف»(15).
من خلال هذين الأسلوبين يمكن التمسك بالثاني وإطلاق لفظ العتبة للأسباب الآتية :
اولاً : لا اختلاف في الاصطلاح :
إن تعبير الفقهاء وان كان الأكثر ما يرد على ألسنتهم بالمشهد، ولكن يرد في قولهم ايضاً بالمراقد أو الأضرحة والضرايح والأماكن المقدسة وكذلك بالعتبة أو العتبات، فلو كان للفظ معنى حقيقي لوقفوا عليه وأشاروا إلى الخلاف الحاصل بينه وبين غيره من الألفاظ كما هو شأنهم عند تقنينهم للقواعد والأحكام من خلال تعريفاتهم، فالتعريف والتحديد ينطوي على جهة لفظية أكثر مما ينطوي على جهة حُكمية.
ثانياً : إن الألفاظ المتقدمة الوارد ذكرها على العتبات المقدسة لا تحمل سمة تحديدية معينة لمكان ثابت، بل على العكس، هي على الإجمال اقرب منها إلى التحديد، فان محضر الناس الذي حمل معنى المشهد ليس له ضابطة معينة في تحديده، فما كان قريباً من القبر يسمى محضراً للناس، وكذا يطلق على مكان الروضة أو الصحن بل يمتد في أوقات المواسم والزيارات حتى يشمل البلدة بأكملها، وهو اليوم يطلق على مدينة النجف، مشهد الإمام علي (ع) ومدينـة طـوس في خـراسـان بمشهد الإمــام الرضا(ع)(16). فعليه لا يكون التحديد بلفظ المشهد جامعاً لأفراده .
وكذا الحرم : فان كان حرم الرسول (ص) حدوده معلومة بحدود معينة فالإجمال قائم بالنسبة إلى غيره من المشاهد، وحيث أن لكل شيء حرماً أو حريماً، فان كان للدار حريم وللبستان حريم وللبئر حريم، فالأماكن المقدسة مشمولة بهذا الحريم ايضاً، وأول أماكن تعيين حريمها هو ما كان مدخلاً لها عن طريق الأبواب التي أمرنا الله سبحانه وتعالى بالدخول منها .
قال تعالى : ((وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا))(17).
وحيث أن الباب مشتمل على العتبة، فعليه :إن للعتبة حرما وحريما، فحرمها ما اشتمل عليها السور الخارجي، وحريمها ما احتاج إليه زواره وعمّاره .
ثالثاً : وإما التحديد بلفظ الضريح أو الروضة أو المرقد فهذه ألفاظ أخص من المدعى ولا تكون مانعة من دخول غيرها ممن يتناوله الحكم .
فالفقهاء عندما ينقلون حكماً متعلقاً بالمشاهد مثل حرمة دخول الجنب الى المشاهد المشرفة، يلحقون بعد ذلك تلك الحرمة إلى ابعد من تلك المساحة لتشمل الرواق والصحن الشريف ولو باختلاف الحكم، وما يُنذر أو يُوهب للمشاهد، فهل يقتصر على تلك البقعة المشرفة أم يمتد مصرف تعمير الرواق والصحن إليه ؟
الفقهاء بالإجماع وكما سيمر علينا لم يمنعوا ذلك، وتعامل البنية معاملة واحدة من حيث التقديس ويرتبون لكل موقع مكاني حكماً بحسب الدليل .
فإطلاق لفظ العتبة فيه نوع من الشمول تطلق على عتبة باب الصحن وباب الرواق وباب الروضة وكل ما له باب، عكس لفظ المشهد فالأعم الأغلب من إطلاقه وكما يفهمه العرف إطلاقه على مكان الضريح وما حوله يراد به ما يراد من معنى العتبة.
فمن هذا يتبين : إن إطلاق العتبة على كل أجزاء ما دار عليه سور الصحن الشريف يمكن إطلاقه مسامحة بالمشهد ايضاً وذلك لما تقدم من عدم المشاحة بالاصطلاح، وان الفقهاء لم يقفوا موقف المتشدد، حيث انه يمكن بإطلاقهم المشهد أن يراد به العتبة وإطلاق العتبة وإرادة المشهد بها، وهذا ما أشار إليه علماء البيان ايضاً من إطلاق الجزء وإرادة الكل وبالعكس. ولكن مع هذا فالأقربية إلى العتبة أكثر من المشهد موافقةً للعرف .
● ثالثاً : المقدّسة :
إن عبارة التقديس والقدس، والقدوس، والمقدّس كلها جاءت من حيث اللغة على معنى واحد وهو التنزيه وهو التطهير عن العيوب والنقائص، ولكن اختلفوا من حيث إطلاقها على الأرض أو المكان هل بمعنى :
1 ـ الأرض المطهّرة كما ذهب إليه الفراء : هي التي يتطهر بها الإنسان من الذنوب .
2 ـ أو الأرض المباركة كما ذهب إليه قتادة(18).
3 ـ أو الأرض الموجبة للاحترام، وذلك لشرف المدفون فيها والمنزَّه عن مساوئ الأقوال والسلوكيات .
وعلى الجميع يمكن حمل أماكن العتبات المقدسة وذلك لأمرين :
الأمر الأول: إن العتبة لما حملت صفة القداسة كان لابد لها من معنى يلحظ به الجانب الوجودي المناسب لتلك البقعة من التعظيم، لا أن يلحظ الجانب التنزيهي المنطوي على التنزيه بما يحمله من المعاني السلبية، وبمعنى آخر إبراز الصفات الكمالية لتلك المشاهد لا إبراز الصفات الجلالية. وناسب أن يكون معنى التقديس للعتبات إبراز معنى المكان المطهَّر الذي يتطهّر به الإنسان من ذنوبه، وفي الوقت نفسه كان من المناسب لمثل ذلك المطهر أن يكون مباركاً أو غيرها .
الأمر الثاني: فقد دلت الموروثات الشرعية والعقلية على أن هناك ارتباطاً بين عالم التكوين وعالم التشريع، وخير ما يتجلى في هذا الارتباط بين العالمين، ربط بعض العبادات بأوقات معينة، وأمكنة محددة، فلا تكاد تترتب على تلك العبادات آثارها المتوقفة منها إلا إذا وقعت في ذلك الزمان وذلك المكان، فالصيام مثلاً لا يكاد يترتب عليه آثاره إلا إذا أوقع في ذلك الشهر المحدد الكريم وهو شهر رمضان، ولهذا من تعمد إفطار يوم منه لم يجز عنه صيام الدهر، وكذلك صلاة الصبح لا تترتب عليها آثارها إلا إذا أوقعت في ذلك الزمان المعين إلى غير ذلك من العبادات الزمانية، ومثله المكان فان لله سبحانه أماكن يحب أن يدعوا بها الإنسان أو يتعبد بها، وقد دعت الروايات الشريفة الواردة عن أهل البيت (ع) إلى زيارة تلك الأماكن والتعبد فيها وأوضحت العلة من ذلك بأنها قطعة من قطع الجنة(19) .
وتتجلى عظمة الأئمة (ع)باعتبارهم الوجود الامتدادي لرسول الله (ص) ذلك الوجود المكاني الذي يظهر منه أثر الارتباط بين العالمين التشريعي والتكويني .
-منقول من كتاب التوطئة