كثيرة هي مناقب وفضائل الامام امير المؤمنين عليه السلام لا يستطيع العالم عدها وقد كتبت في فضائله الكثير من المصنفات والمؤلفات والمجاميع والممتتبع لكتب الفهارس يجد ذلك جليا واضحا والاحاطة بها ضرب من المحال فانه عليه السلام مجمع دائرة الكمال والفضائل بل منه استمد اهل الفضل فضائلهم واليه انتهت رئاسة اهل الفضل وذلك لانه عليه السلام يستمد من فوارة النور الامتناهي الا وهو الرسول المصطفى صلى الله عليه واله روحي وارواح العالمين له الفداء لانه سنخه وفرعه وكما قال عليه السلام انا من محمد كالضوء من الضوء
انتهاء كل الفضائل اليه عليه السلام
ولنعم ما قال ابن ابي الحديد في هذا الصدد منهيا كل علم حصل في الاسلام وفضيلة اليه :
أما فضائله عليه السلام ، فإنها قد بلغت من العظم والجلاله والانتشار والاشتهار مبلغا يسمج معه التعرض لذكرها ، والتصدي لتفصيلها ،وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل ، ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله ، فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الاسلام في شرق الارض وغربها ، واجتهدوا بكل حيله في إطفاء نوره ، والتحريض عليه ، ووضع المعايب والمثالب له ، ولعنوه على جميع المنابر ، وتوعدوا مادحيه ، بل حبسوهم وقتلوهم ، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيله ، أو يرفع له ذكرا ، حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه ، فما زاده ذلك إلا رفعه وسموا ، وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه ، وكلما كتم تضوع نشره ، وكالشمس لا تستر بالراح ، وكضوء النهار ان حجبت عنه عين واحدة ، أدركته عيون كثيره ! وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة ، وتنتهى إليه كل فرقة ، وتتجاذبه كل طائفة ، فهو رئيس الفضائل وينبوعها ، وأبو عذرها ، وسابق مضمارها ، ومجلى حلبتها ، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ ، وله اقتفى ، وعلى مثاله احتذى .
وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الالهى ، لان شرف العلم بشرف المعلوم ، ومعلومه أشرف الموجودات ، فكان هو أشرف العلوم . ومن كلامه عليه السلام اقتبس ، وعنه نقل ، وإليه انتهى ، ومنه ابتدأ فإن المعتزلة الذين هم أ هل التوحيد والعدل ، وأرباب النظر ، ومنهم تعلم الناس هذا الفن تلامذته وأصحابه ، لان كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبى هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ، وأبو هاشم تلميذ أبيه وأبوه تلميذه عليه السلام . وأما الاشعرية فانهم ينتمون إلى أبى الحسن على بن إسماعيل بن أبى بشر الاشعري ، وهو تلميذ أبى على الجبائى ، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة ، فالاشعرية ينتهون بأخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم وهو على بن أبى طالب عليه السلام . وأما الامامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر .
ومن العلوم : علم الفقه ، وهو عليه السلام أصله وأساسه ، وكل فقيه في الاسلام فهو عيال عليه ، ومستفيد من فقهه ، أما أصحاب أبى حنيفه كأبى يوسف ومحمد وغيرهما ، فأخذوا عن أبى حنيفة ، وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن ، فيرجع فقهه إيضا إلى أبى حنيفة ، وأما أحمد بن حنبل ، فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضا إلى أبى حنيفة ، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد عليه السلام ، وقرأ جعفر على أبيه عليه السلام ، وينتهى الامر إلى على عليه السلام . وأما مالك بن أنس ، فقرأ على ربيعة الرأى ، وقرأ ربيعة على عكرمة ، وقرأ عكرمه على عبد الله بن عباس ، وقرأ عبد الله بن عباس على على بن أبى طالب ، وإن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك ، فهؤلاء الفقهاء الاربعة . واما فقه الشيعة : فرجوعه إليه ظاهر وأيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا : عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس ، وكلاهما أخذ عن على عليه السلام . أما ابن عباس فظاهر ، وأما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التى أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة ، وقوله غير مرة : لو لا على لهلك عمر ، وقوله : لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن . وقوله : لا يفتين أحد في المسجد وعلى حاضر ، فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه . وقد روت العامة والخاصة قوله صلى الله عليه وآله : أقضاكم على ، والقضاء هو الفقه ، فهو إذا أفقههم . وروى الكل أيضا أنه عليه السلام قال له وقد بعثه إلى اليمن قاضيا : اللهم اهد قلبه وثبت لسانه قال : فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين وهو عليه السلام الذى أفتى في المرأة التى وضعت لسته أشهر ، وهو الذى أفتى في الحامل الزانية ، وهو الذى قال في المنبرية: صار ثمنها تسعا . وهذه المسأله لو فكر الفرضي فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب ، فما ظنك بمن قاله بديهة ، واقتضبه ارتجالا .
ومن العلوم : علم تفسير القرآن ، وعنه أخذ ، ومنه فرع . وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك ، لان أكثره عنه وعن عبد الله بن عباس ، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له ، وانقطاعه إليه ، وأنه تلميذه وخريجه . وقيل له : أين علمك من علم ابن عمك ؟ فقال : كنسبة قطره من المطر إلى البحر المحيط .
ومن العلوم : علم الطريقة والحقيقة ، وأحوال التصوف ، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الاسلام ، إليه ينتهون ، وعنده يقفون ، وقد صرح بذلك الشبلي ، والجنيد ، وسري ، وأبو يزيد البسطامى ، وأبو محفوظ معروف الكرخي ، وغيرهم . ويكفيك دلالة على ذلك الخرقة التى هي شعارهم إلى اليوم ، وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه عليه السلام .
ومن العلوم : علم النحو والعربية ، وقد علم الناس كافه أنه هو الذى ابتدعه وأنشأه ، وأملى على أبى الاسود الدؤلى جوامعه وأصوله ، من جملتها الكلام كله ثلاثة أشياء : اسم وفعل وحرف . ومن جملتها : تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة ، وتقسيم وجوه الاعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم ، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات ، لان القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر ، ولا تنهض بهذا الاستنباط .
وإن رجعت إلى الخصائص الخلقية والفضائل النفسانية والدينية وجدته ابن جلاها وطلاع ثناياها.
وأما الشجاعة : فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله ، ومحا اسم من يأتي بعده ، ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الامثال إلى يوم القيامة ، وهو الشجاع الذى ما فر قط ، ولا ارتاع من كتيبة ، ولا بارز أحدا إلا قتله ، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الاولى إلى ثانية ، وفي الحديث كانت ضرباته وترا ، ولما دعا معاوية إلى المبارزه ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما ، قال له عمرو : لقد أنصفك ، فقال معاوية : ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم ! أ تأمرني بمبارزه أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق ! أراك طمعت في إمارة الشام بعدي ! وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته ، فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنه عليه السلام قتلهم أظهر وأكثر ، قالت أخت عمرو بن عبد ود ثرثيه :
لو كان قاتل عمرو غير قاتله بكيته أبدا ما دمت في الابد
لكن قاتله من لا نظير له وكان يدعى أبوه بيضة البلد
وانتبه يوما معاوية ، فرأى عبد الله بن الزبير جالسا تحت رجليه على سريره ، فقعد ، فقال له عبد الله يداعبه : يا أمير المؤمنين ، لو شئت أن أفتك بك لفعلت ، فقال : لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر ، قال : وما الذي تنكره من شجاعتي وقد وقفت في الصف إزاء علي بن أبى طالب ! قال : لا جرم إنه قتلك وأباك بيسرى يديه ، وبقيت اليمنى فارغة ، يطلب من يقتله بها . وجملة الامر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهي ، وباسمه ينادى في مشارق الارض ومغاربها .
وأما القوة والايد : فبه يضرب المثل فيهما ، قال ابن قتيبه في( المعارف ): ما صارع أحدا قط إلا صرعه . وهو الذى قلع باب خيبر ، واجتمع عليه عصبه من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه ، وهو الذى اقتلع هبل من أعلى الكعبة ، وكان عظيما جدا ، وألقاه إلى الارض . وهو الذى اقتلع الصخره العظيمة في أيام خلافته عليه السلام بيده بعد عجز الجيش كله عنها ، وأنبط الماء من تحتها .
وأما السخاء والجود : فحاله فيه ظاهرة ، وكان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده ، وفيه أنزل ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) . وروى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم ، فتصدق بدرهم ليلا ، وبدرهم نهارا ، وبدرهم سرا ، وبدرهم علانية ، فأنزل فيه : (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ) . وروى عنه أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة ، حتى مجلت يده ، ويتصدق بالاجرة ، ويشد على بطنه حجرا . وقال الشعبى وقد ذكره عليه السلام : كان أسخى الناس ، كان على الخلق الذي يحبه الله : السخاء والجود ، ما قال : ( لا ) لسائل قط . وقال عدوه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبى سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبي لما قال له : جئتك من عند أبخل الناس ، فقال : ويحك ! كيف تقول إنه أبخل الناس ، لو ملك بيتا من تبر وبيتا من تبن ، لانفد تبره قبل تبنه . وهو الذى كان يكنس بيوت الاموال ويصلي فيها ، وهو الذي قال : يا صفراء ، ويا بيضاء ، غري غيري . وهو الذي لم يخلف ميراثا ، وكانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام .
وأما الحلم والصفح : فكان أحلم الناس عن ذنب ، وأصفحهم عن مسئ ، وقد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل ، حيث ظفر بمروان بن الحكم وكان أعدى الناس له ، وأشدهم بغضا فصفح عنه . وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رءوس الاشهاد ، وخطب يوم البصرة فقال : قد أتاكم الوغد اللئيم علي بن أبى طالب وكان علي عليه السلام يقول : ما زال الزبير رجلا منا اهل البيت حتى شب عبد الله فظفر به يوم الجمل ، فأخذه أسيرا ، فصفح عنه ، وقال : اذهب فلا أرينك ، لم يزده على ذلك . وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة ، وكان له عدوا ، فأعرض عنه ولم يقل له شيئا . وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره ، فلما ظفر بها أكرمها ، وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم ، وقلدهن بالسيوف ، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به ، وتأففت وقالت : هتك سترى برجاله وجنده الذين وكلهم بى فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن ، وقلن لها : إنما نحن نسوه . وحاربه أهل البصرة وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف ، وشتموه ولعنوه ، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم ، ونادى مناديه في أقطار العسكر : ألا لا يتبع مول ، ولا يجهز على جريح ، ولا يقتل مستأسر ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن تحيز إلى عسكر الامام فهو آمن . ولم يأخذ أثقالهم ، ولا سبى ذراريهم ، ولا غنم شيئا من أموالهم ، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل ، ولكنه أبى إلا الصفح والعفو وتقيل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة ، فإنه عفا والاحقاد لم تبرد ، والاساءة لم تنس . ولما ملك عسكر معاوية عليه الماء ، وأحاطوا بشريعة الفرات ، وقالت رؤساء الشام له
اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا ، سألهم علي عليه السلام وأصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء ، فقالوا : لا والله ، ولا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفان ، فلما رأى عليه السلام أنه الموت لا محالة تقدم بأصحابه ، وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة ، حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع ، سقطت منه الرؤوس والايدي ، وملكوا عليهم الماء ، وصار أصحاب معاوية في الفلاة ، لا ماء لهم ، فقال له أصحابه وشيعته : امنعهم الماء يا أمير المؤمنين ، كما منعوك ، ولا تسقهم منه قطرة ، واقتلهم بسيوف العطش ، وخذهم قبضا بالايدي فلا حاجه لك إلى الحرب ، فقال : لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم ، افسحوا لهم عن بعض الشريعة ، ففي حد السيف ما يغني عن ذلك . فهذه إن نسبتها إلى الحلم والصفح فناهيك بها جمالا وحسنا ، وإن نسبتها إلى الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله عليه السلام ! .
وأما الجهاد في سبيل الله : فمعلوم عند صديقه وعدوه أنه سيد المجاهدين ، وهل الجهاد لاحد من الناس إلا له ! وقد عرفت أن أعظم غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وأشدها نكاية في المشركين بدر الكبرى ، قتل فيها سبعون من المشركين ، قتل علي نصفهم ، وقتل المسلمون والملائكة النصف الآخر . وإذا رجعت إلى مغازي محمد بن عمر الواقدي وتاريخ الاشراف ليحيى بن جابر البلاذري وغيرهما علمت صحة ذلك ، دع من قتله في غيرها كأحد والخندق وغيرهما ، وهذا الفصل لا معنى للاطناب فيه ، لانه من المعلومات الضرورية ، كالعلم بوجود مكة ومصر ونحوهما .
وأما الفصاحة : فهو عليه السلام إمام الفصحاء ، وسيد البلغاء ، وفي كلامه قيل : دون كلام الخالق ، وفوق كلام المخلوقين . ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة ، قال عبد الحميد بن يحيى : حفظت سبعين خطبة من خطب الاصلع ، ففاضت ثم فاضت . وقال ابن نباتة: حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الانفاق الا سعة وكثرة ، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبى طالب . ولما قال محفن بن أبى محفن لمعاوية : جئتك من عند أعيا الناس ، قال له : ويحك ! كيف يكون أعيا الناس ! فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره ، ويكفى هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة ، ولا يبارى في البلاغة . وحسبك أنه لم يدون لاحد من فصحاء الصحابة العشر ، ولا نصف العشر مما دون له ، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب ( البيان والتبيين ) وفي غيره من كتبه .
وأما سجاحة الاخلاق ، وبشر الوجه ، وطلاقة المحيا ، والتبسم : فهو المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه ، قال عمرو بن العاص لاهل الشام : أنه ذو دعابة شديدة . وقال علي عليه السلام في ذاك : عجبا لابن النابغة ! يزعم لاهل الشام أن في دعابة ، وأني امرؤ تلعابة ، أعافس وأمارس! وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه : لله أبوك لولا دعابة فيك ! إلا أن عمر اقتصر عليها ، وعمرو زاد فيها وسمجها . قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه : كان فينا كأحدنا ، لين جانب ، وشدة تواضع ، وسهولة قياد ، وكنا نهابه مهابة الاسير المربوط للسياف الواقف على رأسه . وقال معاوية لقيس بن سعد : رحم الله أبا حسن ، فلقد كان هشا بشا ، ذا فكاهة ، قال قيس : نعم ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ويبتسم إلى أصحابه ، وأراك تسر حسوا في ارتغاء ، وتعيبه بذلك ! أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى ، تلك هيبة التقوى ، وليس كما يهابك طغام أهل الشام ! . وقد بقى هذا الخلق متوارثا متنافلا في محبيه وأوليائه إلى الآن ، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر ، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك .
وأما الزهد في الدنيا : فهو سيد الزهاد ، وبدل الابدال ، وإليه تشد الرحال ، وعنده تنفض الاحلاس ، ما شبع من طعام قط . وكان أخشن الناس مأكلا وملبسا ، قال عبد الله بن أبي رافع : دخلت إليه يوم عيد ، فقدم جرابا مختوما ، فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا ، فقدم فأكل ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، فكيف تختمه ؟ قال : خفت هذين الولدين أن يلتاه بسمن أو زيت . وكان ثوبه مرقوعا بجلد تارة ، وليف أخرى ، ونعلاه من ليف . وكان يلبس الكرباس الغليظ ، فإذا وجد كمه طويلا قطعه بشفرة ، ولم يخطه ، فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمة له ، وكان يأتدم إذا ائتدم بخل أو بملح ، فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الارض ، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الابل ، ولا يأكل اللحم إلا قليلا ، ويقول : لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان . وكان مع ذلك أشد الناس قوة وأعظمهم أيدا ، لا ينقض الجوع قوته ، ولا يخون الاقلال منته . وهو الذي طلق الدنيا وكانت الاموال تجبى إليه من جميع بلاد الاسلام إلا من الشام ، فكان يفرقها ويمزقها ، ثم يقول :
هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه
وأما العبادة : فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوما ، ومنه تعلم الناس صلاة الليل ، وملازمة الاوراد وقيام النافلة ، وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير ، فيصلي عليه ورده ، والسهام تقع بين يديه وتمر على صماخيه يمينا وشمالا ، فلا يرتاع لذلك ، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته ! وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده . وأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته ، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله ، وما يتضمنه من الخضوع لهيبته ، والخشوع لعزته والاستخذاء له ، عرفت ما ينطوي عليه من الاخلاص ، وفهمت من أي قلب خرجت ، وعلى أي لسان جرت ! . وقيل لعلي بن الحسين عليه السلام - وكان الغاية في العبادة : أين عبادتك من عبادة جدك ؟ قال : عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدى عند عبادة رسول الله صلى الله عليه وآله
وأما قراءته القرآن واشتغاله به : فهو المنظور إليه في هذا الباب ، اتفق الكل على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولم يكن غيره يحفظه ، ثم هو أول من جمعه ، نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبى بكر ، فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخر مخالفة للبيعة ، بل يقولون : تشاغل بجمع القرآن فهذا يدل على أنه أول من جمع القرآن ، لانه لو كان مجموعا في حياه رسول الله صلى الله عليه وآله لما احتاج إلى أن يتشاغل بجمعه بعد وفاته صلى الله عليه وآله . وإذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القراء كلهم يرجعون إليه ، كابي عمرو بن العلاء وعاصم بن أبي النجود وغيرهما ، لانهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمى القارئ ، وأبو عبد الرحمن كان تلميذه ، وعنه أخذ القرآن ، فقد صار هذا الفن من الفنون التى تنتهى إليه أيضا ، مثل كثير مما سبق .
وأما الرأي والتدبير : فكان من أسد الناس رأيا ، وأصحهم تدبيرا ، وهو الذي أشار على عمر بن الخطاب لما عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الروم والفرس بما أشار . وهو الذى أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها ، ولو قبلها لم يحدث عليه ما حدث . وإنما قال أعداؤه : لا رأي له ، لانه كان متقيدا بالشريعة لا يرى خلافها ، ولا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه . وقد قال عليه السلام : لو لا الدين والتقى لكنت أدهى العرب . وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوفقه ، سواء أ كان مطابقا للشرع أم لم يكن . ولا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده ، ولا يقف مع ضوابط وقيود يمتنع لاجلها مما يرى الصلاح فيه ، تكون أحواله الدنيوية إلى الانتظام أقرب ، ومن كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب .
وأما السياسة : فإنه كان شديد السياسة ، خشنا في ذات الله ، لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولاه إياه ، ولا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به . وأحرق قوما بالنار ، ونقض دار مصقلة بن هبيرة ودار جرير بن عبد الله البجلي ، وقطع جماعة وصلب آخرين . ومن جملة سياسته في حروبه أيام خلافته بالجمل وصفين والنهروان ، وفي أقل القليل منها مقنع ، فإن كل سائس في الدنيا لم يبلغ فتكه وبطشه وانتقامه مبلغ العشر مما فعل عليه السلام في هذه الحروب بيده وأعوانه .
فهذه هي خصائص البشر ومزاياهم قد أوضحنا أنه فيها الامام المتبع فعله ، والرئيس المقتفى أثره .
وما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة ،
وتصور ملوك الفرنج والروم صورته في بيعها وبيوت عباداتها ، حاملا سيفه ، مشمرا لحربه ،
وتصور ملوك الترك والديلم صورته على أسيافها !
كان علي سيف عضد الدولة بن بويه وسيف أبيه ركن الدولة صورته ،
وكان علي سيف إلب أرسلان وابنه ملكشاه صورته ، كأنهم يتفاءلون به النصر والظفر . وما اقول في رجل أحب كل واحد أن يتكثر به ، وود كل أحد أن يتجمل ويتحسن بالانتساب إليه ،
حتى الفتوة التى أحسن ما قيل في حدها : ألا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك ، فإن أربابها نسبوا أنفسهم إليه ، وصنفوا في ذلك كتبا ، وجعلوا لذلك إسنادا أنهوه إليه ، وقصروه عليه وسموه سيد الفتيان ، وعضدوا مذهبهم إليه بالبيت المشهور المروي ، انه سمع من السماء يوم أحد : لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا علي
وما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيد البطحاء ، وشيخ قريش ، ورئيس مكة ، قالوا : قل أن يسود فقير ، وساد أبو طالب وهو فقير لا مال له ، وكانت قريش تسميه الشيخ . وفي حديث عفيف الكندي ، لما رأى النبي صلى الله عليه وآله يصلى في مبدأ الدعوة ، ومعه غلام وامرأة ، قال : فقلت للعباس أي شئ هذا ؟ قال : هذا ابن أخي ، يزعم أنه رسول من الله إلى الناس ، ولم يتبعه على قوله إلا هذا الغلام - وهو ابن أخي أيضا - وهذه الامرأة ، وهي زوجته . قال : فقلت : ما الذي تقولونه أنتم ؟ قال : ننتظر ما يفعل الشيخ - يعني أبا طالب . وأبو طالب هو الذى كفل رسول الله صلى الله عليه وآله صغيرا ، وحماه وحاطه كبيرا ، ومنعه من مشركي قريش ، ولقي لاجله عنتا عظيما ، وقاسى بلاء شديدا ، وصبر على نصره والقيام بأمره . وجاء في الخبر أنه لما توفى أبو طالب أوحى إليه عليه السلام وقيل له : اخرج منها ، فقد مات ناصرك . وله مع شرف هذه الابوة أن ابن عمه محمد سيد الاولين والآخرين ، وأخاه جعفر ذو الجناحين ، الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وآله : ( أشبهت خلقي وخلقي) فمر يحجل فرحا . وزوجته سيدة نساء العالمين ، وابنيه سيدا شباب أهل الجنة ، فأباؤه آباء رسول الله ، وأمهاته أمهات رسول الله ، وهو مسوط بلحمه ودمه ، لم يفارقه منذ خلق الله آدم ، إلى أن مات عبد المطلب بين الاخوين عبد الله وأبى طالب ، وأمهما واحدة ، فكان منهما سيد الناس ، هذا الاول وهذا التالي ، وهذا المنذر وهذا الهادى ! .
وما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى ، وآمن بالله وعبده ، وكل من في الارض يعبد الحجر ، ويجحد الخالق ، لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلا السابق إلى كل خير ، محمد رسول الله صلى الله عليه وآله . ذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه عليه السلام أول الناس اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وآله إيمانا به ، ولم يخالف في ذلك إلا الاقلون . وقد قال هو عليه السلام : أنا الصديق الاكبر ، وأنا الفاروق الاول ، أسلمت قبل إسلام الناس ، وصليت قبل صلاتهم . ومن وقف على كتب أصحاب الحديث تحقق ذلك وعلمه واضحا . وإليه ذهب الواقدي ، وابن جرير الطبري ، وهو القول الذي رجحه ونصره صاحب كتاب ( الاستيعاب) .
فلو أردنا شرح مناقبه وخصائصه لاحتجنا إلى كتاب مفرد يماثل حجم هذا بل يزيد عليه ، وبالله التوفيق (
[1])
وهنا نذكر جملة من فضائله تاركين التفصيل لمن طلبه مع الاشارة الى جملة من المصادر التي كرس مؤلفوها جهدهم في بيان فضائله عليه السلام :
([1])شرح نهج البلاغة ج 1 ص 16
منقووووووووووول
انتهاء كل الفضائل اليه عليه السلام
ولنعم ما قال ابن ابي الحديد في هذا الصدد منهيا كل علم حصل في الاسلام وفضيلة اليه :
أما فضائله عليه السلام ، فإنها قد بلغت من العظم والجلاله والانتشار والاشتهار مبلغا يسمج معه التعرض لذكرها ، والتصدي لتفصيلها ،وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل ، ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله ، فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الاسلام في شرق الارض وغربها ، واجتهدوا بكل حيله في إطفاء نوره ، والتحريض عليه ، ووضع المعايب والمثالب له ، ولعنوه على جميع المنابر ، وتوعدوا مادحيه ، بل حبسوهم وقتلوهم ، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيله ، أو يرفع له ذكرا ، حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه ، فما زاده ذلك إلا رفعه وسموا ، وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه ، وكلما كتم تضوع نشره ، وكالشمس لا تستر بالراح ، وكضوء النهار ان حجبت عنه عين واحدة ، أدركته عيون كثيره ! وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة ، وتنتهى إليه كل فرقة ، وتتجاذبه كل طائفة ، فهو رئيس الفضائل وينبوعها ، وأبو عذرها ، وسابق مضمارها ، ومجلى حلبتها ، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ ، وله اقتفى ، وعلى مثاله احتذى .
وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الالهى ، لان شرف العلم بشرف المعلوم ، ومعلومه أشرف الموجودات ، فكان هو أشرف العلوم . ومن كلامه عليه السلام اقتبس ، وعنه نقل ، وإليه انتهى ، ومنه ابتدأ فإن المعتزلة الذين هم أ هل التوحيد والعدل ، وأرباب النظر ، ومنهم تعلم الناس هذا الفن تلامذته وأصحابه ، لان كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبى هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ، وأبو هاشم تلميذ أبيه وأبوه تلميذه عليه السلام . وأما الاشعرية فانهم ينتمون إلى أبى الحسن على بن إسماعيل بن أبى بشر الاشعري ، وهو تلميذ أبى على الجبائى ، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة ، فالاشعرية ينتهون بأخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم وهو على بن أبى طالب عليه السلام . وأما الامامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر .
ومن العلوم : علم الفقه ، وهو عليه السلام أصله وأساسه ، وكل فقيه في الاسلام فهو عيال عليه ، ومستفيد من فقهه ، أما أصحاب أبى حنيفه كأبى يوسف ومحمد وغيرهما ، فأخذوا عن أبى حنيفة ، وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن ، فيرجع فقهه إيضا إلى أبى حنيفة ، وأما أحمد بن حنبل ، فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضا إلى أبى حنيفة ، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد عليه السلام ، وقرأ جعفر على أبيه عليه السلام ، وينتهى الامر إلى على عليه السلام . وأما مالك بن أنس ، فقرأ على ربيعة الرأى ، وقرأ ربيعة على عكرمة ، وقرأ عكرمه على عبد الله بن عباس ، وقرأ عبد الله بن عباس على على بن أبى طالب ، وإن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك ، فهؤلاء الفقهاء الاربعة . واما فقه الشيعة : فرجوعه إليه ظاهر وأيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا : عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس ، وكلاهما أخذ عن على عليه السلام . أما ابن عباس فظاهر ، وأما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التى أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة ، وقوله غير مرة : لو لا على لهلك عمر ، وقوله : لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن . وقوله : لا يفتين أحد في المسجد وعلى حاضر ، فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه . وقد روت العامة والخاصة قوله صلى الله عليه وآله : أقضاكم على ، والقضاء هو الفقه ، فهو إذا أفقههم . وروى الكل أيضا أنه عليه السلام قال له وقد بعثه إلى اليمن قاضيا : اللهم اهد قلبه وثبت لسانه قال : فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين وهو عليه السلام الذى أفتى في المرأة التى وضعت لسته أشهر ، وهو الذى أفتى في الحامل الزانية ، وهو الذى قال في المنبرية: صار ثمنها تسعا . وهذه المسأله لو فكر الفرضي فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب ، فما ظنك بمن قاله بديهة ، واقتضبه ارتجالا .
ومن العلوم : علم تفسير القرآن ، وعنه أخذ ، ومنه فرع . وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك ، لان أكثره عنه وعن عبد الله بن عباس ، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له ، وانقطاعه إليه ، وأنه تلميذه وخريجه . وقيل له : أين علمك من علم ابن عمك ؟ فقال : كنسبة قطره من المطر إلى البحر المحيط .
ومن العلوم : علم الطريقة والحقيقة ، وأحوال التصوف ، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الاسلام ، إليه ينتهون ، وعنده يقفون ، وقد صرح بذلك الشبلي ، والجنيد ، وسري ، وأبو يزيد البسطامى ، وأبو محفوظ معروف الكرخي ، وغيرهم . ويكفيك دلالة على ذلك الخرقة التى هي شعارهم إلى اليوم ، وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه عليه السلام .
ومن العلوم : علم النحو والعربية ، وقد علم الناس كافه أنه هو الذى ابتدعه وأنشأه ، وأملى على أبى الاسود الدؤلى جوامعه وأصوله ، من جملتها الكلام كله ثلاثة أشياء : اسم وفعل وحرف . ومن جملتها : تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة ، وتقسيم وجوه الاعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم ، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات ، لان القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر ، ولا تنهض بهذا الاستنباط .
وإن رجعت إلى الخصائص الخلقية والفضائل النفسانية والدينية وجدته ابن جلاها وطلاع ثناياها.
وأما الشجاعة : فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله ، ومحا اسم من يأتي بعده ، ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الامثال إلى يوم القيامة ، وهو الشجاع الذى ما فر قط ، ولا ارتاع من كتيبة ، ولا بارز أحدا إلا قتله ، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الاولى إلى ثانية ، وفي الحديث كانت ضرباته وترا ، ولما دعا معاوية إلى المبارزه ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما ، قال له عمرو : لقد أنصفك ، فقال معاوية : ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم ! أ تأمرني بمبارزه أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق ! أراك طمعت في إمارة الشام بعدي ! وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته ، فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنه عليه السلام قتلهم أظهر وأكثر ، قالت أخت عمرو بن عبد ود ثرثيه :
لو كان قاتل عمرو غير قاتله بكيته أبدا ما دمت في الابد
لكن قاتله من لا نظير له وكان يدعى أبوه بيضة البلد
وانتبه يوما معاوية ، فرأى عبد الله بن الزبير جالسا تحت رجليه على سريره ، فقعد ، فقال له عبد الله يداعبه : يا أمير المؤمنين ، لو شئت أن أفتك بك لفعلت ، فقال : لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر ، قال : وما الذي تنكره من شجاعتي وقد وقفت في الصف إزاء علي بن أبى طالب ! قال : لا جرم إنه قتلك وأباك بيسرى يديه ، وبقيت اليمنى فارغة ، يطلب من يقتله بها . وجملة الامر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهي ، وباسمه ينادى في مشارق الارض ومغاربها .
وأما القوة والايد : فبه يضرب المثل فيهما ، قال ابن قتيبه في( المعارف ): ما صارع أحدا قط إلا صرعه . وهو الذى قلع باب خيبر ، واجتمع عليه عصبه من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه ، وهو الذى اقتلع هبل من أعلى الكعبة ، وكان عظيما جدا ، وألقاه إلى الارض . وهو الذى اقتلع الصخره العظيمة في أيام خلافته عليه السلام بيده بعد عجز الجيش كله عنها ، وأنبط الماء من تحتها .
وأما السخاء والجود : فحاله فيه ظاهرة ، وكان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده ، وفيه أنزل ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) . وروى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم ، فتصدق بدرهم ليلا ، وبدرهم نهارا ، وبدرهم سرا ، وبدرهم علانية ، فأنزل فيه : (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ) . وروى عنه أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة ، حتى مجلت يده ، ويتصدق بالاجرة ، ويشد على بطنه حجرا . وقال الشعبى وقد ذكره عليه السلام : كان أسخى الناس ، كان على الخلق الذي يحبه الله : السخاء والجود ، ما قال : ( لا ) لسائل قط . وقال عدوه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبى سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبي لما قال له : جئتك من عند أبخل الناس ، فقال : ويحك ! كيف تقول إنه أبخل الناس ، لو ملك بيتا من تبر وبيتا من تبن ، لانفد تبره قبل تبنه . وهو الذى كان يكنس بيوت الاموال ويصلي فيها ، وهو الذي قال : يا صفراء ، ويا بيضاء ، غري غيري . وهو الذي لم يخلف ميراثا ، وكانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام .
وأما الحلم والصفح : فكان أحلم الناس عن ذنب ، وأصفحهم عن مسئ ، وقد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل ، حيث ظفر بمروان بن الحكم وكان أعدى الناس له ، وأشدهم بغضا فصفح عنه . وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رءوس الاشهاد ، وخطب يوم البصرة فقال : قد أتاكم الوغد اللئيم علي بن أبى طالب وكان علي عليه السلام يقول : ما زال الزبير رجلا منا اهل البيت حتى شب عبد الله فظفر به يوم الجمل ، فأخذه أسيرا ، فصفح عنه ، وقال : اذهب فلا أرينك ، لم يزده على ذلك . وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة ، وكان له عدوا ، فأعرض عنه ولم يقل له شيئا . وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره ، فلما ظفر بها أكرمها ، وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم ، وقلدهن بالسيوف ، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به ، وتأففت وقالت : هتك سترى برجاله وجنده الذين وكلهم بى فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن ، وقلن لها : إنما نحن نسوه . وحاربه أهل البصرة وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف ، وشتموه ولعنوه ، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم ، ونادى مناديه في أقطار العسكر : ألا لا يتبع مول ، ولا يجهز على جريح ، ولا يقتل مستأسر ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن تحيز إلى عسكر الامام فهو آمن . ولم يأخذ أثقالهم ، ولا سبى ذراريهم ، ولا غنم شيئا من أموالهم ، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل ، ولكنه أبى إلا الصفح والعفو وتقيل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة ، فإنه عفا والاحقاد لم تبرد ، والاساءة لم تنس . ولما ملك عسكر معاوية عليه الماء ، وأحاطوا بشريعة الفرات ، وقالت رؤساء الشام له
اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا ، سألهم علي عليه السلام وأصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء ، فقالوا : لا والله ، ولا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفان ، فلما رأى عليه السلام أنه الموت لا محالة تقدم بأصحابه ، وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة ، حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع ، سقطت منه الرؤوس والايدي ، وملكوا عليهم الماء ، وصار أصحاب معاوية في الفلاة ، لا ماء لهم ، فقال له أصحابه وشيعته : امنعهم الماء يا أمير المؤمنين ، كما منعوك ، ولا تسقهم منه قطرة ، واقتلهم بسيوف العطش ، وخذهم قبضا بالايدي فلا حاجه لك إلى الحرب ، فقال : لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم ، افسحوا لهم عن بعض الشريعة ، ففي حد السيف ما يغني عن ذلك . فهذه إن نسبتها إلى الحلم والصفح فناهيك بها جمالا وحسنا ، وإن نسبتها إلى الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله عليه السلام ! .
وأما الجهاد في سبيل الله : فمعلوم عند صديقه وعدوه أنه سيد المجاهدين ، وهل الجهاد لاحد من الناس إلا له ! وقد عرفت أن أعظم غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وأشدها نكاية في المشركين بدر الكبرى ، قتل فيها سبعون من المشركين ، قتل علي نصفهم ، وقتل المسلمون والملائكة النصف الآخر . وإذا رجعت إلى مغازي محمد بن عمر الواقدي وتاريخ الاشراف ليحيى بن جابر البلاذري وغيرهما علمت صحة ذلك ، دع من قتله في غيرها كأحد والخندق وغيرهما ، وهذا الفصل لا معنى للاطناب فيه ، لانه من المعلومات الضرورية ، كالعلم بوجود مكة ومصر ونحوهما .
وأما الفصاحة : فهو عليه السلام إمام الفصحاء ، وسيد البلغاء ، وفي كلامه قيل : دون كلام الخالق ، وفوق كلام المخلوقين . ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة ، قال عبد الحميد بن يحيى : حفظت سبعين خطبة من خطب الاصلع ، ففاضت ثم فاضت . وقال ابن نباتة: حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الانفاق الا سعة وكثرة ، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبى طالب . ولما قال محفن بن أبى محفن لمعاوية : جئتك من عند أعيا الناس ، قال له : ويحك ! كيف يكون أعيا الناس ! فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره ، ويكفى هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة ، ولا يبارى في البلاغة . وحسبك أنه لم يدون لاحد من فصحاء الصحابة العشر ، ولا نصف العشر مما دون له ، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب ( البيان والتبيين ) وفي غيره من كتبه .
وأما سجاحة الاخلاق ، وبشر الوجه ، وطلاقة المحيا ، والتبسم : فهو المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه ، قال عمرو بن العاص لاهل الشام : أنه ذو دعابة شديدة . وقال علي عليه السلام في ذاك : عجبا لابن النابغة ! يزعم لاهل الشام أن في دعابة ، وأني امرؤ تلعابة ، أعافس وأمارس! وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه : لله أبوك لولا دعابة فيك ! إلا أن عمر اقتصر عليها ، وعمرو زاد فيها وسمجها . قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه : كان فينا كأحدنا ، لين جانب ، وشدة تواضع ، وسهولة قياد ، وكنا نهابه مهابة الاسير المربوط للسياف الواقف على رأسه . وقال معاوية لقيس بن سعد : رحم الله أبا حسن ، فلقد كان هشا بشا ، ذا فكاهة ، قال قيس : نعم ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ويبتسم إلى أصحابه ، وأراك تسر حسوا في ارتغاء ، وتعيبه بذلك ! أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى ، تلك هيبة التقوى ، وليس كما يهابك طغام أهل الشام ! . وقد بقى هذا الخلق متوارثا متنافلا في محبيه وأوليائه إلى الآن ، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر ، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك .
وأما الزهد في الدنيا : فهو سيد الزهاد ، وبدل الابدال ، وإليه تشد الرحال ، وعنده تنفض الاحلاس ، ما شبع من طعام قط . وكان أخشن الناس مأكلا وملبسا ، قال عبد الله بن أبي رافع : دخلت إليه يوم عيد ، فقدم جرابا مختوما ، فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا ، فقدم فأكل ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، فكيف تختمه ؟ قال : خفت هذين الولدين أن يلتاه بسمن أو زيت . وكان ثوبه مرقوعا بجلد تارة ، وليف أخرى ، ونعلاه من ليف . وكان يلبس الكرباس الغليظ ، فإذا وجد كمه طويلا قطعه بشفرة ، ولم يخطه ، فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمة له ، وكان يأتدم إذا ائتدم بخل أو بملح ، فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الارض ، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الابل ، ولا يأكل اللحم إلا قليلا ، ويقول : لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان . وكان مع ذلك أشد الناس قوة وأعظمهم أيدا ، لا ينقض الجوع قوته ، ولا يخون الاقلال منته . وهو الذي طلق الدنيا وكانت الاموال تجبى إليه من جميع بلاد الاسلام إلا من الشام ، فكان يفرقها ويمزقها ، ثم يقول :
هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه
وأما العبادة : فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوما ، ومنه تعلم الناس صلاة الليل ، وملازمة الاوراد وقيام النافلة ، وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير ، فيصلي عليه ورده ، والسهام تقع بين يديه وتمر على صماخيه يمينا وشمالا ، فلا يرتاع لذلك ، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته ! وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده . وأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته ، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله ، وما يتضمنه من الخضوع لهيبته ، والخشوع لعزته والاستخذاء له ، عرفت ما ينطوي عليه من الاخلاص ، وفهمت من أي قلب خرجت ، وعلى أي لسان جرت ! . وقيل لعلي بن الحسين عليه السلام - وكان الغاية في العبادة : أين عبادتك من عبادة جدك ؟ قال : عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدى عند عبادة رسول الله صلى الله عليه وآله
وأما قراءته القرآن واشتغاله به : فهو المنظور إليه في هذا الباب ، اتفق الكل على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولم يكن غيره يحفظه ، ثم هو أول من جمعه ، نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبى بكر ، فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخر مخالفة للبيعة ، بل يقولون : تشاغل بجمع القرآن فهذا يدل على أنه أول من جمع القرآن ، لانه لو كان مجموعا في حياه رسول الله صلى الله عليه وآله لما احتاج إلى أن يتشاغل بجمعه بعد وفاته صلى الله عليه وآله . وإذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القراء كلهم يرجعون إليه ، كابي عمرو بن العلاء وعاصم بن أبي النجود وغيرهما ، لانهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمى القارئ ، وأبو عبد الرحمن كان تلميذه ، وعنه أخذ القرآن ، فقد صار هذا الفن من الفنون التى تنتهى إليه أيضا ، مثل كثير مما سبق .
وأما الرأي والتدبير : فكان من أسد الناس رأيا ، وأصحهم تدبيرا ، وهو الذي أشار على عمر بن الخطاب لما عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الروم والفرس بما أشار . وهو الذى أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها ، ولو قبلها لم يحدث عليه ما حدث . وإنما قال أعداؤه : لا رأي له ، لانه كان متقيدا بالشريعة لا يرى خلافها ، ولا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه . وقد قال عليه السلام : لو لا الدين والتقى لكنت أدهى العرب . وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوفقه ، سواء أ كان مطابقا للشرع أم لم يكن . ولا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده ، ولا يقف مع ضوابط وقيود يمتنع لاجلها مما يرى الصلاح فيه ، تكون أحواله الدنيوية إلى الانتظام أقرب ، ومن كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب .
وأما السياسة : فإنه كان شديد السياسة ، خشنا في ذات الله ، لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولاه إياه ، ولا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به . وأحرق قوما بالنار ، ونقض دار مصقلة بن هبيرة ودار جرير بن عبد الله البجلي ، وقطع جماعة وصلب آخرين . ومن جملة سياسته في حروبه أيام خلافته بالجمل وصفين والنهروان ، وفي أقل القليل منها مقنع ، فإن كل سائس في الدنيا لم يبلغ فتكه وبطشه وانتقامه مبلغ العشر مما فعل عليه السلام في هذه الحروب بيده وأعوانه .
فهذه هي خصائص البشر ومزاياهم قد أوضحنا أنه فيها الامام المتبع فعله ، والرئيس المقتفى أثره .
وما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة ،
وتعظمه الفلاسفة على معاندتهم لاهل الملة ،
وتصور ملوك الفرنج والروم صورته في بيعها وبيوت عباداتها ، حاملا سيفه ، مشمرا لحربه ،
وتصور ملوك الترك والديلم صورته على أسيافها !
كان علي سيف عضد الدولة بن بويه وسيف أبيه ركن الدولة صورته ،
وكان علي سيف إلب أرسلان وابنه ملكشاه صورته ، كأنهم يتفاءلون به النصر والظفر . وما اقول في رجل أحب كل واحد أن يتكثر به ، وود كل أحد أن يتجمل ويتحسن بالانتساب إليه ،
حتى الفتوة التى أحسن ما قيل في حدها : ألا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك ، فإن أربابها نسبوا أنفسهم إليه ، وصنفوا في ذلك كتبا ، وجعلوا لذلك إسنادا أنهوه إليه ، وقصروه عليه وسموه سيد الفتيان ، وعضدوا مذهبهم إليه بالبيت المشهور المروي ، انه سمع من السماء يوم أحد : لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا علي
وما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيد البطحاء ، وشيخ قريش ، ورئيس مكة ، قالوا : قل أن يسود فقير ، وساد أبو طالب وهو فقير لا مال له ، وكانت قريش تسميه الشيخ . وفي حديث عفيف الكندي ، لما رأى النبي صلى الله عليه وآله يصلى في مبدأ الدعوة ، ومعه غلام وامرأة ، قال : فقلت للعباس أي شئ هذا ؟ قال : هذا ابن أخي ، يزعم أنه رسول من الله إلى الناس ، ولم يتبعه على قوله إلا هذا الغلام - وهو ابن أخي أيضا - وهذه الامرأة ، وهي زوجته . قال : فقلت : ما الذي تقولونه أنتم ؟ قال : ننتظر ما يفعل الشيخ - يعني أبا طالب . وأبو طالب هو الذى كفل رسول الله صلى الله عليه وآله صغيرا ، وحماه وحاطه كبيرا ، ومنعه من مشركي قريش ، ولقي لاجله عنتا عظيما ، وقاسى بلاء شديدا ، وصبر على نصره والقيام بأمره . وجاء في الخبر أنه لما توفى أبو طالب أوحى إليه عليه السلام وقيل له : اخرج منها ، فقد مات ناصرك . وله مع شرف هذه الابوة أن ابن عمه محمد سيد الاولين والآخرين ، وأخاه جعفر ذو الجناحين ، الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وآله : ( أشبهت خلقي وخلقي) فمر يحجل فرحا . وزوجته سيدة نساء العالمين ، وابنيه سيدا شباب أهل الجنة ، فأباؤه آباء رسول الله ، وأمهاته أمهات رسول الله ، وهو مسوط بلحمه ودمه ، لم يفارقه منذ خلق الله آدم ، إلى أن مات عبد المطلب بين الاخوين عبد الله وأبى طالب ، وأمهما واحدة ، فكان منهما سيد الناس ، هذا الاول وهذا التالي ، وهذا المنذر وهذا الهادى ! .
وما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى ، وآمن بالله وعبده ، وكل من في الارض يعبد الحجر ، ويجحد الخالق ، لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلا السابق إلى كل خير ، محمد رسول الله صلى الله عليه وآله . ذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه عليه السلام أول الناس اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وآله إيمانا به ، ولم يخالف في ذلك إلا الاقلون . وقد قال هو عليه السلام : أنا الصديق الاكبر ، وأنا الفاروق الاول ، أسلمت قبل إسلام الناس ، وصليت قبل صلاتهم . ومن وقف على كتب أصحاب الحديث تحقق ذلك وعلمه واضحا . وإليه ذهب الواقدي ، وابن جرير الطبري ، وهو القول الذي رجحه ونصره صاحب كتاب ( الاستيعاب) .
فلو أردنا شرح مناقبه وخصائصه لاحتجنا إلى كتاب مفرد يماثل حجم هذا بل يزيد عليه ، وبالله التوفيق (
[1])
وهنا نذكر جملة من فضائله تاركين التفصيل لمن طلبه مع الاشارة الى جملة من المصادر التي كرس مؤلفوها جهدهم في بيان فضائله عليه السلام :
([1])شرح نهج البلاغة ج 1 ص 16
منقووووووووووول