إقناع العقل وإمتاع النفس
شذرات من قلم العلامة المحقق الشيخ محمد هادي معرفة ، في كتابه تلخيص التمهيد ، ج2 ، ص448-450 .ميزة أُخرى في احتجاجات القرآن ، هو حينما يحاول إخضاع العقل ببراهينه المتينة تراه لا يتغافل عن إمتاع النفس بلطائف كلامه الظريفة ورقائق بيانه العذبة السائغة ، جامعاً بين أناقة التعبير وفخامة المحتوى ، سهلاً سلساً يستلذّه الذوق ويستطيبه الطبع ، عذباً فراتاً لذّة للشاربين .
إنّ للنفس الإنسانية جهتين : جهة تفكير يكون مركزه العقل ، وجهة إحساس يكون مركزه وجدان الضمير ، وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أُختها ، فأمّها إحداهما فإنّها تنقّب عن الحقّ لمعرفته أوّلاً ، وللعمل به ثانياً ، وأمّا الأُخرى فإنّها تحاول تسجيل أحاسيسها بما في الأشياء مِن لذّة وألم ، ومتعة وغذاء للنفس .
والبيان التامّ هو الذي يوفّي لك للحاجتين جميعاً ، ويطير بنفسك بكلا الجناحين ، فيؤتيها حظّها من الفائدة العقلية ، إلى جنب إيفائها متعة الوجدان وإشباع غريزتها في عواطف الإحساس .
أمّا الحكماء فإنّما يؤدّون إليك ثمار عقولهم غذاء لعقلك ، ولا يهمّهم جانب استهواء نفسك ونهم عاطفتك ، يقدّمون حقائق المعارف والعلوم ، لا يأبهون لِما فيها من جفاف وعري ونبوٍّ عن الطباع .
وأمّا الشعراء فإنّما يسعون إلى استثارة وجدانك وتهييج عواطفك وأحاسيسك ، وإمتاع سمعك وضميرك ، فلا يبالون بما صوّروه لك أن يكون غيّاً أو رشداً ، وأن يكون حقيقةً أو تخيّلاً ، فتراهم جادّين وهم هازلون ، يستبكون وإن كانوا لا يبكون ، ويُطربون وإن كانوا لا يَطربون {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 224 - 226] وكلّ إنسان حينما يفكّر فإنّما هو فيلسوف ، وكل إنسان حينما يحسّ فإنّما هو شاعر ، ولا تتكافأ القوّتان ، ( قوّة التفكير وقوّة الوجدان ) ، وكذا سائر القوى النفسية على سواء ... ولو مالت هذه القوى إلى شيء من التعادل عند قليل من الناس فإنّها لا تعمل في النفس دفعة وبنسبة واحدة ، بل متناوبة في حال بعد حال ، وكلّما تسلّطت قوّة اضمحلّت أُخرى وكاد ينمحي أثرها ، فالذي يُنهمك في التفكير تتناقص قوّة وجدانه ، والذي يسعى وراء لذائذه عند ذاك تضعف قوّة تفكيره وهكذا لا تقصد النفس إلى هاتين الغايتين قصداً واحداً أبداً {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] .
وكيف تطمح أن يهب لك إنسان مثلك هاتين الطلبتين على سواء وهو لم يجمعهما في نفسه على سواء ، وما كلام المتكلّم إلاّ انعكاس الحالة الغالبة عليه ، ( وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح ) ، {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } [الإسراء: 84] وفاقد الشيء لا يستطيع أن يمنحك به .
هذا مقياس يمكنك أن تتبيّن فيه ما لكلّ لسان وما لكلّ قلم مِن قوّة غالبة عليه ، حينما ينطق وحينما يكتب ، فإذا رأيته يتّجه إلى حقيقة فرغ له بعد ما قضى وطره ممّا مضى ... عرفت بذلك أنّه يضرب بوترين ، يتعاقب على نفسه الشعور والتفكير تعاقب الليل والنهار لا يجتمعان .
وأمّا أنّ أُسلوباً واحداً يتّجه اتّجاهاً واحداً ، ويستهدف هدفاً واحداً ، ويرمي إلى غرض واحد ، ولكنّه مع ذلك قد جمع لك بين الطريقتين : إقناع عقلك وإمتاع نفسك معاً ، وفي آنٍ واحد وفي كلام واحد ، كما يحمل العنصر الواحد من الشجرة الواحدة أوراقاً وأثماراً ، أنواراً وأزهاراً ، معاً ، أو كما تجري الروح في الجسد والماء في العود الأخضر ... فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر على الإطلاق ، ولا هو من سُنن الله في النفس الإنسانية ... {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4].
فمِن أين لك بكلام واحد وبيان واحد وأُسلوب واحد ، يفيض عليك من الحقيقة البرهانية والدلائل العقلانية ، بما يرضي أُولئك الفلاسفة الحكماء ، والمتعمّقين النبلاء ، ويرضخ بعقولهم الجبّارة .
وإلى جانب ذلك ـ وفي نفس الوقت ـ يضفي عليه من المتعة الوجدانية والعذوبة والحلاوة والطلاوة ، ما يسدّ فَهمَ هؤلاء الشعراء المرحين وأصحاب الأذواق الرقيقة الفكهين .
ذلك هو الله ربّ العالمين ، الذي لا يشغله شأن عن شأن ، القادر على أن يُخاطب العقل والقلب معاً بلسان واحد ، وأن يخرج الحقّ والجمال جميعاً ، يلتقيان ولا يبغيان ... فيستخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ... ويسقيك من هذا وذاك شراباً طهوراً ، عذباً فراتاً ، سائغاً لذّةً للشاربين .
هذا هو الذي تجده في كتاب الله الكريم ، حيثما توجّهت وأينما تولّيت بوجهك ، إنّه في فسحة قَصَصه وأخباره عن الماضين ، لا ينسى حقّ العقل من حِكم وعِبر ، وأنّه في مزدحم براهينه ودلائله ، لا يغفل حظّ القلب من رغبة ورهبة وشوق ورجاء ، يبثّ ذلك بوفرة شاملة ، في جميع آياته وبيّناته ، في مطالعها ومقاطعها وتضاعيفها ، الأمر الذي {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] ، و {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13، 14].