بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد
اللهم صل على محمد وال محمد
لمعرفة المنتصر أو المهزوم في أية قضية لا بُدَّ و أن يكون التقييم وفقاً لمعايير خاصة، ومن أحد أهم تلك المعايير معرفة أهداف كل من طرفي النزاع، حيث أن المنتصر هو من تمكن من تحقيق أهدافه بصورة كاملة و دقيقة من خلال برنامج مدروس و خطة متقنة. وعليه فلمعرفة المنتصر في واقعة الطف الأليمة التي وقعت في كربلاء يوم عاشوراء لا بُدَّ من معرفة أهداف الإمام الحسين بن علي عليه السلام في مواجهته ليزيد بن معاوية أولاً، ثم معرفة أهداف يزيد بن معاوية ثانيا، ثم لننظر من تمكن من تحقيق أهدافه و لم يتمكن ، حتى نعرف المنتصر من الخاسر.
أهداف يزيد:
من يلاحظ التاريخ ـ رغم إخفائه الكثير من الحقائق ـ تحصل له قناعة تامة بأن البيت الأموي بصورة عامة، وأبو سفيان و معاوية ويزيد بصورة خاصة كانوا عازمين على محو الإسلام بكل الوسائل و السبل و بكل ما أوتوا من حول و قوة. نعم إن من أخطر الأهداف التي سعى إليها معاوية بن أبي سفيان و من بعده ابنه يزيد هو القضاء على الإسلام كلياً، قوانينه و سننه و معالمه بصورة جادة بل بصورة تكاد تكون علنية ، كما و سعيا لمحو ذكر النبي المصطفى محمدٍ حقداً منها وبغضاً للحبيب المصطفى ، حيث يشهد التاريخ أن معاوية كان يغتاظ عندما كان يسمع ذكر النبي في الأذان، وكان يُصرِّح لخواصه بأنه عازم على دفن ذكر هذا الإسم. قال المطرّف بن المغيرة بن شعبة: دخلت مع أبي على معاوية، و كان أبي يأتيه فيتحدث معه ثم ينصرف إلي، فيذكر معاوية وعقله، و يُعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتماً فانتظرته ساعة، و ظننت أنه لأمر حدث فينا.
فقلت: ما لي أراك مغتماً منذ الليلة؟
فقال: يا بني جئتُ من عند أكفر الناس و أخبثهم!
قلت: و ما ذاك؟!
قال: قلت له و قد خلوت به: إنك قد بلغت سناً يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا وبسطت خيراً، فإنك قد كبرت، و لو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه، و إن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه. فقال: هيهات هيهات، أي ذكر أرجو بقاءه! مَلكَ أخو تيم فعدل، وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره ، إلاّ أن يقول قائل: أبو بكر ، ثم ملك أخو عدي ، فاجتهد و شمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره ، إلاّ أن يقول قائل : عمر، و إن ابن أبي كبشة ليُصاح به كل يوم خمس مرات " أشهد أن محمداً رسول الله ، فأيُّ عمل يبقى و أيُّ ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك ، لا والله إلاّ دفناً دفناً!!. و لقد كان يزيد بن معاوية يردد:
لعبت هــــــــــــــاشم بالملك
فلا خبر جاء ولا وحي نزل النبي (ص) يحذر من خطر بني أمية: لقد تنبأ النبي محمد (ص) بما يضمره بنو أمية من العداء و الحقد تجاه أهل بيته صلى الله عليه وآله، فقد روى الحاكم في مستدرك الصحيحين بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله :
" إن أهل بيتي سيُلقون من بعدي من امتي قتلاً و تشريداً ، و إن أشدَّ قومنا لنا بغضاً بنو أمية و بنو المغيرة وبنو مخزوم"، ثم قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد . و ذكر السيوطي في تفسيره المسمى بالدر المنثور في ذيل تفسير قول الله عَزَّ و جَلَّ : (... وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ ... )، أن سعيد بن مسيب قال : رأى رسولُ الله بني أمية يَنْزُون على منبره نزو القردة فساءه ذلك ، قال : و هذا قول ابن عباس في رواية عطا .
من الغالب الحسين عليه السلام، أم يزيد؟
بعدما عرفنا أن الهدف الأول للبيت الأموي كان القضاء على الإسلام و إمحاء ذكر النبي j و أهل بيته الطاهرين صلى الله عليه وآله يتضح لنا جلياً أن هذا الهدف لم يتحقق أبداً بسبب نهضة الإمام الحسين عليه السلام الذي ضحى بنفسه و أهل بيته و أبنائه وأصحابه صلى الله عليه وآله، و بالعكس فإن أهداف الحسين عليه السلام قد تحققت كلها.
من أهداف الثورة الحسينية :
قال الإمام الحسين بن علي عليه السلام: " أَنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَ لَا بَطِراً وَ لَا مُفْسِداً وَ لَا ظَالِماً ، وَ إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الْإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي ، أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَ أَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَ أَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام، فَمَنْ قَبِلَنِي بِقَبُولِ الْحَقِّ فَاللَّهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ ، وَ مَنْ رَدَّ عَلَيَّ هَذَا أَصْبِرُ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنِي وَ بَيْنَ الْقَوْمِ بِالْحَقِّ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ " . هذا و إنا نجد أن هذه الأهداف المعلنة من قِبل الإمام حسين عليه السلام تحققت تماماً ، فالإسلام باقٍ و الأذان باقٍ و الصلاة باقٍية، و ذكر النبي و ذكر أهل بيته صلى الله عليه وآله باقٍ ، و في المقابل لم يبق لبني أمية أي ذكر ، إلا اللعنة و التاريخ السيء المظلم . و قد رُوِيَ عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنَّهُ قَالَ : " لَمَّا قَدِمَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَ قَدْ قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ صلى الله عليه وآله، اسْتَقْبَلَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَ قَالَ :
يَا عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ ، مَنْ غَلَبَ ـ وَ هُوَ يُغَطِّي رَأْسَهُ وَ هُوَ فِي الْمَحْمِلِ ـ ؟
قَالَ : فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ مَنْ غَلَبَ وَ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَأَذِّنْ ثُمَّ أَقِمْ". أي انه ما دام الأذان و الإقامة و الصلاة موجود فالإسلام هو الغالب و المنتصر . نعم إذا أردت أن تعرف المنتصر ألق بنظرة إلى كربلاء خاصة في مثل هذه الأيام ، محرم و صفر ستعرف من المنتصر، و انظر أيضاً إلى مجالس الحسين في العالم فستعرف من هو المنتصر و من هو المهزوم، و انظر أيضاً إلى ضريح الحسين عليه السلام في كربلاء و إلى الجموع المليونية في كل مناسبة و غير مناسبة التي تحوم حول القبر الشريف تعرف من المنتصر . انظر أيضاً إلى ضريح السيدة زينب عليها السلام بالشام فلا ترى سوى الشموخ والإباء و العظمة و العز و الكرامة . و كذلك لا بُدَّ لك و أن تلق بنظرة خاصة إلى الضريح المتألق الشامخ لطفلة الإمام الحسين و التي لم يكن عمرها يتجاوز الثالثة السيدة رقية عندما ماتت حزناً على أبيها في الشام فدفنت هناك ، ثم بعد هذه النظرات إسأل عن قبر يزيد و معاوية فستعرف من المنتصر ! نعم لقد غلب الدم السيف ، و غلب المظلوم الظالم ، و كما يقول غاندي : تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوما فانتصر . و لقد أجاد الشاعر السوري محمد مجذوب حين صور هذه الحقائق في قصيدته الغراء حينما وقف على قبر معاوية فجادت قريحته فبدأ يخاطبه هكذا :
أين القصور أبـا يزيـد و لهوهـا
والصافنـات وزهوهـا والسـؤددُ
اين الدهاء نحـرت عزتـه علـى
أعتـاب دنيـا زهوهـا لا ينفـدُ
آثرت فانيها علـى الحـق الـذي
هو لو علمت على الزمـان مخلـدُ
تلك البهارج قد مضـت لسبيلهـا
و بقيـت وحـدك عبـرة تتجـددُ
هذا ضريحك لو بصرت ببؤسـه
لأسال مدمعك المصيـر الأسـودُ
كُتلٌ من التـرب المهيـن بخربـةٍ
سكر الذباب بهـا فـراح يعربـدُ
خفيـت معالمهـا علـى زوارهـا
فكأنهـا فـي مجهـل لا يقصـدُ
و القبـة الشمـاء نكـس طرفهـا
فبكـل جـزء للفنـاء بهـا يــدُ
تهمي السحائب من خلال شقوقهـا
والريـح فـي جنباتهـا تـتـرددُ
و كـذا المصلـى مظلـم فكـأنـه
مذ كـان لـم يجتـز بـه متعبـدُ
أ أبا يزيـد و تلـك حكمـة خالـق
تجلى على قلـب الحكيـم فيرشـدُ
أ رأيت عاقبـة الجمـوح و نـزوة
أودى بلبـك غّيـهـا المتـرصـدُ
تعدوا بها ظلما علـى مـن حبـه
دين و بغضتـه الشقـاء السرمـدُ
ورثـت شمائلـه بـراءة أحمـد
فيكاد مـن بريـده يشـرق احمـدُ
و غلوت حتى قد جعلـت زمامهـا
ارثـا لكـل مـدمـم لا يحـمـدُ
هتك المحارم و استبـاح خدورهـا
ومضـى بغيـر هـواه لا يتقيـدُ
فأعادهـا بعـد الهـدى عصبيـة
جهـلاء تلتهـم النفـوس و تفسـدُ
فكأنمـا الإسـلام سلعـة تاجـر
وكـأن أمـتـه لآلــك أعـبـدُ
فاسأل مرابض كربـلاء و يثـرب
عن تلكـم النـار التـي لا تخمـدُ
أرسلـت مارجهـا فمـاج بحـره أمس الجـدود و لـن يجّنبهـا غـدُ
و الزاكيات مـن الدمـاء يريقهـا
باغ علـى حـرم النبـوة مفسـدُ
و الطاهـرات فديتهـن حـواسـرا
تنثـال مـن عبراتهـن الأكـبـدُ
و الطيبيـن مـن الصغـار كأنهـم
بيض الزنابق ذيد عنهـا المـوردُ
تشـكـو الظـمـا و الظالـمـون
أصمهم حقد أناخ على الجوانح موقدُ
و الذائديـن تبعثـرت اشـلاؤهـم
بـدوا فثمـة معصـم و هنـا يـدُ
تطـأ السنابـك بالطغـاة أديمهـا
مثل الكتاب مشـى عليـه المُلحـدُ
فعلى الرمال من الأبـاة مضـرج
وعلى النياق مـن الهـداة مصفـدُ
و على الرمـاح بقّيـة مـن عابـد
كالشمس ضاء به الصفا و المسجـدُ
ان يجهل الأثماء موضـع قـدره
فلقـد دراه الراكـعـون السّـجـدُ
أ أبـا يزيـد و سـاء ذلـك عثـرة
ماذا أقول و باب سمعـك موصـدُ
قم و ارمق النجف الشريف بنظـرة
يرتد طرفـك و هـو بـاك أرمـدُ
تلك العظام أعـز ربـك قدرهـا
فتكاد لـولا خـوف ربـك تعبـدُ
ابـدا تباركهـا الوفـود يحثـهـا
من كـل حـدب شوقهـا المتوقـدُ
نازعتها الدنيـا ففـزت بوردهـا
ثم انقضـى كالحلـم ذاك المـوردُ
وسعت الى الأخرى فخلد ذكرهـا
في الخالدين و عطف ربـك أخلـدُ
أ أبـا يزيـد لتلـك آهـة موجـع
أفضى اليـك بهـا فـؤاد مُقصـدُ
أنا لست بالقالي و لا أنـا شامـت
قلب الكريم عـن الشماتـة أبعـدُ
هي مهجـة حـرى اذاب شغافهـا
حزن على الاسلام لم يـك يهمـدُ
ذكرتها الماضـي فهـاج دفينهـا
شمل لشعـب المصطفـى متبـددُ
فبعثتـه عتبـا و ان يـك قاسـيـا
هو في ضلوعـي زفـرة يتـرددُ
لم استطع صبـرا علـى غلوائهـا
أي الضلوع على اللظـى تتجلـدُ
النصر للمؤمنين في الدنيا و الآخرة بنص القرآن :
قال الله عَزَّ و جَلَّ : (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)
يقول السيد قطب لدى تفسيره هذه الآية : فأما في الآخرة فقد لا يجادل أحد من المؤمنين بالآخرة في هذه النهاية. و لا يجد ما يدعوه إلى المجادلة. و أما النصر في الحياة الدنيا فقد يكون في حاجة إلى جلاء و بيان. إن وعد اللّه قاطع جازم : (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ...).. بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل و منهم من يهاجر من أرضه و قومه مكذبا مطرودا ، و أن المؤمنين فيهم من يسام العذاب ، و فيهم من يلقى في الأخدود ، و فيهم من يستشهد ، و فيهم من يعيش في كرب و شدة و اضطهاد .. فأين وعد اللّه لهم بالنصر في الحياة الدنيا ؟
و يدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل، و يفعل بها الأفاعيل! و لكن الناس يقيسون بظواهر الأمور. و يغفلون عن قيم كثيرة و حقائق كثيرة في التقدير. إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان ، و حيز محدود من المكان . وهي مقاييس بشرية صغيرة . فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان ، و لا يضع الحدود بين عصر و عصر و لا بين مكان و مكان . ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد و الإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك . وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها . فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها . وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها و يختفوا هم و يبرزوها ! و الناس كذلك يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم ، قريبة الرؤية لأعينهم. و لكن صور النصر شتى. و قد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة .. إبراهيم عليه السلام و هو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته و لا عن الدعوة إليها .. أ كان في موقف نصر أم في موقف هزيمة ؟ ما من شك ـ في منطق العقيدة ـ أنه كان في قمة النصر و هو يلقى في النار. كما أنه انتصر مرة أخرى و هو ينجو من النار. هذه صورة و تلك صورة. و هما في الظاهر بعيد من بعيد. فأما في الحقيقة فهما
قريب من قريب ! .. و الحسين عليه السلام و هو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب ، المفجعة من جانب ؟
أ كانت هذه نصرا أم هزيمة ؟
في الصورة الظاهرة و بالمقياس الصغير كانت هزيمة . فأما في الحقيقة الخالصة و بالمقياس الكبير فقد كانت نصرا . فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب و العطف ، و تهفو له القلوب و تجيش بالغيرة و الفداء كالحسين رضوان اللّه عليه . يستوي في هذا المتشيعون و غير المتشيعين . من المسلمين . و كثير من غير المسلمين! و كم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته و دعوته و لو عاش ألف عام ، كما نصرها باستشهاده . و ما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ، و يحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة ، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه ، فتبقى حافزا محركا للأبناء و الأحفاد. و ربما كانت حافزا محركا لخطى التاريخ كله مدى أجيال ..
ما النصر ؟ و ما الهزيمة ؟
إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور . و من القيم . قبل أن نسأل : أين وعد اللّه لرسله و للمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا ! على أن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة. ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة. لقد انتصر محمد j في حياته. لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض . فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية و تصرفها جميعا . من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة . فشاء اللّه أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته ، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة ، و يترك هذه الحقيقة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهودة. و من ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة ، و اتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية . وفق تقدير اللّه و ترتيبه . و هنالك اعتبار آخر تحسن مراعاته كذلك . إن وعد اللّه قائم لرسله و للذين آمنوا . و لا بد أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها . و حقيقة الإيمان كثيرا ما يتجوز الناس فيها . و هي لا توجد إلا حين يخلو القلب من الشرك في كل صوره و أشكاله . و إن هنالك أشكالا من الشرك خفية لا يخلص منها القلب إلا حين يتجه للّه وحده ، و يتوكل عليه وحده ، و يطمئن إلى قضاء اللّه فيه ، و قدره عليه ، و يحس أن اللّه وحده هو الذي يصرفه فلا خيرة له إلا ما اختار اللّه . و يتلقى هذا بالطمأنينة و الثقة و الرضى و القبول . و حين يصل إلى هذه الدرجة فلن يقدم بين يدي اللّه ، و لن يقترح عليه صورة معينة من صور النصر أو صور الخير. فسيكل هذا كله للّه . و يلتزم . و يتلقى كل ما يصيبه على أنه الخير .. و ذلك معنى من معاني النصر .. النصر على الذات و الشهوات . و هو النصر الداخلي الذي لا يتم نصر خارجي بدونه بحال من الأحوال. (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).
من اعترافات الخصوم :
رَوَى الْبَلاذِرِيُّ هو أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري البغدادي من أعلام القرن الثالث الهجري ، صاحب التاريخ المعروف بـ " أنساب الأشراف " ، وصفه الذهبي في كتاب "تذكرة الحفاظ" ناقلاً عن الحاكم بقوله : كان واحد عصره في الحفظ و كان أبو علي الحافظ و مشايخنا يحضرون مجلس وعظه يفرحون بما يذكره على رؤوس الملأ من الأسانيد ، و لم أرهم قط غمزوه في إسناد ، قَالَ لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ عليه السلام كَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ: أَمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ عَظُمَتِ الرَّزِيَّةُ وَ جَلَّتِ الْمُصِيبَةُ وَ حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ حَدَثٌ عَظِيمٌ ، وَ لَا يَوْمَ كَيَوْمِ الْحُسَيْنِ! فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَزِيدُ: أَمَّا بَعْدُ ، يَا أَحْمَقُ ، فَإِنَّنَا جِئْنَا إِلَى بُيُوتٍ مُنَجَّدَةٍ ، وَ فُرُشٍ مُمَهَّدَةٍ ، وَ وَسَائِدَ مُنَضَّدَةٍ ، فَقَاتَلْنَا عَنْهَا، فَإِنْ يَكُنِ الْحَقُّ لَنَا فَعَنْ حَقِّنَا قَاتَلْنَا، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لِغَيْرِنَا فَأَبُوكَ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ هَذَا وَابْتَزَّ وَاسْتَأْثَرَ بِالْحَقِّ عَلَى أَهْلِهِ .
النصر والهزيمة عند أهل البيت صلى الله عليه وآله:
هذا وأن ما يلاقيه المؤمن من أجل الدفاع عن عقيدته الحقة من قتل وتشريد وغير ذلك لا يعد هزيمة و خسارة يلام عليها، بل العكس هو الصحيح ، حيث أن كل ذلك وسام و فخر لا يستحقه إلا الأبطال المجاهدون في سبيل الله، ومن هذا المنطلق نجد الفرق كبيراً بين رؤية المدرستين، فهذا يزيد بن معاوية يخاطب العقيلة زينب بنت علي ^ شامتاً : كيف رايت صنع الله بأخيك؟! أما عقيلة الهاشميين أسطورة الصبر و الفداء و البطلولة ماذا تقول ، تقول : ما رأيت إلا جميلاً ، فقد رَوَى السَّيِّدُ ابن طاووس انَّ ابْنَ زِيَادٍ جَلَسَ فِي الْقَصْرِ لِلنَّاسِ وَ أَذِنَ إِذْناً عَامّاً ، وَ جِيءَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ عليه السلام فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَ أُدْخِلَ نِسَاءُ الْحُسَيْنِ وَ صِبْيَانُهُ إِلَيْهِ ، فَجَلَسَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيٍّ عليه السلام مُتَنَكِّرَةً .
فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقِيلَ : هَذِهِ زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيٍّ .
فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا ، فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَحَكُمْ وَ أَكْذَبَ أُحْدُوثَتَكُمْ !
فَقَالَتْ : إِنَّمَا يَفْتَضِحُ الْفَاسِقُ ، وَ يَكْذِبُ الْفَاجِرُ ، وَ هُوَ غَيْرُنَا .
فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ : كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وَ أَهْلِ بَيْتِكِ ؟
فَقَالَتْ : مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلًا ، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ، وَ سَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَ تُخَاصَمُ ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلْجُ يَوْمَئِذٍ ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ مَرْجَانَةَ .
قَالَ : فَغَضِبَ وَ كَأَنَّهُ هَمَّ بِهَا .
فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ : إِنَّهَا امْرَأَةٌ ، وَ الْمَرْأَةُ لَا تُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ مَنْطِقِهَا .
فَقَالَ لَها ابْنُ زِيَادٍ : لَقَدْ شَفَى اللَّهُ قَلْبِي مِنْ طَاغِيَتِكِ الْحُسَيْنِ وَ الْعُصَاةِ الْمَرَدَةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكِ .
فَقَالَتْ : لَعَمْرِي لَقَدْ قَتَلْتَ كَهْلِي ، وَ قَطَعْتَ فَرْعِي ، وَ اجْتَثَثْتَ أَصْلِي ، فَإِنْ كَانَ هَذَا شِفَاءَكَ فَقَدِ اشْتَفَيْتَ .
فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ : هَذِهِ سَجَّاعَةٌ ، وَ لَعَمْرِي لَقَدْ كَانَ أَبُوكِ سَجَّاعاً شَاعِراً .
فَقَالَتْ : يَا ابْنَ زِيَادٍ مَا لِلْمَرْأَةِ وَ السَّجَاعَةَ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
كربلاء أرض ملهمة للشعراء والأدباء
باتت كربلاء منذ مقتل الحسين عليه السلام على ارضها تزخر بالقيم والمثل والمعاني السامية وباخلاقيات البطولة والشهامة والاباء والرجولة وادبيات النهضة الهادفة لنصرة الحق ودحر الباطل ولذا كان لابد والحالة هذه ان تستلف انظار دعاة الحق وطلاب العدل ورسل الفضيلة وان تجتذب اليها كل المؤمنين والمتشوقين لنيل الفوز الدنيوي والاخروي. من هنا كان من بين الجموع البشرية الزاحفة نحو كربلاء بهدف الزيارة او السكنى بجوار قبر الحسين عليه السلام عبر الاجيال المتعاقبة الكثير والعديد من العلماء والادباء والشعراء الذين وجدوا في رحابها مادة خصبة يستلهمون منها ما يساعدهم في خلق روائعهم الأدبية والشعرية او ما يُغني ويدعم معطياتهم العلمية والثقافية فأفادوا واستفادوا حتى اوجدوا في كربلاء نواة جامعة علمية سبقت بأقدميتها الجوامع العلمية في كثير من المدن. فأول شاعر زار قبر الحسين عليه السلام هو عبيد الله بن الحر الجعفي الذي ما أن وقع نظره على القبر الشريف حتى اجهش في البكاء والنحيب طويلاً فأسعفته قريحته في الحال فرثى الحسين الشهيد عليه السلام بقصيدة ارتجلها مستلهما معانيها من مصابه الجلل ومن واقعة كربلاء المفجعة ومما قاله:
يقول أمير غادر وأبن غادر
الا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمة
فيا ندمي ان لا اكون نصرته
الا كل نفس لا تسدد نادمة
ويا ندمي ان لم اكن من حماته
لذو حسرة ما ان تفارق لازمة
سقى الله ارواح الذين تأزروا
على نصره سقياً من الغيث دائمة
وقفت على اجدائهم ومحالهم
فكاد الحشى ينفض والعين ساجمة
لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى
سراعا الى الهيجا حماة خضارمة
تأسوا على نصرة ابن بنت نبيهم
بأسيافهم آساد غيل ضراغمة
وفي الحقيقة ان واقعة عاشوراء بما انطوت عليه من لوحات تراجيدية في غاية المأساوية تجسد ابهى صور النزال والصراع بين الحق والمبدئية من جهة والباطل والنزعة الدنيوية الوضعية
من جهة أخرى كانت على مر التأريخ ولا تزال حتى يومنا هذا تشكل مادة خصبة يستلهم منها الشعراء والكتاب وكل ذي قريحة او مقدرة ادبية وفكرية ما يعنيهم في خلق روائعهم الشعرية والادبية ونتاجهم الفكري الخصب . ان حركة الحسين عليه السلام الشجاعة في مواجهة شيوع الرذيلة ورواج السفالة والسفاهة والغوغائية وتفشي ظاهرة التحلل الخلقي والسقوط الادبي وتخلي الناس عن الالتزام بدينهم وتعاليم نبيهم وما يقابلها من حركة يزيد بن معاوية الاموي التي انطوت على ما هو دنيوي ومادي منحط وغرائز حيوانية ولذات شهوانية وخسة مفرطة وأنانية وذاتية وتحكم وتسلط واستعلاء لا شك انها تفسح المجال امام خيالات وتصورات كل شاعر او كاتب موهوب او صاحب ضمير حي لكي ينطلق بذهنيته المتوقدة في آفاق واجواء هاتين الحركتين: حركة نبل انساني شريف ومتسامي وحركة سفالة وانحطاط وسقوط حيواني ثم ليقارن ويقيس بينهما وليستحصل بعد ذلك على مادة تكون اساس لارجوزة شعرية او رائعة ادبية او دراسة موضوعية ففي مصر مثلا ألف الكاتب المصري المعروف الدكتور عبد الرحمن الشرقاوي المتوفى 1408هـ مسرحية شعرية تصور في فصلها الاول نهضة وثورة الحسين عليه السلام وتصور استشهاده في فصلها الثاني وهي مسرحية في غاية الروعة والموضوعية ويقول كاتبها ان مسرحيته تصور نهضة الحسين عليه السلام عندما وجد نفسه بين احدى اثنتين: اما ان يبايع بالخلافة رجلا لا يطمئن اليه واما ان يعلن احتجاجه ويرفض البيعة وامام هذا الخيار ادرك الحسين بن علي ^ مسؤوليته تحتم عليه ان يطلق صرخة احتجاج ضد ما رآه يخالف عقيدته كان يسعه ان يسكت وان يعيش ناعم البال في المدينة يعلم الناس ويفقههم في شؤون الدين في مسجد جده ، وقد آثر كثير من اولاد الصحابه الكبار ان يسلكوا هذا المسلك ولكن الحسين عليه السلام شعر بانه مسؤول عن الصمت ايضا وليس امامه في هذا الخيار الا ان يختار الامر بالمعروف والنهي عن المنكر انه مسرحية تتحدث عن مسؤولية القائد وعن دور المثقف في عصره كيف يجب ان يحول ما يعتقده الى حركة ايجابية. ويقول الدكتور عبد الرحمن الشرقاوي: اذا كان الشباب في كثير من بلاد العالم يفتتنون بابطال الاستشهاد من اجل الحرية في جيلنا فان الحسين عليه السلام في استشهاده اولى بكل الاعجاب وهذه المسرحية الشعرية تصور استشهاد الحسين عليه السلام وتمجد الاستشهاد في سبيل القيمة البيت يؤمن بها الانسان لقد ادرك الحسين عليه السلام منذ خرج ثائرا ان بعض الذين اعتمد عليهم قد تخلوا عنه وعرضت عليه السلطات التي ثار عليها ان يعود الى داره وان تغدق عليه مزيدا من المال ولكنه كان قد ادرك ان حياته لا تساوي شيئا بالقياس الى حياة المبادئ التي يدافع عنها يجب ان يدفع الحياة نفسها لقيمة اغلى عليه من الحياة ، ان هذه المسرحية تصور بطلا تراجيديا يسير الى مصيره الفاجع وهو مدرك ويعرف المبادئ التي يدافع عنها ستنتصر وتزدهر اذا منحها دمه فهو مدرك انه مقتول بلا ريب وانه ثأر الله . وقد صاغ الدكتور الشرقاوي رأي الحسين عليه السلام بما آل اليه زمانه شعرا حرا وكما يلي:
ما عاد في هذا الزمان سوى رجال كالمسوخ الشائهات
يمشون في حلل النعيم
وتحتها نتن القبور يتشامخون على العباد كأن ملكوا العباد
وهم اذا لا قوا الامير تضاءلوا مثل العبيد
صاروا على امر البلاد فأكثروا فيها الفساد
اعلامهم رفعت على قمم الحياة
خرق مرقعة ترفرف بالقذارة في السماء الصافية
راياتهم مزق المحيض البالية
ياايها العصر الزري لانت غاشية العصور
ثم يصوغ الدكتور عبد الرحمن الشرقاوي ما اراد الحسين الشهيد من تعبيره حينها كان يلقى مصرعه في مقتله وذلك في الاطار الشعري الحديث الاتي: فلتذكروني لا بسفككم دماء الآخرين بل فاذكروني بانتشال الحق من ظفر الضلال بل فاذكروني بالنضال على الطريق لكي يسود العدل فيما بينكم فلتذكروني بالنضال فلتذكروني عندما تغدو الحقيقة وحدها حيرى حزينة